جنوبيون يسلّقون “العلت” ويحضّرون “العصُّورة” تحت النار

في القرى الجنوبيّة المحاذية للحافّة الأماميّة عند الحدود مع فلسطين المحتلة، يجول الناس في الحقول، “يسلّقون” الهندباء البرّيّة أو ما يُعرف بـ”العلت” على لسان أهل القرى هناك، لا سيّما كبار السنّ منهم، وذلك، على رغم الأوضاع الأمنيّة المتردّية، حيث لا تغادر الـ “درون” سماء الجنوب وتجوب الطائرات الحربيّة الفضاء، وتتواصل الاستهدافات الإسرائيليّة شبه اليوميّة منذ إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وحتّى اليوم.
أكلة “العصّورة”
التسليق في عرف القرويّين والفلّاحين وفئات شعبيّة هي عمليّة متوارثة تتولّاها النساء وربّات البيوت بشكل خاص، بحثًا في الحقول غير المزروعة عن أعشاب برّيّة وبُقول يأكلها الناس بعد سلقها وطبخها أو أنّها تؤكل نيّئة، ومنها: العِلت، أيّ الهندباء، و”القُرَّة” و”العَنّة” و”الحُمَّيض” و”الشومر” والخُبَّيز” و”الجرجير” والدردار وغيرها، وتُعتبر ذات فوائد غذائيّة كبيرة وشهيّة كونها تنبت وحدها من بذورها السالفة وتتغذّى من أمطار السماء ولا تطالها المواد الكيماويّة. و”التسليق” مشتق من كلمة تعود إلى نبات اسمه “السليقة” ينمو في البراري، ويعتمد على كمّيّة الأمطار المتساقطة في الشتاء.
وتنبت عشبة “العلت” وتنمو في الحقول البكر وعلى جوانب السواقي، ويشبه نباتها إلى حدّ كبير نبتة الروكّا، وقد اعتاد أهالي الجنوب والبقاع “تسليقها” من البرّيّة في فصل الربيع، ومن ثمّ تنظيفها وغسلها. تؤكل نيّئة خضراء أو مسلوقة بمياه حارّة لتحضير طبخة “العصّورة” (نسبة إلى عصر الخضار من الماء بعد سلقها) التي يتمّ إعدادها مع قليل من زيت الزيتون والبصل المقليّ “جوانح”، وتضيف بعض ربّات البيوت إليها عشبة الحمّيض البرّيّة خلال سلقها، وفي الأخير يضاف إليها الملح عصير الحامض.
ومن يعبر قرى وبلدات الجنوب، في مثل هذه الأيّام، يشاهد العلت البرّيّ معروضًا للبيع على “بسطات” وضعت بجانب الطرقات، مع الفول واللوز الأخضر. ويؤثره كثيرون على المزروع في أرض مفلوحة، ويُعد مرغوبًا من سكّان المدن.
مواسم الرزق
فاطمة عباس (55 سنة) واحدة من نساء جنوبيّات كثيرات، اعتادت الخروج إلى البرّيّة في موسم العلت، على نحو مواسم العيزقان (المريميّة أو القصعين) والزوفا والغار والصعتر وغيرها، في قريتها كفرا الجنوبيّة. وتقصد كذلك قرى مجاورة مثل: صرُبّين ورْشاف والقوزح، وأخرى بعيدة قليلًا، مثل: عيتيت ووادي جيلو، حيث تتوافر بكمّيّات أكبر، وذلك، برفقة زوجها هاشم (62 سنة).
تقول فاطمة لـ “مناطق نت”: “نحن كأبناء فلّاحين، نُعلّت منذ الصغر. دأبت والدتي على إعدّاد وجبة العصّورة لنا، طوال حياتها، كبرتُ وتزوّجت وبتّ أفعل مثلها، أعدّ وجبة العصّورة لأطفالي، لبساطتها ومذاقها الطيّب، وكذلك لغياب كلفتها المادّيّة؛ إذ نتكبّد عناء البحث عنها ليس أكثر”.

تجمع فاطمة يوميًّا كمّيّات كبيرة، تضعها في أكياس “الجنفيص”، تبيع القسم الأكبر، وتُبقي بعضها للعائلة. تُخبرنا عن الإقبال الكثيف على مثل هذه النبتة “أبيع الخضراء منها لأهل القرية والأقارب، توصي بعض ربّات البيوت على أكلة “العصّورة” جاهزة، خصوصًا من لا تجيد صنعها أو لا تجد الوقت الكافي لذلك. وما يبقى من محصولنا اليوميّ، يحمله زوجي معه إلى المحموحة (مدخل الضيعة) ويبيعها هناك”.
يُشكّل ما يجنيه الزوجان من بيع هذه النبتة مدخولًا موسميًّا لهما، ومن خلاله يتمكّنان من رعاية أولادهما، إضافة إلى ما يحصّلانه من المواسم الأخرى. ويتمكّنون كذلك من صناعة المؤونة البيتيّة كي تكون حاضرة للاستهلاك في فصل الشتاء.
مُختلف هذا الموسم
تقول فاطمة: “بتنا نعرف أين نجدها، كنا نقصد أماكن كثيرة، في نقاط محدّدة، تتواجد فيها النبتة بكثافة”، لكن الحرب جعلتها تخاف من التنقّل بين البلدات والقرى. “مُختلف هذا الموسم، نخاف أن يصيبنا مكروه” تقول وتردف: “فالدرون تتسمّر فوقنا، وهدير الطيران الحربيّ يملأ المكان، والإسرائيليّون لا أمان لهم، لذا باتت حدودنا القرية، لا نخرج منها إلى قرى مجاورة”. وسبق أن استهدف الجيش الإسرائيليّ زوجين كانا في البرّيّة بالقرب من جبّانة كفرا، كانا قد خرجا من أجل قطاف قليلًا من الصعتر.
يُعدّ سعر العلت منخفضًا مقارنة بأسعار السلع الغذائيّة الأخرى، وكذلك لأنّه موسميّ، ويتراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين 250 ألفاً و300 الف ليرة لبنانيّة
طعام الفقراء والأغنياء
أمّا عن الأسعار، فتروي فاطمة كيف تبدّلت “هي غير ثابتة، ترتفع وتنخفض بحسب نظافة النبتة، وإمكانيّة الشاري المادّيّة”. وتقول إنّها تتعاطف مع أبناء القرية ممّن يعانون من ظروف معيشيّة صعبة، خصوصًا بعد النزوح الذي ترك أثرًا كبيرًا على أبناء الجنوب كما البقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت.
ويُعدّ سعر العلت منخفضًا مقارنة بأسعار السلع الغذائيّة الأخرى، وكذلك لأنّه موسميّ، أيّ يتوافر خلال مواسم دون أخرى، وبالتالي يقبل الناس على تناوله، في أواخر الشتاء وأوائل الربيع وفي مثل هذه الفترة من السنة.
ويتراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين 250 ألفاً و300 الف ليرة لبنانيّة، وترتفع الأسعار في حال كان مطبوخًا ومعدًا للطعام الفوريّ، أي “عصّورة”. إذ يتمّ تنظيف نبتة العلت وغسلها وسلقها بمياه حارّة ومن ثمّ تعصيرها وبيعها بعلب بلاستيكيّة.
إعتدنا التنزه و”التعليت”
وتعيش نساء كثيرات في الجنوب، مشاعر ممزوجة بالخوف والقلق عند الخروج إلى البرّيّة. و”آمال” السيّدة الستينيّة واحدة منهنّ، تقول لـ “مناطق نت”: “أمس ذهبت وشقيقتي وصديقات لنا إلى البرّيّة، ضمن نطاق قريتنا شقرا، إلى الحقول حيث تنتشر نبتة العلت، إذ نخاف الابتعاد أكثر كما كنّا نفعل في وقت سابق”، وتضيف: “حتّى إنّنا لم نفكّر بالوصول إلى أطراف القرية خوفًا من إمكانيّة استهدافنا”.

وعن مواسم “العلت”، تروي آمال كيف اعتادت جلب هذه النبتة خلال التنزه مع والدتها وصديقاتها مذ كانت صغيرة جدًّا، فتقول: “بالأمس فعلت ذلك أيضًا، أحضرت معي كيسًا من العلت، وقمت بتجهيز طبخة عصّورة، أعطيت جزءًا منها لشقيقي وآخر لجارتي، وبقيت لدي كمّيّة”.
حقول مزروعة بالخطر
كذلك يخاف الناس من مخلّفات القصف في خلال تجوالهم في الحقول، تقول هيثم (60 سنة): “نقصد أماكن قريبة بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، أهدي بعضها إلى الأحبة والأقارب، مثلما أفعل منذ عقود. لكنّني اليوم أخاف من احتمال انفجار أيّ جسم غريب، إذ لا يتوانى الإسرائيليّون عن رميها في البراري، وسبق أن سقط مواطنون من انفجارات حدثت في الحقول بينما كان يسلّقون أو يتجوّلون”. وكانت المناطق الجنوبيّة، وخصوصًا القرى الحدوديّة والمحاذيّة لها، قد شهدت قصفًا عنيفًا خلال أيّام الحرب الـ 66.
وعلى رغم ذلك يُقبل الناس على تناول نبتة العلت ولا يعبأون إذا ما كان القصف المتواصل بقذائف مختلفة ومنها الفوسفوريّة قد لوّثتها أم لا. ويسلّم كثر ممّن قابلتهم “مناطق نت” بأنّ مجرّد تنظيف وغسل النبتة ووضعها في مياه على درجة حرارة مرتفعة، كفيلة بتخليصها من أيّ تلوّث، وأن لتساقط الأمطار دورًا أساسيًّا في تنظيف التربة.
نباتات ربّما لوّثها القصف
وفي هذا الخصوص تقول نائب رئيس جمعيّة المستهلك ندى نعمة لـ “مناطق نت” إنّ “تناول مثل هذه النباتات يشكّل خطرًا على الناس، بسبب القصف الإسرائيليّ الذي يحتوي على موادّ نجهلها، ربّما تكون من المعادن الضارّة والمسمة، وهذه المواد تبقى في الأرض لتعود وتمتصّها النبتة التي يقطفها ويتناولها الناس كطعام، وبالتالي في حال كانت التربة ملوّثة، فإنّ هذا الأمر يظهر على الورقيّات”. وعن تأثير مثل هذه المواد على صحّة الناس، تضيف نعمة أنّ “تأثيرها يظهر على المدى البعيد، مثل التشوّهات الخلقيّة، والأمراض السرطانيّة وغيرها كثير، لذا يُفضّل عدم تناولها”.
وتلفت نعمة إلى أنّه “لا يجب لوم الناس ممّن اعتادوا على التعليت من البرّيّة، إذ كان يفترض على الوزارات المعنيّة تحمّل مسؤوليّاتها وإجراء مسح شامل وفحوص مخبريّة لتحديد الأماكن الملوّثة من أجل أن يبنى على الشيء مقتضاه؛ وأقلّه تحذير الناس”. وتختم بالدعوة إلى ضرورة إجراء مسح لكلّ الأراضي الزراعيّة التي تعرّضت للقصف الإسرائيليّ في الجنوب والبقاع أيضًا، وتحديد الأماكن الخطرة وتلك التي يسمح بزراعتها، بعد إجراء الفحوص اللازمة.