جنوبيّات نازحات في صور..يزرعنَ ويحصدنَ ويطهينَ من إنتاجهنّ
انتهت الحرب، هكذا نصّ اتّفاق وقف إطلاق النار على هشاشته وخروقاته، لكنّ النزوح لم ينتهِ، وحكاياه أيضًا وتحديدًا تلك المتعلّقة بالنساء اللواتي يصنعن من معاناته قصصًا تحاكي أيديهنّ المجبولة بالتعب والعرق والسهر. نساء ما زلنَ نازحات هنا في أحد مراكز الإيواء في صور، هنّ من قرى الحافّة الأماميّة التي لم نعد نعرف عنها شيء، وقد سوّت إسرائيل معظم بيوتها بالأرض. نساء مزارعات وربّات بيوت، حفرنَ في جدار النزوح كوّة أمل ليخفّفن عنهنّ وعن عائلاتهنّ ما تيسّر من قهر وعذاب، فيزرعون الأرض ويحصدون نتاج تعبهنّ، ولا يزلنَ يزرعن ويأكلن.
نتحدث هنا، عن نساء جنوبيات واجهن النزوح بالعمل، من خلال مشروع زراعي انخرطن به، وهو عبارة عن استصلاح قطعة أرض تابعة لمهنية صور الرسمية مساحتها عشرة دونمات، زرعنها بشتى أنواع الزراعات الموسمية، وعملنَ بها مداورة بحيث تعمل حوالي 25 سيدة مدة 40 يومًا، على أن يتم تبديلهنّ بمجموعة ثانية إفساحًا في المجال أمام غيرهنّ من النساء النازحات للانخراط في العمل والاستفادة من المشروع.
النساء اللواتي انخرطن في المشروع عملنَ على حراثة الأرض وإعدادها وزراعتها ومتابعة الشتول حتى تطل بواكيرها، لتبدأ مرحلة التسويق، وصولًا إلى إمكانية مأسسة مبادرتهنّ وتعميمها.
بدأ مشروع استقطاب النساء النازحات والمقيمات، في مركز الإيواء في مدينة صور، على تدريبهنّ حول كيفيّة الزراعة بطرق بيئيّة وطبيعيّة سليمة. وبالفعل بدأت النساء الزرع قبل نحو سنة، وأكملن في هذا المشروع وتعلّمن تصنيع المؤونة، أيّ تحويل الإنتاج الزراعيّ إلى “مونة” بيتيّة، بهدف الاستفادة من المنتجات الغذائيّة لتلبية حاجات عائلاتهنّ، وها أنّهنّ اليوم يطهين من إنتاج الأرض وجبات ساخنة لألف نازح ونازحة في مراكز الإيواء في صور.
لقد تأمّنت الظروف المؤاتية لانطلاق المشروع أوّلًا، ونجاحه تاليًا، بدعم اتّحاد بلديّات قضاء صور، من خلال توفير الأرض والمساهمة في رفده بمقوّمات الاستمرار، فضلًا عن الجهات المانحة، فالمشروع لا يقتصر على الزراعة وإعداد المؤونة فحسب، بل هناك مطبخ تديره النساء العاملات، وهو قائم في مركز الاتّحاد، ويقمنَ بإعداد الطعام للنازحين في نطاق حدّده الاتّحاد، من خلال ما زرعنه، وفي سياق المشروع عينه.
مع العاملات
“مناطق نت” التقت عاملات في هذا المشروع، ووقفت على تجربتهنّ بما تمثّل من قيمة مجتمعيّة في ظلّ ظروف صعبة فرضتها الحرب، نزوحًا وتهجيرًا، وأساسها التعاون في سياق مواجهة المستجدّ والذي بدّل من حياتهنّ، فلم يرضخنَ لواقع الحال، وإنّما نهضنَ بما يختزنّ من قدرة على المواجهة، فإذا بهنّ، وبدلًا من أن يكنّ عبئًا على المجتمعات المضيفة، أصبحنَ منتجات يرفدنَ المجتمعات عينها بمقوّمات الحياة.
تجديد الزراعة لموسم آت
زينب مهدي (نازحة من الناقورة إلى أحد مراكز الإيواء في مدينة صور) هي واحدة من المشاركات في المشروع منذ بدايته، تقول لـ “مناطق نت”: “خلال فترة الحرب اضطررت للنزوح إلى مكان آخر خارج المدينة ومن بقي من المشاركات حصدنَ الموسم واهتممنَ بنثر بذور جديدة تحضيرًا للموسم الشتويّ”.
بدأ مشروع استقطاب النساء النازحات والمقيمات، في مركز الإيواء في مدينة صور، على تدريبهنّ حول كيفيّة الزراعة بطرق بيئيّة وطبيعيّة سليمة. وبالفعل بدأت النساء الزرع قبل نحو سنة، وأكملن في هذا المشروع وتعلّمن تصنيع المؤونة
مهدي أشارت إلى أنّ “في خلال فترة الحرب تمّ طبخ منتجات الموسم الصيفيّ وتوزيعها كوجبات وخضار طازجة على من بقي في مراكز الإيواء، وكذلك تم حفظ البذور لمواسم مقبلة. اليوم نقوم بزراعة القرنبيط والملفوف والخسّ والبصل والحشائش”. وتضيف: “نتابع الزراعة من دون استعمال الأسمدة الكيميائيّة، ونستفيد من بدل يوميّ قيمته 12 دولارًا”. لافتة إلى أنّ “تركي لأرضي لم يكن بالنسبة لي أمرًا سهلًا، خصوصًا أنّني في الأصل مزارعة وهذا المشروع منحني الراحة وجعلني أشعر بأنّني فاعلة ومفيدة في مكان نزوحي”.
فرصة عمل وخبرة
لينا المصطفى من بلدة البستان (نازحة إلى أحد مراكز الإيواء في صور منذ سنة وشهرين)، تقول لـ “مناطق نت”: “استفدت من المشروع بالتأكيد، فهو وفّر لي فرصة عمل ولو بمبلغ زهيد”. وتتابع: “بعد التهجير خسرت عملي وأنا مسؤولة عن أهلي، وهم من كبار السنّ، أعيلهم بما أنتجه، متطلّبات الحياة كثيرة حتّى وإن كنّا نقطن حاليًا في مركز إيواء”، وأشارت إلى أنّها “سعيدة بهذا العمل والخبرة”، وترددف: “اكتسبت سابقًا منذ أربع سنوات خبرة من خلال عملي في مطابخ قوّات (اليونيفل) وها أنا أستفيد منها في عملي اليوم”.
مطبخ الاستدامة
كثيرة هي قصص النساء العاملات في المشروع، منها قصّة منيفة عيديبي التي تملك مطبخًا خاصًّا للولائم والمناسبات. نزحت عيديبي مع توسّع رقعة الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي مع عائلتها إلى أحد مراكز الإيواء في صور، وهناك انخرطت في المشروع، وهي تشرف اليوم على المطبخ. تقول عيديبي لـ “مناطق نت”: “أحضرت أدوات الطهي من مطبخي الخاص، وبقيت وعائلتي في مركز الاتّحاد لخدمة العائلات النازحة”.
تتابع عيديبي: “أقدّم اليوم خبرتي وعملي وجهدي، وقد استطعنا مع السيّدات العاملات في الزراعة والطهي أن نحقّق نجاح هذا المشروع، ونحقّق أيضًا هدف الاستدامة، وبالتالي فإنّ دعم السيّدات العاملات في المشروع يساعد على صمود النازحين في مراكز الإيواء والاكتفاء الذاتيّ لجهة تأمين وجباتهم اليوميّة من الأرض، وكذلك توفير بعض المصروف ليساهم في صمودهم”.
لتخفيف المعاناة النفسيّة والمادّيّة
من جهتها تقول سامية موسى من بلدة البستان، لـ “مناطق نت”: “بدأت منذ شهرين في العمل ضمن هذا المشروع، تعلّمت الزراعة، واليوم أعمل في الطهي وأعتبر هذه التجربة ناجحة لأنّها أصابت أهدافها في التخفيف من معاناتنا النفسيّة والمادّيّة، وجعلتنا نشعر بأنّ لنا أهمّيّة من خلال خدمتنا جميع النازحين من أهلنا وجيراننا في مراكز الإيواء”.
فرص عمل للنازحات
يُؤمّن المشروع الزراعيّ المموّل من الـ UN Women تحت إشراف اتّحاد بلديّات صور والحركة البيئيّة الزراعيّة في لبنان وجمعيّة Initiates، فرص عمل للنازحات في مراكز الإيواء في صور، وهو مخصّص للراغبين بالعمل في الأمور البيئيّة أو الزراعيّة، بحيث يعمل كلّ من يرغب مدّة أربعين يومًا لقاء بدل مادّيّ قدره 12 دولارًا في اليوم الواحد. هذا المشروع جعل ممّن يعملون فيه أشخاصًا منتجين وجزءًا من المجتمع، لهم دخلهم الخاصّ ولا يشعرون أنّ هناك من يتصدّق عليهم بالمال.
الجدير ذكره أنّ المشروع طالبت به الدكتوره عناية عزّالدين، من خلال المنظّمات الدوليّة، بصفتها المنسّقة الوطنيّة للتحوّل في النظم الغذائيّة، كرابط مشترك بين عمليّات الإغاثة والتنمية المستدامة، وقد تبنّت هيئة الأمم المتّحدة للمرأة فكرة المشروع وموّلته سفارة النمسا.
يبقى التحدي، فهل تتحوّل هذه المبادرة إلى مؤسّسة غير مرتبطة بمشاريع تمويل وتؤمّن ديمومتها الذاتية؟ أي أنّ إمكانية تأسيس جمعيّة أو تعاونيّة زراعيّة وبيئيّة باتت واردة انطلاقًا من أنّ نواتها حاضرة، بين اللواتي حقّقن نجاحًا في ميادين الزراعة البيئيّة، وكرّسن الاستدامة، ممّا يتيح المجال للإستفادة من الخبرات في مجالات الإنتاج والتسويق.