حروب المقابر “مسائل في أحوال الجنوب اللبناني” لمنذر جابر
“حروب المقابر: ليس الموت إحدى الراحتين”. هو عنوان جاذب لبحث ميدانيّ فلسفيّ ثقافيّ أنثربولوجي تأريخيّ، أورده الباحث والمؤرخ منذر جابر في كتابه الصادر أخيرًا تحت عنوان “مسائل في أحوال الجنوب اللبناني- جبل عامل” الصادر عن مكتبة أنطوان بيروت، ويقع في 459 صفحة، ويشمل 16 عشر فصلًا، كلّ فصل هو دراسة أو مقالة تغوص في عوالم العاملييّن وجنوبهم، تأريخا واجتماعًا وتوثيقًا، حاضرًا وماضيّا.. وأعتقد أن النصيحة بقراءته طبيعيّة، بل بِجَمَل.
ففي هذا الفصل الذي نحن بصدد التعليق عليه نستخلص أنه ربما الموت راحة، إذ لم يذهب أحد وعاد ليخبرنا عن الراحة التي يعيشها، لكن بالتأكيد الموت هو راحة من قلق ومن مرض وعذاب وكل ما يُعانيه المرء في الحياة.
اخترتُ الكتابة عن هذا الفصل لأتناوله بكل تفاصيله ويحكي قصة لبنان مع الحرب وما قبل الحرب، وما بعدها، وكيفية تأثيرها على تشكّل لبنان الجديد الذي نعيشه اليوم. وهو كتاب رؤيويّ ينظر بعين المُراقب المُسجل أدق التفاصيل التي يبحث عنها الأنثربولوجي والمُؤرخ الذين إلتقيا معًا في شخص الباحث الأكاديمي منذر جابر ابن جبل عامل أو بلاد بشارة أو الجنوب اللبناني.
لفتني العنوان فانجذبت إليه، وقررت الإطلاّع على مضمونه، رغم أنّ العنوان مُفزع وخبرياته تتمحور حول المقابر، التي نهرب منها ليلاً وعند بداية كل عتمة، بل نخاف مُجاورتها. وكان الباحث منذر جابر قد زار المقابر مرارًا وتكرارًا وسجّل أسماء ساكنيها ومُقيميها، وروّادها وجيرانها، بل اطلّع على الأجدَاثِ فيها وحيواتهم وتاريخهم وتاريخ قتلهم وسببه ومفاعيل ما بعد القتل “الجريمة”…
نكتبُ كتاباً، وهذا الكتاب يكتبُ عنّا، نحن بحاجة لكتابٍ يكتب عنا، والكتاب بحاجة لكاتب يكتبُ عنه!! هذه الحاجة شبيهة بالحب هل هو حاجة لنستمر أم ضرورة لنستمر؟ أيهما يغذيّ الآخر؟ أيهما يُفيد الآخر؟ أيهما أصل الآخر؟
يبدأ منذر جابر نصه “حروب المقابر: ليس الموت إحدى الراحتين” بجملة مميزة لشكسبير: “الموت خيانة وجود”، و”الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا” هذه الآية الفلسفية، فـ”المقابر ليست أمكنة بعيدة وكل من زبائنها اللاحقين” و”المقابر بيوت الموتى”، و”المقابر ليست أرض حياد”.. ثمة تراكم في الجمل والتعابير الفلسفيّة العميقة التي تظنها أسطرًا شعرية للشاعر الإيرلندي صَموئيل بيكيت.
فالضاحية، التي هي يُسميّها الباحث “مدينة الضاحيّة” هي محط الدراسة، لكن من جهة عالمها المدفنيّ، والضاحية مدينة لم يكتمل بناءها بعد، يُعدد المقابر التي يبلغ عددها سبع، وهم في برج البراجنة، وبئر حسن، والرادوف، وروضة الشهيدين، والطيونة، وحيّ السلم، والشيّاح. علمًا أنه لم يُضف مقبرة الأوزاعي للبحث وهي كبيرة وفيها مدفن للشهداء.
كان الباحث منذر جابر قد زار المقابر مرارًا وتكرارًا وسجّل أسماء ساكنيها ومُقيميها، وروّادها وجيرانها، بل اطلّع على الأجدَاثِ فيها وحيواتهم وتاريخهم وتاريخ قتلهم وسببه ومفاعيل ما بعد القتل “الجريمة”…
يعود الباحث جابر إلى أصل نشوء الضاحية بواقعها الحاليّ، أي ما بعد حرب السنتين (1975-1976) وما قبلهما بقليل، ليرسم صورة عن سبب لجوء الشيعة من الأطراف نتيجة الاحتلال الإسرائيلي، وهي هجرة ناريّة، أما الهجرة من البقاع فهي “عالبارد” لدفن موتاهم في هذه المقابر التي تعود للسكان الأصليين أو على أملاك جديدة تعود للوقف الإسلامي سواء الشيعيّ أو السنيّ، حيث بحث في مقابر يبلغ عدد شهدائها 18142.
وفي عيّنة لتوزّع الشهداء، فإنّ معظمهم يعود بأصوله إلى الجنوب اللبناني، فـ953 شهيدًا من الجنوب، و226 شهداء من البقاع، أما الـ222 شهيدًا فهم من جبل لبنان، ومن بيروت فـ 43 شهيدًا، أما الشمال فشهيدٍ واحد فقط، أما شهداء القرى السبع فيبلغون 25 شهيدًا، أما من الجنسيات العربيّة المختلفة فـ84 شهيدًا. وهذه الأرقام تعود فقط إلى حدود العام 2015 تاريخ الدراسة.
قرأ كل شواهد القبور في المدافن المذكورة من الإسم إلى تاريخ الإستشهاد والعمر والأصل والشعار الموجود على الشاهد الرخاميّ إلى شكل وزينة القبر، والجهة التي نَعَتُه، وصلة القرابة، ومكان الدفن، إلى سبب الشهادة في ظلّ حرب أهليّة طاحنة قضت على عدد كبير من الشباب، لدرجة أنّ الفصائل المُتقاتلة كانت تسرق الشهداء لتنسبهم لنفسها نظرًا للشعبيّة التي تستحصلها من عراضات ويافطات وميكروفونات سيّارة واستثمار عائليّ وحزبيّ وماليّ.. وتطرّق إلى خطوط التماس دون أن يُفصّل بها أو يُفرد لها فصلاً رغم أنها تستحق دراسة تفصيليّة نظرًا لدورها الكبير خلال الحرب في القتل.
والشهداء أصناف وأنواع، منهم المظلوم، ومنهم شهيد مقاومة، ومنهم البطل ومنهم الفقيد، وشهيد الغدر، وشهيد الاغتيال، وشهيد المقاومة الوطنيّة، وشهيد المقاومة الإسلاميّة، وشهيد المقاومة اللبنانية(أمل). فمن أصل خمسة أحزاب وطنيّة وجد الباحث 12 شهيدًا فقط ينتسبون إليها في المدافن التي بحث فيها في الضاحية.
وتتميّز القبور بالشواهد التي تُعلن هوية الشهيد السياسيّة، فما إن نقرأ بعض الآيات المُحددة نعرف أنه من شهداء المقاومة الإسلاميّة، أي “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون” و”ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”.
هذه التفاصيل البسيطة والدقيقة التي تطلّبت جهدًا فائقًا وربما احتاج سنوات جعل النص البحثي مشدودًا عند كل مفصل من المفاصل، وكمشه من أوّله إلى آخره ووثقه بالأرقام والشروحات بعيدًا عن الرأيّ الخاص.
ويكشف جابر معلومة هامّة هي حاجة الشيعة المنتقلين من الجنوب بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة وأبناء البقاع الهاربين من اهمال السلطات اللبنانية لهم إلى مدافن اضافيّة في مكان إقاماتهم الجديدة التي أزعجت أبناء الضاحية الأصيلين، وإن كان لم يتطرّق إلى تاريخ الضاحية ما قبل نزوح الشيعة من كافة أماكنهم الأصليّة، والتي كانت تُعرف بـ”ساحل المتن الجنوبي” والذي يُقيم فيها المواطنون الشيعة بغالبيتهم العظمى.
فـ”روضة الشهيدين” هي بالأصل جزء من حرش بيروت، لكنها صارت مدفنًا لكل من مصطفى ومهدي هاشم (14 و16 عامًا)، وهما شقيقان قُتلا مطلع الحرب الأهلية في عين الرمانة العام 1975، وكان أهل الغبيري قد رفضوا السماح لأهل الشابين بدفنهما بمقبرة الشّيّاح، لذلك قام بعض أبناء الغبيري بإزالة بوابة الحرش ودفنهما خلفها، لتحمل الروضة إسم “روضة الشهيدين” إلى اليوم.
يخوض الباحث منذر جابر بمسألة مهمّة جدًا وتطرح على الدوام تساؤلات خافتة وهي من يدفن العلماني في بيئة متديّنة؟ وهنا يتطرّق إلى الميت “اليساري” في البيئة الشيعية المُجبر أهله على اقامة مأتم ديني له يتخلله العادات المذهبية الخاصة، كتلقينه الشهادة أو مجالس العزاء أو قراءة القرآن أو نوع الكتابة على شاهد القبر.
يخوض الباحث منذر جابر بمسألة مهمّة جدًا وتطرح على الدوام تساؤلات خافتة وهي من يدفن العلماني في بيئة متديّنة؟ وهنا يتطرّق إلى الميت “اليساري” في البيئة الشيعية المُجبر أهله على اقامة مأتم ديني له
وقد شهدت بعض البلدات الجنوبيّة رفضًا من قبل بعض الأهالي حين وفاة قريب لهم بوضع اسم منظمة العمل الشيوعي على الشاهد. والسبب أن المسؤول عن هذه التقاليد في القرية هو شخص يتبع التقاليد الدينيّة بحرفيّتها الجامدة.
ويتهم الباحث الوافدين إلى مدينة الضاحية باحتلال شوارع واطلاق تسمياتهم عليها كـ: حيّ الهبارية، وحيّ العراسلة، وحيّ مارون الراس، وحيّ أهل صلحا، وحيّ أهل شبعا، وحيّ المقداد، وحيّ أهل العرقوب، ومحو أسماء شوارع، واحلال أسماء زعماء محلها كشارع أسعد الأسعد في الشيّاح الذي كان يُسمى بشارع حسن كنج..
واللافت هو تطرّقه لمسألة ربما تحتاج إلى تأصيل أكثر وهي مسألة تفخيم بناء القبر من هؤلاء الفقراء والمهجرين، ردًا على النظرة الدونيّة التي عُوملوا بها كوافدين جدد إلى المنطقة، فكانت قبورهم من الرخام وذات طبقات وأقفاص معدنيّة بألوانها المُذهبّة أو المُفضضة، مع مزهريتين عاليتين. لكن وبحسب مشاهداتي أتذكّر مقابر إحدى قرى قضاء الزهراني التي معظم مقابرها كانت بطبقات ثلاث ورخام فاخر ومزهريات عالية وقفص حديدي فخم ومقاعد رخامية لزوار الميّت الذي هو غالبا ما يكون شابًا أو شهيدًا أو كان قُتل غدرًا. وهي ليست هذه من العادات الشيعيّة، بل إنها مكروهة شرعًا لدى الشيعة حيث يُستحب القبر المدروس أيّ المتساوي بالأرض. أما القبر ذو الطبقات والمزهريات فهي عادات نقلت من سُنّة بيروت.
ويأخذ الدكتور منذر على المُهجرين الوافدين من الشيعة من كل المناطق التي عانت الحرب والاحتلال والفقر والحرمان تخريبهم الشقق والبنايات التي اقاموا بها واحتلوها والتي تعود للمسيحيين في أرجاء الضاحية، وهو بذلك ينقل واقعًا مؤلمًا حيث أن المهجرين لم يُحسنّوا أماكن انتقالهم القسريّ، ربما انتقاما من الطرف الذي هجرّهم بما يُمثّل. وقد حصل الأمر نفسه لدى الطرف الآخر في المناطق التي كانت تسمى “الشرقيّة” كنوع من انتقام مُتبادل.
في ختام البحث، اعتبر الدكتور الباحث منذر جابر أنّ “المقابر محميّات دينيّة اجتماعيّة خالصة” و”مركز راحة أبدية”, لكن “الاجتماع البشري حوّلها إلى قوّة متحركة لها دورها في التعارك الدائر في مجتمع حربي مأزوم وفائر”.
استغربُ كقارئة بعض الاستعمالات في البحث مثال: اعتصاب- بداءة- اغتذاء- التجزير- الأخماس- المفضضة- قبلاوي- متوالي- عجلى- يتعاوره- هياط- ياط- عياط…