حذارِ من انتخاب بلديّات تُعيد تدوير الفشل!

في بلدٍ صغير مثل لبنان، تتقاطع الجغرافيا بالتاريخ، والطائفيّة بالعمارة، وتختلط السياسة بالحجارة التي تبني بيوت الناس. هنا، لم تعد البلديّات مجرّد هيئات محلّيّة، بل تحوّلت إلى مرايا لعيوبنا العميقة: محسوبيّات معماريّة، وتشبيكات غير شرعيّة، وإهمالٌ جماعيّ لحقّ الناس في جمال العيش، وانتخابات بلديّة تُعيد تدوير الفشل أكثر ممّا تفتح نوافذ التغيير.
بدأت القصّة في القرن التاسع عشر، مع أولى بوادر الحكم المحلّيّ في زمن التنظيمات العثمانيّة. كانت دير القمر السبّاقة سنة 1864، ثمّ بيروت بعد ثلاث سنوات. لاحقًا، تسلّم الانتداب الفرنسيّ مهمّة تحديث الشكل الإداريّ، قبل أن يحاول اللواء فؤاد شهاب، بجهدٍ تنمويّ، بثّ روح جديدة في العمل البلديّ. غير أنّ هذه الروح خبت تدريجًا تحت أنقاض الحرب الأهليّة، وتحوّل المجلس البلديّ من مساحة للتنمية المحلّيّة إلى جهاز إداريّ مشلول تحت وصاية السلطة المركزيّة، بين قانون 1977 المعدّل، ومراسيم مجمّدة، ومشاريع قوانين تنتظر في أدراج البرلمان إلى ما لا نهاية.

كيف شوّهنا المدن والقرى؟
البلديّة في لبنان اليوم تمثّل جهازًا مأزومًا: مشاريعها إّما مكبّلة بالروتين أو مرهونة بالمحاصصة، بينما تتآكل الأحياء بفعل مخالفات مسكوت عنها ومحميّة من شبكة علاقات خفيّة تمتدّ بين اتّحاد بلديّات، قاضٍ متواطئ، ورئيس مخفر مغمض العينين.
تُوزّع رخص البناء كما توزع الغنائم، بلا رؤية جماليّة أو تخطيط حضريّ. نرى بيوتًا ترتفع فجأة كالقلاع وسط أحياء فقيرة، أو أبراجًا إسمنتيّة تخنق الأزقّة القديمة، بينما ترتفع “العمارات” الهجينة بلا احترام لانسياب الشمس أو دورة الريح، وتختنق القرى بركام من الإسمنت الرديء.
صارت الأراضي العامّة والمشاعات بدورها “مالًا سائبًا”، يتقاسمه النافذون، ويجري استثمارها كأنّها أملاك خاصّة، من دون أيّ اعتبار للحاجات الحقيقيّة للسكان، أو للبعد البيئيّ والجماليّ الذي يكاد يختفي تحت ضغط العجلة الإسمنتيّة.
حين يتحوّل التجميل إلى تهريج
في قاعات البلديّات، حيث يُفترض أن توضع خطط تطوير الأحياء والطرقات، ينشغل بعضهم بتجميل الساحات بطريقة تُذكّر بمكياج مبالغ فيه: أحواض زهور تذبل بعد موسم، أرصفة مرتجلة التصميم، مقاعد باهتة الألوان، وإنارة شحيحة أو صارخة بلا انسجام. فيما تغرق المحال التجاريّة بلافتات عشوائيّة، متنافرة الخطوط والألوان، تشوّه وجه القرى والمدن على حدّ سواء، كأنّ العمارة فقدت حسّها بالانتماء وباتت نسخةً عن حال الفوضى الذهنيّة.
وما بين ضجيج المقاهي الجديدة في القرى واللافتات الضخمة التي تعلن كلّ شيء ولا تقول شيئًا، يغيب سكون الريف، ويُصادر الهدوء الذي لطالما كان جوهر الهويّة القرويّة اللبنانيّة.
شوارع بلا ذاكرة
حتّى تسمية الشوارع، التي هي في البلدان الطبيعيّة فعل تقدير للذاكرة الجماعيّة، تحوّلت عندنا إلى لعبة ارتجاليّة وانفعاليّة: شارع باسم زعيم راحل فرضه المزاج السياسيّ، أو ساحة تحمل اسمًا مستوردًا لا علاقة له بالتربة ولا بالناس. أمّا أسماء المبدعين الحقيقيّين (من شعراء ورسّامين وروائيّين وعلماء) فيّغيبون كما غابوا عن المخطّطات التنمويّة والثقافيّة. هكذا تتكرّر الخيبة: مدنٌ وقُرى بلا ذاكرة، بلا أفق، بلا توقيع حضاريّ.
في البلدان الطبيعيّة تسمية الشوارع فعل تقدير للذاكرة الجماعيّة، لكنها عندنا تحوّلت إلى لعبة ارتجاليّة وانفعاليّة: شارع باسم زعيم راحل فرضه المزاج السياسيّ، أو ساحة تحمل اسمًا مستوردًا لا علاقة له بالتربة ولا بالناس.
من المدارس إلى أماكن العبادة (مساجد، كنائس، حسينيّات، خلوات)، ومن المباني البلديّة إلى مراكز الخدمات، تبدو عمليّة التوزيع عشوائيّة تمامًا: مساجد ملاصقة لمدارس علمانيّة، مبانٍ بلديّة تقف في منتصف شارع بلا موقف سيّارات، مراكز ثقافيّة بلا مكتبات، مدارس رسميّة تُحشر وسط أحياء سكنيّة بلا ملاعب أو مساحات خضراء.
لا وجود لخطّة شاملة ترسم خطوط التوزيع، تخلق توازنًا بين القداسة والتعليم، بين السلطة المحلّيّة ومساحات الناس. كلّ شيء يُفرض كأمر واقع، استجابةً لتوازنات لحظيّة، لا لحاجات طويلة الأمد.
أموال مهدورة ونظام عاجز
ليس صدفة أنّ الطرقات تُركّز على المحاور الرئيسة (حيث تمرّ المواكب الانتخابيّة لاحقًا)، بينما تُترك الطرقات الفرعيّة تغرق في الغبار والحفر. وليس مصادفة أن تختفي الحدائق العامّة من القرى والمدن، بحجّة أنّ “الأرض أهمّ للاستثمار”، ولا أن تُختصر البيئة في رفع شعارين موسميّين ثمّ العودة إلى تراكم النفايات. البلديّة عندنا تخطّط مثلما تخطّط الحملات الانتخابيّة: سريعًا وشعبويًّا وبدون أيّ خيال مستقبليّ.
ما يُفاقم الكارثة أنّ البلديّات لا تتحكّم حقًّا بمصادرها الماليّة: الرسوم المباشرة تتآكل تحت تأثير الركود الاقتصاديّ وضعف الجباية، وعائدات الصندوق البلديّ المستقلّ تصل متأخرة وموزّعة على أسس سياسيّة أكثر منها قانونيّة. ومشاريع الصيانة والتنمية، التي تحتاج إلى شفافيّة وديناميكيّة، تتهرّأ بين صراع الرئيس وأعضاء المجلس، وتفسخ العلاقة بين السلطتين التقريريّة والتنفيذيّة داخل البلديّة نفسها.
وبينما تذهب معظم الميزانيّات إلى رواتب وتعويضات، يبقى الإنماء حلمًا مؤجّلًا، ويستمرّ تهريب الفرص والمشاريع الكبرى إلى خارج الإطار البلديّ لصالح المقاولين وأصحاب النفوذ.
إلامَ نحتاج؟
نحتاج إلى بلديّات لا تفكّر فقط بتعبيد شارع هنا، أو زرع شجرة هناك، بل تتصّرف كـ مؤسّسات ثقافيّة مدنيّة تحمل رؤى عميقة: كيف نصنع حيًّا جميلًا؟ كيف نوائم بين البناء والطبيعة؟ كيف نستعيد هدوء الريف وأناقة المدينة؟ كيف نصنع أسماء شوارع تحكي سيرة الناس، لا سيرة التحالفات الانتخابيّة؟
نحتاج إلى مجالس بلديّة تعرف أنّ عملها لا يُقاس بحجم المجالس ولا بعدد الأعضاء، بل بنوعيّة القرارات التي تترك أثرًا جماليًّا وإنسانيًّا مستدامًا.
نحتاج إلى ثورة بلديّة، تبدأ من فهم العمارة كفعل ثقافيّ، لا مجرّد استثمار، وتنتهي بإعادة بناء العلاقة بين الأرض والناس: علاقة أساسها الجمال والكرامة والرؤية الطويلة المدى.
الانتخابات فرصة أمّ كارثة؟
مع ولوجنا الحال الانتخابيّة، يعود السؤال الكبير: هل نعيد انتخاب الشلل القديم الذي شوّه قرانا ومدننا، أم نجرؤ أخيرًا على المطالبة بمجالس حقيقيّة، لا تعيش في جغرافيا الرخص والمخالفات؟
المعركة الحقيقيّة ليست على أسماء المرشّحين وحسب، بل على الفكرة نفسها: هل نريد بلديّة تخدم الحاضر العشوائيّ، أم بلديّة تصنع مستقبلًا نستحقّه؟
لبنان لا يحتاج إلى بلديّات جديدة بالاسم فقط. يحتاج إلى بلديّات جديدة بالفكر، بالوعي وبالخيال. لأنّ المدن والقرى، حين تُهمل، لا تموت فقط، بل تتحوّل إلى متاحف حيّة للفوضى والقبح.