حاروف أرض الشعر والشعراء وإرثهم الضائع
يا عين حاروف الذكا اسقينا وقصّي علينا أخبار ماضينا
الأبكم لو منك شِرب كــاس بيصير أفصَح من ابن سينا
تُفصِحُ الأبيات الآنفة للشاعر الحاروفيّ عبّاس حرقوص، عن سعي السيّدة جيهان ناصر، وهي ناشطة اجتماعيّة في حاروف إلى تأكيد روايتها لـ”مناطق نت”، عن أنّ خبراء اكتشفوا أنّ عين حاروف تحتوي على معادن منمّية للذكاء!
ربّما لأبيات الشعر وكلام السيّدة ناصر على طرافتهما، ثمّة أساسٌ من الصحّة، فتاريخ حاروف يعجّ بالأعلام الذين نشطوا في مجالات ثقافية وفكريّة مختلفة، أمثال المفكّر حسن حمدان الذي اتّخذ من “مهدي عامل”، اسمًا ثانيًا له، وكان أستاذًا للفلسفة في الجامعة اللبنانية ومحاضرًا في الأندية الثقافيّة وعلى المنابر، وهو صاحب مقولة “لستَ مهزومًا ما دُمتَ تُقاوم”. قبل أن يسقط اغتيالًا بتاريخ 18 أيار/ مايو 1987، وكان يبلغ من العمر 51 عامًا.
تفيض حاروف بأسماء أعلامها، من هؤلاء القاضي علي فحص، كان قاضيًا شرعيًّا للطائفة الشيعيّة في محكمة صيدا الجعفريّة العام 1935، وكان من أعضاء جمعيّة العلماء العامليّة التي جمعت عديدًا من الأفاضل والعاملين في حقل الاجتماع والأدب في حينه، وله عدّة قصائد غير مطبوعة.
تاريخ حاروف يعجّ بالأعلام الذين نشطوا في مجالات ثقافية وفكريّة مختلفة، أمثال المفكّر حسن حمدان الذي اتّخذ من “مهدي عامل”، اسمًا ثانيًا له، وكان أستاذًا للفلسفة في الجامعة اللبنانية ومحاضرًا في الأندية الثقافيّة وعلى المنابر
سيرة الشعراء في حاروف
للشعر سيرةٌ تُروى على ألسنة الحاروفيّين، وتنوّع نتاجهم فيه بين فصيح وشعبيّ، نثرًا ومقفّى وشعر تفعيلة.
برز كثيرون من روّاد الزجل الشعبيّ، منهم: أحمد عبدالله الناطور الملقّب بـ”أبو علي الحاروفيّ”، محمّد شاهين “أبو فايز” ولديه ديوان “صرخة كربلا” يضمّ مجموعة قصائد زجليّة قالها في مناسبات مختلفة. والشاعر عبّاس حرقوص. يحكي عنه ابنه الأستاذ علي حرقوص وهو باحث تاريخيّ وشاعر، لـ”مناطق نت” فيقول: “كان خطيبًا مفوّهًا، ومميّزًا بأبيات التواريخ على الأضرحة والأبنية والنوادي الحسينيّة والمساجد، وله مؤلّفات كثيرة في الزجل، وقد لقبه الشاعر الكبير عبد الجليل وهبي بأمير الموشّح”.
وبما أنّ الكلام أتى على سيرة وهبي، فيتحدّر رائد الأغنية اللبنانيّة الشاعر عبد الجليل وهبي من حاروف. كتب أكثر 500 أغنية، وغنّاها وأنشدها كبار الفنّانين في لبنان والعالم العربي، منهم على سبيل المثال: صباح، وداد، عبد الحليم حافظ، وديع الصافي، فريد الأطرش وغيرهم. عنه يضيف حرقوص الابن: “كان شاعرًا مسرحيًّا من الباب الأوّل، وقد أصدرت بلدية حاروف كتابًا عن أعماله، وتمّ تكريمه ومنحه وسام الأرز، في العام 2001”.
الثلاثي الحاروفي
يروي الشيخ والشاعر يحيى حوماني لـ”مناطق نت” كيف كان أهل النبطيّة والجوار ينتظرون الحاروفيّين في مناسبات عاشوراء ليأتوا بقصائد رثاء الإمام الحسين.
ويؤكّد الأستاذ عبد المنعم عطوي، وهو أستاذ ثانوي وناشط ثقافيّ، لـ”مناطق نت” ازدهار الحركة الفكريّة في حاروف منذ أوائل القرن التاسع عشر، “وكانت بذلك مركزًا للقرى والجوار، وفيها شعراء من الأعلام، ومنهم ما يعرف بالثلاثيّ الحاروفي وهم: الشيخ حسن علي الحوماني، محمّد علي الحوماني، والسيّد علي بدر الدين”.
الشاعر الشيخ حسن الحوماني
ووفق حرقوص: “كان الشيخ حسن الحوماني (1873- 1918) عالمًا دينيًّا وشاعرًا، درس في المدرسة الحميديّة في النبطيّة، وقرأ على الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر، وكان ممّن طرقوا أبواب التجديد في الشعر، متخطّيًا الأسلوب التقليديّ، وله شعرٌ كثير ضدّ الظلم والمستعمِر. كذلك حثّ شعره في المرأة على تحريرها من الجهل، وتحمُّل مسؤوليّاتها في المجتمع.
من شعره:
«فحتّام يا حرّة المشرق سوى الجهل بردك لم يعلق
كأنّك للعــــلم لم تخلق ولم تدر بالنسوة العالمــات»
الشاعر السيّد علي بدر الدين
السيّد علي جواد بدر الدين، (1948- 1980) وُلد في كنف عائلة متديّنة، وكان ناشطًا في ميدان الخطابة والثقافة وشاعرًا، لديه ديوان بعنوان “سيّدي أيها الوطن العربيّ” دوّن فيه مشاعره واستياءه وغضبه من واقع الهزيمة العربيّة في فلسطين ولبنان. سافر إلى النجف للدراسة الحوزويّة، وانتسب هناك إلى الرابطة الأدبيّة وشارك في نشاطاتها وأمسياتها الشعريّة، وكان يواظب على زيارة أهله في أيّام الحرب الأهلية.
في العام 1980 عُثر على جثّة رجل دين ثلاثينيّ في أحد أودية جنوب لبنان، وقد اخترقت جسده عدّة رصاصات قاتلة، وظهرت على الجثة آثار تعذيب، سرعان ما تمّ التعرف على هويته فكان السيد الشاب علي بدر الدين، إمام بلدة حاروف، الذي اختفى وهو في طريقه إلى المسجد قبل أيّام من العثور على جثّته.
الشاعر محمّد علي الحوماني
نشأ الشاعر محمّد علي الحوماني (1887- 1964) المُلقّب بـ”الحوماني”، في عائلة متديّنة محبّة للأدب والشعر، وفيها شعراء أفذاذ. يذكر الحوماني في كتاب عن حياته: “كنت وأنا في دور الصبا لم تتجاوز سنيّ العاشرة، أختلف (أتردّد) مع أخَوَيّ، (هما الشاعر حسن الحوماني والشاعر حسين الحوماني)، وأبي إلى مجالس أدبيّة تعقد أيّام الربيع في المتنزّهات وفي ليالي الشتاء في النوادي، لا أنس لهم بغير إنشاد الشعر”.
تعلّم في المدرسة الحميديّة في النبطية، وهاجر إلى النجف للدراسة الحوزويّة، مارس التدريس في النبطية وفي عدّة بلدان منها الأردن، وعيّن مدرّسًا للآداب في الجامعة العلميّة بدمشق.
كان الحوماني شاعرًا ناقدًا له كثير من المؤلّفات في الشعر والأدب، صدّاحًا على المنابر وخطيبًا مفوّهًا. كثير الأسفار والتنقّل بين البلدان حتّى وصل إلى الأمريكيّتين والتقى بالشباب الناهض هناك وبأعضاء “الرابطة القلميّة”.
نضال ضد الاستعمار
كان مناضلًا ضدّ الاستعمار الفرنسيّ داعمًا للثورة السوريّة الكبرى ضد الفرنسيّين، وقد شارك في حضور مؤتمر وادي الحجير، وهو مؤتمر أقيم في منطقة جبل عامل بدعوة من الأعيان في العام 1920. وبسبب مواقفه المعادية لفساد السلطة الحاكمة في لبنان والتي مارست الإجحاف بحقّ العامليين، كتب:
“تفاقم الداء واستشرى بعاملة أليس عندك يا لبنان من آسٍ؟”
تأذى الشاعر الحوماني كثيرًا، وتعرّض لمحاولاتِ قتلٍ من قبل الإقطاعيّين. ومما كتبه:
“قضى شعبنا نحبه وانقضت علـيـه جلاوزة المحكمـة
فعنـد المفـوّض ضحّـوا بـه وفي البرلمان أراقوا دمه”
يرى الشيخ يحيى حوماني، “أنّ ما يُميّز شعر الحوماني هو تطرّقه لأبواب موضوعات متعدّدة، فقد نظم في الدين والغزل والسياسة والاجتماع والهجاء والاستنهاض، وفي كلّ حقل كان له ديوان”. ويوضح: “ففي الغزل كان له ديوان “حوّاء”، وفي السياسة ديوانا “فلان” و”القنابل”، وديوان فلان هو هجاء سياسيّ بما سُمّيَ بحكومة رجال الاستقلال، لم يُنشر هذا الديوان بسبب تلفه في المطبعة بأمرٍ منهم، ولكن تمّ إخراجه بواسطة أحد الرجال المثقّفين، وطُبع بعد وفاتهم، وهو من أهم الدواوين السياسيّة.”
ويُضيف: “وفي نقد المجتمع له كتاب “نقد السائس والمسوس”، وله في الطبيعة “ديوان الحومانيّ” وله ديوان “أنت أنت” في مدح الرسول والذي نال عنه الجائزة الكبرى في مجمع اللغة العربيّة في مصر بالإجماع والإعجاب، لما فيه من صور جميلة ومدح للنبيّ، وقد سلّمه عبّاس محمود العقّاد الجائزة”.
تغييب الحوماني من المناهج
نُفيَ إلى مصر بسبب مواقفه السياسيّة، وعاش فيها عشر سنوات، حيث لقيَ كثيرًا من الحفاوة والتكريم، وأسّس فيها “ندوة الأصفياء” والتي كانت مقصدًا لكبار المفكّرين والأدباء، وساهم في العمل على توحيد المذاهب والوحدة بين المسلمين. وعند عودته إلى لبنان أنشأ “جمعيّة الإصلاح الخيريّة في بيروت”، وهو من مؤسّسي مجلة “بعد منتصف الليل”، و”العروبة”، وأسهم في تأسيس مجلة “الأمالي”.
الشيخ يحيى حوماني: إنّ ما يُميّز شعر الحوماني هو تطرّقه لأبواب موضوعات متعدّدة، فقد نظم في الدين والغزل والسياسة والاجتماع والهجاء والاستنهاض، وفي كلّ حقل كان له ديوان
قد يكون من الغريب أن تغفل كتب الأدب ومناهج التدريس في لبنان ذكر شاعر بقامة الحومانيّ، والأمر برأي الشيخ حوماني: “لم يُكتب له أيّ مقطوعة شعريّة في كتب الأدب، لأنّه كان شاعرًا ثائرًا ومناوئًا للسلطة وهو ما لا يُعجب السياسيين”.
توفّي في بيروت في11 نيسان 1964، ودُفن في حاروف. رثاه عدد كبير من رجال الفكر والأدب والصحافة. قال فيه عميد الأدب العربيّ طه حسين: “لو لم يكن الحوماني منّا لقلنا بأنّ إمارة الشعر والأدب انتقلت من مصر إلى لبنان”.
“كُرم الحومانيّ خارج حاروف كثيراً” والكلام للشيخ حوماني، “وكُتب فيه أكثر من رسالة، بدءًا من الأستاذ محمّد فقيه “النزعة الإسلاميّة في شعر الحوماني”، والأستاذ عبد المنعم عطوي “الاتّجاه الثوريّ في شعر الثلاثيّ الحاروفيّ حسن الحومانيّ، محمّد علي الحومانيّ، والسيّد علي بدر الدين”، وكتاب الدكتورة مريم حمزة “محمّد علي الحومانيّ، شاعر ثورة لا تستريح”. وقامت جمعيّة اليقظة بإصدار كتيّب “الحومانيّ شاعر العروبة والإسلام”.
أبناء وبنات الحوماني
كان للحوماني أبناء ذكور وإناث، وبحسب كلام الشيخ يحيى حوماني، “برز منهم ابنه الشيخ رضا حوماني وله قصائد جميلة، وابنه عصام حوماني الذي هاجر إلى المغرب. ومن بناته سلوى وبلقيس وأميرة، وقد تفرّدت كل واحدةٍ منهنّ بنوع أدبي”. ويضيف: “فابنته الدكتورة سلوى الحومانيّ كانت شاعرة على مستوى عالٍ في مصر، عاشت في مصر وكان يُطلق عليها تسمية شاعرة الأهرام. كتبت كثيرًا من القصائد التي لم تنشرها في ديوان.
ويذكر الأستاذ عباس حرقوص لـ”مناطق نت”: “كانت تُرسَل لها بطاقات كُتب عليها “شاعرة الأرز”، “شاعرة لبنان”، وشاعرة الوطن العربي”. ويضيف أنّها “كانت تُلقي الخطب في الجامعات المصرية. ولها عديد من المؤلّفات القيّمة في الاجتماع وفي الثقافة، منها: كتاب “مطلع الفجر” الذي تعالج فيه الوضع الاجتماعيّ عند العرب، وتحكي عن التقاليد والقيم والأخلاق”.
وقد برعت ابنته بلقيس في النثر والرواية، ولديها رواية “حي اللجى” تحكي فيها عن هجرة أهل الجنوب في الستينيّات إلى بيروت. ولديها كتاب بعنوان “خبز وزيت وكرامة” تحكي فيه عن شهداء من الجنوب، وكتاب “إنّها حياتك يا أختاه” الذي تعالج فيه حياة المرأة.
أمّا ابنته أميرة فقد كانت شاعرة أطفال، عملت في الإذاعة اللبنانيّة، ومن مؤلّفاتها الشهيرة كتاب “هيك غنّيْنا” وهو كتاب أغانٍ للأطفال، الذي سمَاه الشاعر سعيد عقل- كما يذكر الشيخ حوماني- ووضع له مقدمةً تشهدُ بمكانة صاحبتها وجماليّة نتاجها الأدبيّ.
يُذكر أنّ بنات الحوماني، سكنّ في جبل محسن في مدينة طرابلس هربًا من الاحتلال الإسرائيليّ للجنوب حينه، ثم عدن في آواخر حياتهنّ إلى بيت العائلة في حاروف حيث عشن ورحلن ووورين في جبّانتها.
هل ضيّع الحاروفيّون إرثهم؟!
“أنـت يـا نفـحـة روض الشـعـرا ضـاع إرث الشـعـر بـيـعًـا وشــراء
حـرّري جـيـلًا جـديــدًا قـد كـبـا في كرى الجهل يسـاقـون دهـاء
شعلة الأفذاذ قومي واصدعي كـلّ جيـل واسمعي الصمّ النداء”
بهذه الأبيات يختصر الشيخ والشاعر يحيى حوماني واقع الشعر اليوم في حاروف، ويصرّح: “للأسف عزف أهل حاروف عن نعمة الشعر، وأصبح هناك هوّة بينهم وبينه، فلا عادت حاروف بلدة الحرف والكلمة، وليس فيها ذوّاقة شعر كما في السابق”. ويضيف: “إنّ إعادة إحياء ذلك يتطلّب عملًا حثيثًا وضخ روح ثقافة الشعر في البلدة كما كان يفعلها الأوّلون، الآباء والأبناء.
ويتابع: “كانت جدّتي تقول الشعر، وكان أهل حاروف يتبارون في الشعر، وكان من يردّد شعرًا منهم يعدونه منقبة ويذيعون عنه”.
يبقى لحاروف إرثها المحفور في الذاكرة الجمعيّة والذي لا يميته زمن، وقد يعيد مجد الأوّلين فيها سيرته الأولى، فيما لو صلُحت الأحوال وتنبّه الحاروفيّون إلى استنهاض حركتهم الثقافيّة والشعريّة.