جوزف حرب الشاعر النبيل المتمرّد على الظلم والإملاءات
لعب الفقدان دورًا بالغًا في ثورة روح الفتى جوزف حرب، عانى من آلامه ووجعه، من فقدان الأمكنة التي ما أن يبدأ يرتبط بها حتّى ينسلخ عنها مرغمًا منتقلًا إلى مكان آخر، بما يفرضه عمل الوالد في الخدمة العسكرية. وفقدان وجوه أحبّها، تعلّق بها ثم انطوت وهو في غاية الشوق إليها، وفقدان قصائد الطفولة والشباب، إذ كان يمزق أوراقها والده إتقاءً لفكرة أن يغدو ابنه شاعرًا فقيرًا، ثمّ احتراقها، وفقدان المكتبة التي أمضى زمنًا مديدًا يجمع مخطوطاتها وكتبها النادرة والمتسلسلة، فنُهبت وأُحرقت.
كان الفقدان بوابة جوزف حرب الواسعة على التمرّد والانتفاض، وظهر هذا لاحقًا في أشعاره وأبياتها، بالعربية الفصيحة وبالمحكيّة، ولنقرأ له ما سمعناه بصوت فيروز البيت العامّي الأجمل من قصيدة أسوارة العروس: “اللّي حامل عا كتافُه زيتونْ وسنابلْ قلعة بحر صُوْر وصخرة جبل عامل، ما بيقدِر يحمل ظالم..”؛ أو في قصيدته الرائعة من قلبي سلام لبيروت وما فيها من حبّ ووجع ووعد: لبيروت، لصخرةٍ كأنّها وجهُ بحّارٍ قديم، أنتِ لي، آهِ عانقيني أنتِ لي، رايتي وحجرُ الغد وموجُ سفرٍ، أزهرتْ جراحُ شعبي أزهرتْ…”.
شاعر تمرّد على الموت
في ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله، سأعود في استنادي إلى ثورات الشاعر جوزف حرب ومحطات الفقدان في حياته، إلى حوار مطوّل أجريته معه في العام 2010، وكان آخر حواراته الإعلاميّة والصحافيّة، إذ أوصد بعده الأبواب التي كانت تفضي نحو الأمسيات واللقاءات الشعريّة وحتّى الثقافيّة والحواريّة، ثمّ سكن في الظلّ، وانكبّ يكتب ويكتب متحدّيًا الموت، وقد بدأ يشعر بدنوّه شيئًا فشيئًا، وتباعًا أخذ يأكل من داخل جسده فنحُل وضمُر، إلى أن استسلم له في التاسع من شباط/ فبراير 2014، مغمضًا عينيه في صومعته الأخيرة، في بلدته المعمريّة قرب صيدا.
في السنوات الأخيرة، مارس الشاعر طقوس “مقارعة الموت” بالقصيدة والكلمة؛ في وقت كان ينضح فورانًا فكريًّا، ويبحث عن وقت إضافيّ للكتابة، يسرقه، ساعيًا إلى الموازنة بين الزمن العادي وبين الفوران، فيقول: “أخشى أن يكون هذا الفوران بحاجة إلى وقت أطول. أنا وقعت بتحدّ ربّما أجّج هذا الإحساس داخلي؛ هو أنّني كتبت نصوصًا شعريّة كاملة وليس مجموعة قصائد فقط”. وليبعد سطوته قليلًا، أهدى جوزف حرب الموتَ أضخم دواوين التراث العربيَ، تحت مسمّى “المحبرة” من نحو 1750 صفحة صدر سنة 2006.
لم يدركِ الصباحُ شاعرَه
يوم الاثنين في العاشر من شباط، لم يدرك الصباحُ شاعرَه، فغادر عريس الجنوب النبيل جوزف حرب القصيدة والحياة، وسبعين عامًا أمضى جلّها نجمًا في كتابة الشعر وطباعة الدواوين والحوارات التلفزيونيّة والأمسيات والمسلسلات والحلقات الإذاعيّة والكتب التعليميّة.
على صوتها الأحبّ، فيروز، واستهلالًا بأسوارة العروس، سار جوزف حرب مشواره الأخير خلف نعشه، على دروب ضيعته المعمرّية. كان حفل وداعه وتشييعه حفل زفافه الذي تأخّر عمرًا ولم يأتِ، في نعش ممهور بوسام استحقاق جمهوريّ من رتبة فارس منحته إيّاه الجمهوريّة اللبنانيّة.
ولد جوزف حرب سنة 1944 في الناقورة قرب الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، قبل أربع سنوات من نكبة الأخيرة. كان والده دركيًّا، وكانت خدمته العكسرية آنذاك في الناقورة؛ هكذا أخوة جوزف ولدوا، كل واحد منهم في مكان مختلف، فإحدى شقيقاته ولدت في صور، والأخرى في منطقة جبيل.
فقدان الطفولة الأول
في تلك الفترة وصلت العائلة إلى جبيل، “وضعنا والدي أنا وأختي بمدرسة داخليّة عند راهبات القلبين الأقدسين في جبيل؛ وبقينا 4 سنوات. كنت الصبي الوحيد بالدير بين مجموعة كبيرة من البنات، لأنّ الراهبات ما كنّ ليقبلن في القسم الداخلي إلاّ البنات. قبلوني وجعلوني في غرفة واحدة مع أختي، وكان في الغرفة برداية (ستارة)، وخلف البرداية كان هناك سرير لراهبة، وهنا بدأ عندي تكوين الأسئلة الأولى”.
جوزيف حرب: وضعنا والدي أنا وأختي بمدرسة داخليّة عند راهبات القلبين الأقدسين في جبيل؛ وبقينا 4 سنوات. كنت الصبي الوحيد بالدير بين مجموعة كبيرة من البنات، لأنّ الراهبات ما كنّ ليقبلن في القسم الداخلي إلاّ البنات.
ويتابع حرب: “أذكر أنّني في الليل كنت أدخل لعند الراهبة، وكانت تبقى في سريرها دائمًا، فاكتشفت أنّها مريضة؛ وكانت تجمع لي الشوكولا وأطعمة وتغمرني مرّات وتبكي؛ بشكل أنّها حفرت فيَّ صورة من المستحيل أن يستطيع الفرد نسيانها أو يقدر. أحببتها كثيرًا وكانت بديلة عن أمّي التي كانت هي الأخرى مريضة بالقلب، كنت بحدود سبع سنوات (1951) يوم ماتت الراهبة بسبب مرضها؛ حزنت كثيرًا، ولاحقًا في ديوان “شيخ الغيم وعكّازه الريح” كتبت لها قصيدة”.
تمرّد على نصوص التخويف
جعلت بعض القراءات الدينيّة، جوزف حرب يتمرّد على إقامته في الدير “وكان فيها نوع من النصوص عن القدّيسين أو الله، كيف يقاصصون من يخطئ، من جملة هذه الصور، مركب مثقوب ومجموعة من الشياطين، يجذّفون بأذنابهم، وأشكال الشياطين لهم قرون ولهم أياد قريبة من أيدي القرود، ووجوههم وجه الذئب، هذه الصور، وأنت طفل، تحملها إلى سريرك، تغمض عينيك، تجرّب أن تنام ولا أحد إلى جانبك، فكان الملجأ في هكذا حالة، الإحساس بحضور أمّي، كثيرًا ما كان يغلب عليّ، لو أنّ الواحد يترك الدير نهائيًّا ويلجأ إلى أمّه”.
لم يلتجئ الطفل إلى أبيه، لأنّ والده كان أكثر جدّيّة وكانت عنده رغبة شديدة في أن يتعلّم أولاده، كان يعتبر أنّ العلم انتقام من الفقر، “من شعورك أنّك أنت إنسان مرؤوس، وهناك مجموعة رؤساء فوق منّك وأنت عليك أن تنفّذ الأوامر. فضلًا عن العذاب الطويل، سنويًّا، ينقلونه من مطرح إلى مطرح، وتراه يبدأ البحث عن بيت جديد للإجار، يحمل الأغراض في كميون، وتنطلق الشاحنة بنا إلى مكان آخر، وبعد سنة إلى مكان ثان، إلى أن وصلنا إلى البترون، ثمّ بعدها إلى المريجة، فبرج البراجنة وغيرها”.
الحرّيّة ليست مجتزأة
برأي جوزف حرب أنّ فترة الطفولة عند كلّ إنسان هي الفترة الوحيدة التي يشعر فيها بالحرّيّة. يقول: “قبل أن تتجاوز السابعة تبدأ أدوات القمع من المدرسة، من طرق التربية، من طرق التعليم، من العادات والتقاليد. قبلها مهما فعلت، حتّى لو كسرت أيّ شيء يضحكون لك، حتّى أنّهم يعلمونك كيف تسبّ، ويغشون من الضحك. بعدها لاحقًا حتّى أنّ الشتيمة ذاتها، عندما تبدأ بترك طفولتك يضربونك بسببها”.
ويعتقد أنّ “الجزء من فترة ما يسمّى الحرّيّة التي ملكتها عبر حواسك الخمس، ليس عبر نضوجك الفكريّ، بل هي الفترة الوحيدة التي تمتّعت فيها بحرّية كاملة، وهي الحالة الوحيدة التي ترافقك كلّ حياتك، وإلى حدّ ما تساعدك على أن يكون عندك نوع ما من التحصين في سبيل أن تبقى حرًّا؛ وهذا أكثر ما يظهر عند الفنّانين وعند الكتّاب خصوصًا، لأنّه لا يمكنك أن تكتب نصًّا بحرّيّة مجتزأة، لأنّك تحتاج إلى حرّيّة كاملة لكي يمكنك التعاطي مع النص”.
الوالد يقطع والأمّ تجمع
اكتشف جوزف حرب المطالعة باكرًا في منطقة جبيل، قرأ “التأمّل” و”رسالة القدّيس بولس” واقترب جدًا من القراءة والكتابة بالعربيّة وبشكل أكثر تفوّقًا من الآخرين. “عندما نزلت إلى بيروت، كنت قد صرت متمكّنًا من عمليّة علاقتي بالكتاب. أخذت النقود من والدي، لأنّ الأرصفة كانت، وخصوصًا نهار الأحد، على ساحة البرج، تضع كتبًا للبيع، فأشتري بما معي من نقود كتبًا وآخذها معي إلى البيت، فبدأت فكرة تأسيس نواة مكتبة”.
لم يرغب والد جوزف حرب في أن يكون ابنه كاتبًا أو شاعرًا، “وكلّ ما كنت أكتبه كان يمزّقه، وكلّ شيء يمزّقه كانت أمّي تضعه في كيس، تحتفظ به وتخبّئه لي، حتّى صار عمري 20 سنة”. في هذا الوقت درّس جوزف الشاب عند الراهبات الأنطونيّات في الدكوانة (1964) اللغة العربيّة وكان تلامذته راهبات وليس تلامذة عاديين.
في بيروت التقى بأستاذه في راهبات البترون الدكتور ميشال سليمان، وكانت له علاقة مع الشيخ عبدالله العلايلي والأديب رئيف خوري، “فتعرّفت إليهما من خلاله، وكبرت في رأسي القصّة، لأنّني إذا عدت إلى البيت حتّى أكتب سأتخانق (أتشاجر) مع أبي، وقلت: يا صبي خذّ مكتبًا مستقلًّا، وأخذته إلى جانب مكتب رئيف خوري، في بناية “المونو بّالاس” ودخلت في جوّ مجموعة من الأدباء، لأنّ رئيف خوري كان قطبًا، يستقطب مجموعة كبيرة من المفكّرين، واقتربت من الشيخ عبدالله العلايلي وصارت علاقتي معه جميلة جدًّا”.
اليساريّة والأجنحة الطويلة
رئيف خوري وعبدالله العلايلي وميشال سليمان والأب مطانيوس منعم، أسماء يساريّة، جعلت الشاعر الشابّ يميل لليسار، “ولعدّة أسباب، كأسباب خاصّة، منها أنّ أبي مرّة، حدثت جريمة قتل في ضيعة في منطقة جبيل، طلب منه قائد منطقة جبيل أن يقبض على القاتل، وإذا لم يقدر أن يقبض عليه، فليجمع الطرش (المواشي) في الضيعة ويبدأ بذبح الديوك والدجاج، وإذا لم يسلّموا القاتل، يبدأ بذبح الماعز والغنم، وإذا لم يسلّموا يبدأ بذبح البقر. أبي رفض هذا القرار فوضعوه في السجّن وأنا صرت أزوره في سجنه”.
جوزيف حرب: كلّ ما كنت أكتبه كان يمزّقه والدي، وكلّ شيء يمزّقه كانت أمّي تضعه في كيس، تحتفظ به وتخبّئه لي، حتّى صار عمري 20 سنة.
ويضيف: “في فترة الحبس، تعلّقت كثيرًا بأبي، ومع الوقت صرت أحسّ النبلَ بموقفه ضدّ الظلم، وكيف مارسه؛ بالإضافة إلى مرض أمّي وكيفيّة علاقتنا مع ساحة البرج. كان أبي يأتي بأمّي لعند طبيب في بيروت، ولم تكن إلّا بوسطة واحدة هي التي تأتي، فنضطرّ إلى أن نأتي فيها عبكرة (الصباح الباكر)، وننتظرها حتّى تأتي عشيّة، وأمّي جالسة على كرسيّ، وهي مريضة، وكلّ العلاج الذي يعطونها إيّاه، يزيدها مرضًا، عمليّة انتظارها حتّى تطلع البوسطة إلى الجبل؛ جعلت صورتي لساحة البرج صورة حزينة، صورة فيها نوع من إحساس انتقاميّ”.
ويقول: “من خلال معرفتي برئيف خوري وميشال سليمان دخلت بالماركسيّة كبداية إطّلاع جدّي، وقرأتها للماركسيّة بشكل وافٍ، ولم أزل حتّى اليوم ماركسيًّا، وبطبيعة الأمر لا أحبّ أن أنتمي إلى حزب، لأنّ الحزب لسانٌ طويل، والشاعر جوانح طويلة، وهناك فرق كبير بين اللسان الطويل ومن له جانح طويل”.
جبران مات من الجوع، وأنت؟
في الـ24 من عمره طبع أوّل كتاب، سنة 1960 اسمه “عذارى الهياكل”، شجّعه على الطباعة رياض حْنَين، وكان محرّرًا في جريدة “الجريدة”، وكان كذلك الناظر في المعهد الأنطونيّ. “كان يقرأ لي غالبيّة الكتابات التي أكتبها، ويسألني: لماذا لا تطبعها؟ بعدها عرّفني على آل الخليل، في مكتبة الحياة، فطبعوه. وعندما رآه والدي مطبوعًا صار يخفي عمليّة انقلابه المفاجئ نحوي، لكن، ظلّ عنده نوع من الإحساس، يقول: لا، إنّ هذا لا يطعم مصاري (نقودًا) أو خبزًا. وكلّما دقّ الكوز بالجرّة يقول لي: شو عم تعمل جبران خليل جبران؟ جبران مات من الجوع”.
صار هاجس الشاعر الشاب أن يثبت لوالده أنّ المكان الذي هو فيه، يستطيع على أن ينتج نقودًا، “لذلك علّمت في مدارس عديدة، وأدخلني رئيف خوري إلى الإذاعة اللبنانيّة، وقدّمت وقتها برنامجًا اسمه “مع الغروب” نحو سنة 1967″.
في هذه الفترة، تنامت عملية ثقافته السياسيّة، وكذلك الاجتماعّية، وتنامى عمله كثيرًا. لكن، مات رئيف خوري في تلك السنة في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 عن 54 عامًا. “كرهت المكتب، وتركته وانتقلت إلى مكتب باللعازاريّة، وبعدها أخذت مكتبًا في بناية اسمها سيتي سنتر، إلى أن اندلعت الحرب الأهليّة سنة 1975”.
الوقاحة تسقط الحرمة الشعريّة؟
في برنامج “مع الغروب”، كان حرب يكتب يوميًّا قصيدة كلاسيكيّة، “وكانت ممارسة عمليّة أكثر منها حالة إبداعيّة، كنت أكتب نصوصًا وأضعها جانبًا بسبب صعوبة الطباعة كشعر؛ وكان هناك جوّ يبني “حرمة” للمستوى الشعريّ”.
يتابع: “كنت أشعر إذا أنا نشرت كجوزف حرب من أكون أمام أمين نخلة مثلًا، أو سعيد عقل أو الأخطل الصغير (بشارة الخوري)؟ كان هناك شيء من الخجل وليس مثل اليوم؛ فثمّة من يكتب النصّ بالمقلوب ويطبع بالجِيد (المستقيم)، وبيمشي الحال. لا، كان هناك نوع من الحرمة التي لا توصف وانفقدت، ولسوء الحظ، صار البديل عنها، الوقاحة، هناك وقاحة في الطباعة”.
هبّت الحرب فطار كلّ شيء
ويضيف: “في سنة 1975، كنت قد أخذت بيتًا من أجل الزواج، كنت أعلّم في عينطورة، واستأجرت البيت في منطقة ضبيّه، فطار البيت. كنت قد أسّست مكتبة مهمّة جدًّا، ساعدني عليها الراحل عبدو مرتضى الحسيني من منطقة بعلبك، وكانت عندي أقساط شهريّة أدفعها في مكتبة أنطوان، ووصلت محتويات مكتبتي إلى 20 أو 22 ألف كتاب، وقتها؛ وبالنسبة للمكتبة جرّبت أن أعطيها جوّها الجميل، أن تكون زينتي الوحيدة، فضلًا عن أنني جمعت مخطوطات، يعني مثلًا “المجدليّة” بخطّ سعيد عقل كانت عندي، أعطاني إيّاها رئيف خوري؛ مثلًا قصيدة بخطّ أحمد شوقي، قصيدة بخطّ الأخطل الصغير، قصيدة بخطّ حافظ إبراهيم، كنت قد جمعت تقريبًا 82 نصًّا، وخطّطت أن أبروزها (في إطار) وأزيّن البيت بها، وكان عندي القسم الإسلاميّ والقسم اللاهوتي متكاملين كلّهما، وقسم التراث، وكنت قد رتبتها للمكتبة، وفجأة طارت كلّها”.
يتنهد، يسكت قليلًا، ثم يتابع: “طارت المكتبة وطار المكتب، احترق، والظاهر أنّه نهب قبل حرقه؛ والبيت الذي أخذته في ضبيّه أرسلوا لي رسالة، أنّه ممنوع عليك أن تأتي إلى هنا. أنا فلّيت (تركت) من المنطقة الشرقيّة بعد محاولة اغتيالي. ويوم استأجرت البيت في ضبيّه لم يكن يخطر ببال أحد أن هناك حربًا آتية، وسوف تأخذ هذا المنحى”.
على لائحة الاغتيالات
كانت الحرب وما حولها نذير شؤم على الشاعر الذي راح يتجلّى هنا وهناك، لا سيّما بعد إطلالته مع زياد الرحباني في البرناج الإذاعي النقديّ اللاذع “بعدنا طيبين قول الله”. محاولات الاغتيال الجسديّ للشاعر اليساري قابلته محاولات اغتيال ذاكرته المتمثّلة بمكاتب الشغل ومكتبته الخاصّة والبيوت التي سكنها.
يقول: “أنا على الصعيد الفكريّ الماركسيّ، لم أكن مقبولًا، خصوصًا عند الكتائب، فانتقلت إلى منطقة الحمراء في غرب بيروت. في ضبيّه طار البيت هناك ونُهبت المكتبة، وكان عندنا بيت في محلّة المريجة، ضرب العام 1982 بالقصف الإسرائيليّ، طبعًا كنت قد نقلت أهلي قبل أن يُضرب؛ يعني احترق البيت في المريجة، نُهب المكتب وممنوع عليّ الرجوع إلى ضبيّه، وكذلك مكتبي في السيتي سنتر احترق؛ بسبب قصف الشباب من الناحيتين وهو على التماس، إلى أن تعرّضت لمحاولة اعتقال هنا في بيتنا في المعمرية، من طرف فلسطينيّ مشبوه عادة بطبيعة تصرّفاته”.
يقول: “ثم كانت محاولة اغتيال في محلّة حرج تابت في بيروت، ومحاولة خطف وقتل في المريجة، ومحاولة اغتيال هنا في الجنوب، عند مفرق مغدوشة. عندما تعود لتفكّر في كلّ هذه الأمور مجتمعة تجدها حالة طبيعيّة؛ أن تتعرّض لهكذا أمور بسبب الوضع الذي كان قائمًا؛ وكيف كانت الأطراف داخلة في قتال، مرّات كثيرة كان عبثيًّا وأنّ الهدف الأساسيّ الذي كانوا يقاتلون في سبيله مقفل وغير صحيح، وهم مارسوا أمرًا آخر”.
جوزيف حرب: أنا على الصعيد الفكريّ الماركسيّ، لم أكن مقبولًا، خصوصًا عند الكتائب، فانتقلت إلى منطقة الحمراء في غرب بيروت. في ضبيّه طار البيت هناك ونُهبت المكتبة، وكان عندنا بيت في محلّة المريجة، ضرب العام 1982 بالقصف الإسرائيليّ.
من محاولات الاغتيال السياسيّة الأخرى، يتحدّث: “ربّما كانت محاولة خاصّة صارت معي بالحمراء، ضربوني بشلف (قضيب) حديديّ، بآلة حادة على رأسي ووقعت على الأرض وبقيت نحو أربع ساعات، بالقرب من سكني، وهي منطقة مظلمة ومقفرة، بين 1979 أو 1980”.
في الحوار لا يمكن أن تتجاهل علاقته بزياد الرحباني ووالدته السيدة فيروز، فتعود معه إلى المراحل الأولى لهذه العلاقة التي تبدّت أغنيات راقية وواسعة.
فيروز وزياد والرحابنة أنقذوا أرواحنا
تعرّف جوزف حرب إلى زياد الرحباني في الإذاعة اللبنانيّة، عندما ترك المنطقة الشرقيّة، وتعرف إلى السيدة فيروز من خلال زياد. “ومن ثمّ الأغاني التي لحّن زياد جزءًا منها. أوّل أغنية وكانت هي سبب معرفتي بالسيدة فيروز، هي “حبّيتك تا نسيت النوم”. كان الأخوان رحباني قد طلبا من زياد ست أغانٍ حتّى يلحّنها من أجل برنامج كانا يعرضانه في الأردنّ، فوافق على طلبهما شرط أن يكتب الكلمات جوزف، فكتبت 6 أغنيات من جملة هذه الأغاني: “حبّيتك تا نسيت النوم” وعندما طلع معه اللحن، أسمَعه إلى فيروز فأعجبها وكانت هذه البداية. بعدها غنت أكثر من 16 أغنية بالإضافة إلى تراتيل لها علاقة برأس السنة والميلاد”.
عن زياد يقول: “زياد مرّ وقت طويل من دون أن أراه، وأنا مشتاق له فعلًا؛ كان البلد شيئًا آخر لو لم يكن زياد موجودًا. تقريبًا ساهم في إنقاذ أرواحنا كلّنا، في المسرح والموسيقى اللذين قدّمهما. وفيروز والأخوان رحباني لعبوا هذا الدور؛ لكن كعلاقة مباشرة، زياد لعب دورًا مهمًّا؛ هو لا يحبّ الكلام عنه، ويعتبر أنّه نوع من التفنيص (الرياء)، التفخيم به لكن لا، زياد أعطانا شيئًا من التوازن والقدرة على الاحتمال”.
أنا صنيعة أبي وأمّي
في اللقاء يقرّ جوزف حرب بأنّه صنيعة والديه، فيقول: “أبي مارون حرب تربّى يتيمًا، وأخذ (تزوّج) بنتًا اسمها سميّة حرب، كان والدها إقطاعيّ كبير، سافر إلى أميركا مرّتين وأحضر معه مالًا كثيرًا، واشترى أرضًا طويلة عريضة، والشيء الرائع في والدي أنّه لم يغره أيّ شيء، من إرث جدّي، والد أمّي؛ والشيء الرائع بأمّي أنّها اكتفت بفقر والدي، لم تأخذ شيئًا من أهلها، وفي مرات كثيرة، عندما نكون على طبق نأكله، تنتظر أمّي حتّى نشبع ثمّ تأكل؛ مع أنّها كانت تستطيع أن تذبح بظفرها”.
ويتابع بشرود وكأنّها حضرت: “الشيء المؤلم جدًّا أنّها كانت لم تزل تخبّئ الأوراق التي كان يمزّقها أبي، في غرفة خزانتها، احترق البيت في المريجة واحترق كلّ شيء، المكتب، الصور وشهاداتي، وكلّ ما أملكه من ذكريات ووثائق رسميّة وغير رسميّة، كوثائق وصور، كلّها احترقت، فحّم البيت كلّه، طار الكيس وراح. قيمة الكيس هي أمي، لا قيمة أدبيّة له، يمكن أن يكون تافهًا، لكنّها ساهمت في صناعة هذا الشخص أكثر من أيّ إنسان آخر”.
وقتي ليس من حقّ أحد
حول اعتكافه نحو الكتابة ليس دونها، يقول: “من البداية أنا عندي إحساس أنّ وقتي قليل، عندما تكبر قليلًا بالعمر يزيد هذا الإحساس ويصير عندك خوف أن ينسرق جزء من وقتك ويتصرّف الآخرون به مثلما هم يريدون، لأنّ الآخرين لا يكتفون في أن يتصرفوا بك، بطبيعة عملك أو طبيعة تفكيرك، بل يتصرفون كذلك في وقتك ويصرفونه على كيفهم”.
جوزيف حرب: من البداية أنا عندي إحساس أنّ وقتي قليل، عندما تكبر قليلًا بالعمر يزيد هذا الإحساس ويصير عندك خوف أن ينسرق جزء من وقتك ويتصرّف الآخرون به مثلما هم يريدون.
ويضيف: “يجب أن يسيطر عليك الزمن الفكري وليس الزمن العادي؛ الزمن اليومي لا يمكن أن تربطه إطلاقًا بالزمن الفنّي، هذا الزمن الإبداعيّ لا تعرف متى يأتي، لا تعرف إن كان سيطول حضوره، لا تعرف إذا كان سيمّحي أو يقصر. ومرّات تشعر أنّك أنت مرهق لدرجة لست قادرًا أن تجلس وراء الطاولة ولا تقدر أن يطلع معك شيئًا. وفجأة يأتي هذا، بقدر ما هو لئيم مرات كثيرات، يبليك في يومين أو ثلاثة، يحطّمك. الكتابة هي عملية صلب، وإنّما عندما تنتهي عمليّة نصك، لا تدري كيف تأتي هذه الراحة”.
اللغة والنصّ والزمن
“أكثر شيء أحببته هو اللغة العربيّة، قراءتي للتراث، هناك غنى فنّي رائع جدًا، وكلّما تضايقت، هناك كتب بالتراث، الإنشاء العربيّ فيها رائع جدًّا، أقعد وأقرأ. النصّ زمنه الإبداعي يحتاج لأن تُخضع له الزمن العاديّ، وحينما تقرأ النصّ وتحسّ أنّه يملك، جماليًّا، زمنه الفنّيّ، تفرّغه ممّا تسمّيه الزمن العادي. لهذا، أنا مرّات كثيرة، ضدّ فكرة الأجيال؛ ضدّ فكرة أنّه الآن هناك ظاهرة، موجة، وبعد فترة موجة، الآن جيل ثم جيل ثان، وجيل ثالث، يمكن هناك نصّ من نصوص أبو حيّان التوحيديّ، حتّى اليوم، لم يكتفِ الواحد كناقد أن ينتهي من عمليّة دراسته”، يؤكّد حرب ويزيد: “الزمن الفنّي يلغي كلّ الأزمنة العاديّة، وتختلط هذه الأزمنة العاديّة، من خلال النقّاد الذين يقسّمون، الزمن الفنّيّ على مقياسها هي، وتختلط مع بعضها لدرجة أنّها في الآخر سوف تخضع لما يسمّى الزمن الفنّي، وإلّا ليس هناك من فنّ”.
ويشير إلى أنّ “ما كتبته اليوم، ربّما سيكون نصًّا إبداعيًّا في زمن آخر، ربّما بعد عشر سنوات؛ أو ربّما ما تكتبه في عمر 30 سنة لا يمكن أن تكتبه في كلّ العمر الباقي؛ هناك أسئلة بالفنّ لم تتوافر أجوبة عليها، لدرجة أنّه على قدر ما هنالك من بلاهة وغباء عند كثر من النقّاد أو المتطفّلين على النقد، يتنازعون ليضعون نوعًا من النظريّات، حسب تجاربهم هم، أو تكون سببًا لإعطاء نفوسهم إضافة فنّيّة ليست موجودة فيها؛ من هنا الكتابة حالة صلب، لا تعرف كيف ينزلونك عن هذا الصليب، وكيف تكون ساعتئذ؛ مرّات كثيرة تدخل إلى السرير وتقول: هذه آخر ليلة، “خلص” لن أعي ثانية، وربّما تدخل إلى السرير ليس في الليل، ربّما عند السادسة عصرًا، وكنت لمّا تزل من الليلة السابقة وأنت خلف مكتبك، وعندما تعي (تنهض) تقول الآن سوف أدخل إلى السرير”.
هاجس الموت محرّك الكلّ
أترك هذه الخاتمة بمضمونها الكلّيّ، بما تحمله من فلسفة الشاعر والكاتب العالِمِ بحاله، وكان فعلًا قد اتّخذ قرارًا، أنه سيفرغ ما في روحه وعقله وفكره، قبل أن يداهمه الموت، ولا أدري إن نجح بذلك، أو أخفق. يقول: في “المحبرة” الذي هو أضخم عمل والبعض من الشبيبة، تمسخروا عليه (سخروا)، أنا أهديه للموت، لأن برأيي أهمّ محرك لكلّ شيء، هو هاجس الموت. أنت يمكنك أن تبقى سنة من دون طعام، إذا كنت متيقّنًا أنّك لن تموت؛ يمكنك أن تموت من العطش إذا كنت تدرك أن شيئًا لن يصيبك. دائمًا محرّكك هو الخوف من أن يصيبك شيء والإصابة الكبرى هي الموت.
وراء مطلق أيّ حركة، وعظمة الحياة بحدّ ذاتها، هو هاجس الموت، قائم. وأنا قبل أن أفكّر بكلّ هذه الأمور من البداية قلت لك: إنّني من البداية، يراودني إحساس بأنّه لم يتبقَّ لي وقت؛ منذ كنت طفلًا وهذا الإحساس يتملّكني. لكن، طبيعة التعاطي، ربّما لأنّه عندك فوران فكريّ وأنت بحاجة إلى وقت أكثر، أو تحسّ عندما تُوازِن بين الزمن العاديّ وبين هذا الفوران الفكريّ، تخاف أنّه ربّما يكون هذا الفوران بحاجة إلى وقت أطول.
هو قهر جسدي، الكتابة قهر جسديّ، صلب، عاديّ؛ لست أنا لوحدي، ربّما عند الكلّ، لم يعبّروا عنها، ربّما طرقهم مختلفة، لكن أنا مثلًا مع احترام أدباء النهضة، أدباء النهضة لم يتركوا دقيقة إلّا واشتغلوا عليها؛ أعطوا كمّيّة عبر أعمار قصيرة، كمّيّة ضخمة جدًّا جدًّا، ونوعيّتها مهمّة كثيرًا؛ الآن لا أعرف ماذا يحصل أو سيحصل.