جوهينا التي قضت قبل 11 يوماً من موعد عرسها
أحد عشر يوماً فقط، كانت تفصل جوهينا ابنة الـ 25 ربيعًا عن موعد ارتداء ثوبها الأبيض، وأن تُزفّ عروساً على الشاب حسين القاضي، أحد عشر يوماً كانت العروس الشابة تنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر، لتعيش مرحلة جديدة بعد أن عاشت كثيرًا من الحزن والألم إثر مأساة عاشتها نتيجة فقدانها لأخويها الشابين، الأول استشهد في الحرب والثاني قضى في حادث سير، ثم عادت وفقدت والدها الذي قضى هو الآخر حسرةً على ولديه.
لم تكن تعلم جوهينا أن المكان الذي ستلجأ إليه في زبود وهو منزل أهل خطيبها، سيكون المحطة الأخيرة في حياتها، وأنه لن يكون أقل خطرًا من منزل ذويها في بلدة النبي عثمان، التي تعرّضت إلى سلسلة غارات عنيفة. جوهينا كانت واحدة ممّن قضوا في المجزرة في بلدة زبود، والتي ذهب ضحيتها 17 فرداً من عائلة واحدة.
في رحلة البحث عن الأمان الذي بات مفقودًا على امتداد الوطن، لم ترحل جوهينا وحدها، بل رحلت معها والدتها التي كانت برفقتها، ولجأَا معًا إلى ذلك المنزل الذي تحوّل إلى كومة من رماد ودمار وركام.
يتحدث حسين القاضي خطيب جوهينا بحسرة عن عروسه لـ “مناطق نت” فيقول: “كنا نتحضّر لعرسنا بعد 11 يوماً، وكانت تقول لي إنها تريد عرساً بسيطاً “عالسكت” احتراماً لدماء الشهداء الذين سقطوا ويسقطون كل يوم”.
ثلاث سنوات مضت على خطوبة جوهينا وحسين، لم تكن في خلالها جوهينا تلك المراهقة بل كانت مسؤولة كما يقول حسين ويضيف “حرمت نفسها كثيرًا من الأمور وحتى الاهتمام بنفسها، وكانت تجمع المال لتجهّز بيتها الجديد كي لا ينقصه شيء”. يتابع “صبرت جوهينا معي كثيراً صبراً لا تطيقة أي امرأة في سنّها، لا سيما وأنها تحمّلت وضعي المادي الصعب الذي ازداد صعوبة بعد الأزمة الاقتصادية، كانت سنداً حقيقياً في كلّ المواقف”.
لم تقتصر خسارة حسين على خطيبته جوهينا، إذ فقد والدته وأخوته وأولادهم أيضاً، يقول وهو يحبس الدمع في عينيه: “استأجرنا منزلاً في بلدة العين وجهزناه بما يلزم من أثاث ومستلزمات، وحددنا موعد العرس، لكن شاءت إرادة الله أن أزفها شهيدة بثوب العز والكرامة والفخر”، مضيفاً :هي مؤمنة وصابرة، والشهادة تليق بها وتستحقها، وأن تحظى بخاتمة كهذه”.
يتحدّث أستاذ مادة المحاسبة في “معهد العين” الأستاذ علي دندش لـ “مناطق نت” عن السنوات الدراسية التي درّس فيها جوهينا مادة التدقيق والمحاسبة فيقول: “كانت طالبة مهذّبة، منكبة على العلم، تصغي باهتمام، شديدة السؤال حول ما لا تفهمه، مرحة لا تفارق الضحكة وجهها.
خطيب جوهينا حسين القاضي: استأجرنا منزلاً في بلدة العين وجهزناه بما يلزم من أثاث ومستلزمات، وحددنا موعد العرس، لكن شاءت إرادة الله أن أزفها شهيدة بثوب العز والكرامة والفخر
ويضيف دندش: “كانت شديدة التعلق بأسرتها، تستغل كل لحظة لتتحدث عنهم، توفي والدها خلال العام الدراسي فقضت فترة من التأثر إلى أن تجاوزتها. استطاعت أن تنهي تحصيلها العلمي بشهادة الإجازة الفنية في اختصاصها، وكانت في الوقت نفسه اجتماعية محبة للجميع.
لم تكن جوهينا لتهدأ خلال الأيام الأخيرة، فقد كانت منخرطة بشكل فعال في عمليات المساعدة والإغاثة، ولعلّ آخر ما نشرته على صفحتها على الفايسبوك كان عبارة عن نداءات لمساعدة بعض المستغيثين الذين يطلبون المساعدة للخروج من تحت القصف، وآخرين يطلبون تأمين منزل للسكن.
رحلت جوهينا مع والدتها، وتركت حكايتها في طيات فستانها الأبيض الذي لم يتسن لها أن ترتديه، وتحولت بذاتها إلى حمامة ملائكية تبث في أجوائنا أملًا بولادة جديدة، هي واحدة من قصص كثيرة تنبعث من تحت ركام الغارات الإسرائيلية المجرمة، التي لا تهدأ ولا ترحم مخلّفة ضحايا أبرياء ذنبهم الوحيد أن لديهم أحلامًا بسيطة ينبعث عبقها من تحت الركام.