حديقة الصنائع ذاكرة النازحين ومأواهم توصد أبوابها
وقفت فادية عند مدخل حديقة الصنائع وخلفها اجتمع زوجها وأولادها، تُعانق إحدى قريباتها التي لم ترها منذ مدّة طويلة، تقول لها: “اجتمعنا لمّا تهجّرنا”. تسألها عن حالها وأسرتها، وأين يقيمون، وماذا حلّ ببلدتهم طرفلسيه في جنوب لبنان؟ تكمل حديثها متجاهلة الاكتظاظ الذي تسبّبت به، فيما تقاطعها منى قائلة: “ابتعدي قليلًا كي يمرّ الناس”.
المتنفّس الأقرب
توافدت العائلات إلى حديقة الصنائع في اليومين الأولين من بدء توسُّع الحرب، بعد أن وجدوا في المناطق المجاورة للحديقة ملجأً لهم، كلٌّ بحسب إمكاناته الماليّة، منهم من نزل في الفنادق المنتشرة في منطقة الحمرا، ومنهم من استأجر شققًا مفروشة، ومنهم من افترش الطرقات أمام المحال المغلقة منذ ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، ومنهم من سكن في المباني المهجورة، يغتنمون قرب المسافة إليها، لتصبح مكان لقائهم، وفرصة للترفيه عن أطفالهم الذين عاشوا أوقاتًا مرعبة في الفترات الأخيرة.
يواظب أبو مازن الرجل السبيعنيّ على ارتياد الحديقة برفقة زوجته، يقول لـ “مناطق نت”: “امتلأت الحديقة بالنازحين من الجنوب في الأيّام الأولى للنزوح، كانوا يأتون لتسلية أولادهم” يضيف: “أضحك عندما أرى عمّال الحديقة وهم يلحقون بالأطفال، لمنعهم من دوس العشب الأخضر أو من ملامسة نوافير المياه، وأضحك أكثر عندما أجد بعض الأطفال المشاغبين يستمتعون بجري العمّال خلفهم”. أمّا زوجته زينة فهي تستمع لأحاديث الأمّهات اللواتي يجلسن على المقاعد الخشبيّة، يراقبن أطفالهنّ وكلٌ تروي للأخرى ما حلّ ببيوتهنّ وقراههنّ من أضرار ودمار.
الاعتداءات السابقة
لعبت الحديقة دورًا مهمًا خلال حرب تمّوز (يوليو) 2006، يخبرنا أبو أحمد سالم من بلدة بنت جبيل، كيف لجأ إلى الحديقة مع جيرانه في حينه. يقول لـ “مناطق نت”: “لم نعرف أين نذهب، بقينا في الحديقة ستّة أيام، كان البعوض يأكلنا ليلًا والشمس تحرقنا نهارًا، وضعنا البسط على الأرض، والتحفنا السماء، كلّ عائلة تجلس بمحاذاة الأخرى، لكن حالنا لم تدم طويلًا حتّى انتقلنا إلى مدرسة في رأس النبع”.
تتذكّر راوية مهنّا مديرة مركز برج البراجنة في “مؤسّسة عامل” كيف تجمّع النازحون في حديقة الصنائع بأعداد كبيرة خلال حرب تمّوز 2006، وكيف كانت الجمعيّات والمؤسّسات المدنيّة تحاول مساعدتهم، وكالعادة كانت مؤسّسة عامل ذات الباع الطويل في العمل الإنسانيّ سبّاقة إلى تلبية احتياجاتهم الأساسيّة، وتقديم الفرش والأغطية والمساعدات الغذائيّة العينيّة وحليب الأطفال والاهتمام باحتياجات النساء، وبالدرجة الأولى كان التركيز من خلال فريق عملها الصحّيّ والعيادة النقّالة على الحالات المرضيّة المزمنة وتقديم الأدوية لهم”.
يؤكّد المسؤول الاعلاميّ لخلية إدارة الأزمات والكوارث في محافظة بيروت الملازم أوّل فادي بغدادي، أنّه في العام 2006 دخل الناس إلى الحديقة بشكل تلقائيّ، لكنّها لم تكن يومًا مركز إيواء أو نقطة تجمّع لتقديم المساعدات” .
توافدت العائلات إلى حديقة الصنائع في اليومين الأولين من بدء توسُّع الحرب، بعد أن وجدوا في المناطق المجاورة للحديقة ملجأً لهم، كلٌّ بحسب إمكاناته الماليّة
أمّا بالنسبة للاعتداءات الإسرائيليّة في حروب 1993 و1996 يقول أبو مازن من سكّان منطقة الصنائع لـ “مناطق نت”: “لم يكن هناك حاجة لحديقة الصنائع في ذاك الوقت، لم تكن كلّ البلدات الجنوبيّة مستهدفة. كان السكّان ينتقّلون إلى المدارس القريبة منهم”. لكنّه يعتقد أنّه خلال الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت في العام 1982 على مخيّمي صبرا وشاتيلا، أحرق الإسرائيليّون حرج بيروت، فهرب اللاجئون الفلسطينيّون إليها”.
إغلاق الحديقة
تصل إم سمير السيدة البيروتيّة إلى بوّابة الحديقة فتجدها مُغلقة، تستنكر وتسأل الحرّاس عن السبب، فيجيبها أحدهم بأنّه “لا يعرف والقرار أتى من المحافظة ومن وزارة الداخليّة”، تحتّج قائلةً: “سكّروها أمام النازحين من الجنوب وفتحوها أمام النازحين السوريّين؟”، يقول لها الحارس: “توجّهي نحو محل تأجير الدرّاجات الهوائيّة واسألي الشاب الذي يلبس الأزرق، هو المسؤول عن الموضوع”. تسرع أم سمير الخطى وتجتاز الشارع دون أن تكترث لمرور السيّارات أو الدرّاجات الناريّة، وتخاطب الرجل: “انت المسؤول عن الموضوع؟”. يجبيها: “مثلي مثلك، عرفت أنّ قرار الإغلاق أتى من المحافظ”. تعود أدراجها حاملة أذيال الخيبة، وتردّد أمام الأشخاص الآخرين الذين تلتقيهم في مسارهم إلى الحديقة “مسكّرة مسكّرة، ما تعذّبوا حالكم”.
لطالما لجأ النازحون السوريّون إلى المساحات العامّة ومنها حديقة الصنائع، الأمر الذي أدّى إلى تذمّر سكان المنطقة، وفرض تحدّيات اجتماعيّة جمّة، تقول الطبيبة مروى التي تسكن بمحاذاة الحديقة مباشرةً في حديثها لـ “مناطق نت”: “سابقًا كنت أشعر بالأمان عندما ينزل أطفالي للعب في الحديقة، حيث توجد ملاعب مختلفة تراعي المعايير العالميّة للسلامة العامّة، وكانت بالنسبة لي مساحة خضراء ألجأ إليها هربًا من مشاهد المباني الاسمنتية، لأقرأ كتابًا أو لألتقي بعض الاصدقاء”.
تكمل مروى حديثها منزعجة ممّا اعتبرته “عدم احترام السوريّين للنظام العام للحديقة وازدحامهم فيها في فترات ما بعد الظهر والعطل والمناسبات العامّة”، وتتساءل عن سبب إغلاق الحديقة حاليًّا؟
تضيف ابنة الجنوب: “أطفال النازحين في الحمرا الذين ينزلون في الفنادق يحتاجون إلى مكان واسع للعب، وفي الأيام الأولى من الاعتداء السافر على الجنوب كانت الحديقة مفتوحة، وكنت أرى كثيرًا من الأطفال يلعبون ولم يكن هناك ما يشير إلى نيّة العائلات البقاء والمبيت في الحديقة”.
يجيب الملازم أوّل بغدادي عن سبب إغلاق الحديقة أخيرًا بالقول: “إنّ خليّة الأزمة استنفرت كلّ طاقاتها لعدم ترك نازحين بدون مأوى أو في المساحات العامّة، على الرغم من أنّ عدد مراكز الإيواء في محافظة بيروت بلغ 170 مركزًا مع عدد نازحين يزيد على 56 ألف نازح، وفي سبيل تخفيف الضغط عن محافظة بيروت قمنا بارسال عدد كبير من النازحين المتواجدين على الكورنيش البحريّ وفي المساحات العامّة إلى مراكز إيواء في شمال لبنان”.
يردف بغدادي: “في هذا الوقت الحرج نحاول عدم السماح بالتجمّع في الأماكن العامّة، فبيروت لم تعد آمنة كالسابق، ولا نتحمّل مسؤوليّة أيّ مجزرة قد تحدث بفعل همجيّة العدو الاسرائيليّ”.
تاريخ الحديقة
تعتبر حديقة الصنائع الأكبر والأهمّ مقارنة بالحدائق الأخرى في بيروت، ومتنفّسًا أساسيًّا للقاطنين في منطقة الصنائع والحمرا، حيث يمكن الوصول إليها سيرًا على الأقدام بفترة لا تتجاوز الـ10 إلى الـ15 دقيقة. يقول أبو إبراهيم الموظّف المتقاعد من مديريّة الطيران المدنيّ في مطار بيروت إنّ الحديقة ملاذه اليوميّ، خصوصًا بعدما خضعت للتجديد والتحديث تحت إشراف ورعاية بلديّة بيروت. يضيف لـ “مناطق نت”: “أنا لا آتي إلى الحديقة بعد الظهر بسبب الازدحام فيها، أسترق وقت الصباح الباكر حتّى أنعم بممارسة الرياضة”.
يشير أبو إبراهيم إلى أنّ اسم الحديقة الحالي هو حديقة الرئيس رينيه معوّض تكريمًا له بعد اغتياله بالقرب منها في العام 1989، وعلى لرغم من ذلك فإنّها لا تزا تُعرف بحديقة الصنائع التي، وكما يروي المؤرّخون، أنّ السلطان عبد الحميد الثاني أسّسها إلى جانب مدرسة الصنائع والفنون. ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ تأسيس الحديقة كان خلال فترة الانتداب الفرنسيّ، إلاّ أنّ كثرة المعالم فيها تشهد على الطراز المعماريّ العثمانيّ وتجمع بين الأصالة والحداثة في فضاء أخضر لا يتجاوز ثلاثة في المئة من مساحة مدينة بيروت.