حصارٌ تحت سماءِ المسيّرات: طنينٌ لا ينامُ وهمسُ شُؤمٍ

“إنّه قلقٌ يوميّ يعلو فوق قلقنا المزمن”، تقول رياسة، قبل أن تردف “أستيقظ على صوت الآذان وصوتها معًا، إذ تبدأ بالتحليق (المسيّرات) مع الفجر، حتّى بات صوتها يشبه صوت العصافير بالنسبة إلينا”.

في أيامٍ تُحكِم فيها المسيّرات سيطرتها على سماء بيروت، لم يفارق طنينها ليالي الجنوب منذ إعلان “وقف إطلاق النار” وحتّى قبل ذلك. ليالٍ يخيّم فيها صوت الـ “أم كا” أو “أم كامل”، كما اعتاد الجنوبيّون تسميتها، محلقًا فوق رؤوسهم، ومبدّلًا إيقاع الحياة اليوميّة.

سواء في وضح النهار أو عتمة الليل، حين تزدحم السماء بتلك العيون المعدنيّة، يستعيد الناس شعورهم بأنّهم تحت المراقبة. فيتحوّل ذلك الطنين إلى نذير شؤم يذكّرهم بأنّ الموت ربّما يهبط عليهم أو على أحبّة لهم في أيّ لحظة.

هل وجودها اعتيادًا؟

تقول رياسة إسماعيل، من قرية بيت ليف، لـ “منطق نت”: “في تنقّلاتي مع إخوتي أبقى متوتّرة، ويديّ على قلبي حتّى أصل إلى البيت، على رغم علمي أنّ المنزل لا يحمينا منها، لكنّه على الأقل يبعدني عن طنينها القويّ”.

وتتابع “أحيانًا تبقيني مستيقظة طوال الليل حتّى تغادر عند الثانية أو الثالثة فجرًا. وإذا كان إخوتي في الصيد وسمعتها تقترب، أتّصل بهم فورًا كي يعودوا، وإن كان والدي في عمله، أبقى قلقة حتّى يعود”. وتضيف “طبعًا، حين نلاحظ وجود أكثر من واحدة في السماء، ندرك أنّ هناك استهدافًا محتملًا في ذلك اليوم، فنقلّل من تحرّكاتنا، ولا نخرج ليلًا إلّا في الحالات الطارئة”.

في قرى الجنوب والبقاع، بات صوت المسيّرات جزءًا من الروتين اليوميّ. الأهالي يقولون إنّهم “تكيّفوا” مع الطنين، لكنّ التكيّف لا يعني الطمأنينة. في مواجهة هذا الضغط النفسيّ، تفرز المجتمعات سلوكيّات متناقضة. فبعضهم يتّخذ من اللامبالاة سلاحًا نفسيًّا، يحاول تحريف الخوف نحو مزحة ثقيلة، بينما يتّجه آخرون إلى محاولة تجاهل وجودها والعجز الذي يرافق ذلك.

أمّا علماء النفس فيرون أنّ ما يحدث ربّما يراكم عند البعض تأثيراتٍ طويلة المدى، من اضطرابات في النوم ونوبات خوف عند سماع أصوات مشابهة، إلى زيادة مستويات الهلع القلق والانفعال والاكتئاب.

إشاراتُ موتٍ ومصدرُ شؤم

“لقد غدا صوتها من الأصوات الاعتياديّة التي لا نتنبّه إليها إلّا عندما نركّز، ومع ذلك، فإنّ تأثيرها النفسيّ عميق. فعلى الصعيد الشخصيّ، عندما أسمع صوتها خافتًا، أشعر بألمٍ في بطني، وأحيانًا تراودني نوبات هلع، لأنّ هذا الصوت بات مرتبطًا في ذهني بالموت، وكأنّه إشارة إلى أنّه هناك من سيُقتل اليوم” تقول رياسة.

وتضيف واصفةً أثر ذلك عليها “إنّه قلقٌ يوميّ يضاف إلى قلقنا المزمن. أعاني شخصيًّا من اضطراب القلق، وتزداد الأعراض حدّة كلّما سمعت صوت المسيّرات أو قرأت خبرًا عن استهداف جديد”.

لم يعد التحليق الإسرائيلي المتواصل في الأجواء اللبنانيةّ اليوم، مجرّد نشاط استطلاعيّ أو أمنيّ، بل تحوّل إلى سلاح نفسيّ يهدف بكلّ وضوح إلى ترهيب السكّان وإبقائهم في حال توتر دائم. فالصوت المزعج للطائرات المسيّرة، الذي يمتدّ أحيانًا إلى ساعات متواصلة فوق المدن أو القرى، يشكّل ضغطًا يوميًّا على الأهالي، ويغذّي شعورًا بالعجز والتهديد المستمرّ. ومن خلال هذا “الإزعاج الممنهج”، تسعى إسرائيل إلى تكريس حضورها النفسيّ في المشهد اللبنانيّ، في تذكير دائم بقدرتها على المراقبة والسيطرة.

على رغم أنّ التعامل الشعبيّ مع تحليقها يميل إلى السخرية أحيانًا، إلّا أنّه مزاحٌ ممزوج بالحزن، فخلف حضورها دومًا في ذهنهم احتمال اغتيال أو استهداف

حصار دائم

فعليًّا، هذه الاستراتيجيّة ليست جديدة، إذ لطالما عاش أهالي القرى الحدوديّة في الجنوب تحت حصار دائم لتحليق المسيّرات الإسرائيليّة. لكن ما نشهده اليوم يمثّل امتدادًا أوسع لهذا الواقع، إذ باتت الطائرات تحلّق حتّى فوق المقرّات الحكوميّة والرسميّة من دون أيّ رادع أو مساءلة. فمنذ دخول “وقف إطلاق النار” حيّز التنفيذ في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، أصبحت المسيّرات جزءًا لا يتجزّأ من المشهد اليوميّ في لبنان، تفرض حضورها القسريّ على حياة الناس. حتّى صار اللبنانيّ اليوم يتابع غياب المسيّرات كما يتابع غياب المقرّبين منه، بل ويسأل عنها.

وعلى رغم أنّ التعامل الشعبيّ مع تحليقها يميل إلى السخرية أحيانًا، إلّا أنّه مزاحٌ ممزوج بالحزن، فخلف حضورها دومًا في ذهنهم احتمال اغتيال أو استهداف، وعلى أقلّ تقدير فقدان الخصوصيّة.

في البقاع، لا يختلف المشهد كثيرًا. الأصوات نفسها تتكرّر. يقول محمد خيرالدين، من سكّان مدينة بعلبك لـ “مناطق نت”: “المسيّرات صارت مثل الظلّ الذي لا يتركنا، صوتها صار مألوفًا، ووجودها دليل على أنّنا بانتظار حدث سيّء سيجري.”

“صمت يثيرُ قلقًا أكثر”

تعتبر زينة طرّاف، من بلدة النجّاريّة، “أنّنا في الجنوب نعيش يوميًّا مع المسيّرات”، تتابع لـ “مناطق نت”، بنبرة تجمع بين الاعتياد والقلق “بالنسبة إليّ، إذا مرّ يوم من دون أن أسمع صوتها، أبدأ أتساءل أين اختفت؟ وأشعر بالقلق، وكأنّ أمرًا أكبر سيحدث، ربّما غارة مفاجئة من الطيران الحربي! أمّا عندما أسمع صوتها، فأشعر بشيء من الارتياح، لأنّني أقول لنفسي: ما دمت أسمعها، فهذا يعني أنّ الضربة ليست علينا.”

لكنّ هذا “الاطمئنان” سرعان ما يتحوّل إلى توتّر، فتتابع “حين تختفي فجأة، خصوصًا في الليل، يزداد خوفي أكثر”. وتقول “عندما نلاحظ مسيّرات منخفضة تحلّق وتدور فوق منطقة محدّدة، نعرف أنّه بعد يوميّن أو ثلاثة ستكون هناك ضربة كبيرة.” ثمّ تضيف “صوت المسيّرات لا يخيفني أبدًا، لكنّ صمتها هو ما يثير قلقي أكثر.”

هناك بعض الإجراءات التي قد تقلّل من حجم الضرر المحتمل، مثل استخدام أدوات لإخفاء عنوان الـIP، أو تفعيل “وضع الطيران” عند عدم الحاجة إلى الاتّصال، وكذلك إيقاف تشغيل شبكة “الواي فاي”

في بيروت ومدن أخرى، لا يُسمع الطنين دائمًا، لكنّ الشعور بالانكشاف أصبح عامًّا. فالمعلومات التي تتحدّث عن قدرات المسيّرات على رصد الهواتف والاتّصالات جعلت اللبنانيّين يعيشون قلقًا جديدًا: ماذا يُمكن أن يعرفوا عنّا بعد؟

روايات وسخرية

الهلع من المسيّرات رافقه كثير من الأخبار التي تتحدّث عن قدراتها الخارقة، وصولًا إلى السخرية منها، وهو ما انتشر على وسائل التواصل من خلال نشر صورة لمسيّرة بالقرب من نافذة، مرفقة بعبارة “نزلت بدها تشرب قهوة معي”. إلى تداول عدد من الروايات على لسان أشخاص تواصلت معهم تلك المسيّرات بشكل مباشر، في بلدات مثل حولا، الخيام، عيتا الشعب وتبنين وغيرها. كما لجأت الدرونز إلى بثّ رسائل صوتيّة أكثر من مرّة لإثارة الذعر مع توزيع منشورات تتضمّن خطابات تحريضيّة وتخويفيّة. من بينها ما استهدف أخيرًا المهندس طارق مزرعاني، منسّق “تجمّع أبناء القرى الجنوبيّة الحدوديّة”، عندما بثّت المسيّرات تسجيلات تشكّل رسالة تحريضيّة وتهديدًا له بشكل مباشر داعيةً إلى طرده.

مسيّرات تراقب وتشوّش

يوضح عبد قطايا، مدير برنامج الإعلام في منظّمة “سمكس” للحقوق الرقميّة، في حديث لـ “مناطق نت”، أن هذه الطائرات الصغيرة قادرة اليوم على جمع كمّيّات هائلة من البيانات، بدءًا من الصور الثلاثيّة الأبعاد للمدن وحتّى معلومات دقيقة تُحلّل لحظيًّا عبر مراكز بيانات متقدّمة مرتبطة بالذكاء الاصطناعيّ.

ويعتبر قطايا أنّ الخطر ليس مقتصرًا على المراقبة فقط، إذ يشير قطايا إلى عمليّات التشويش على الاتّصالات في لبنان، ما يثير أسئلة عن سبب التشويش وسبل مواجهته. ويؤكّد قطايا أنّ الدولة مطالبة بالتحرّك لتوضيح حقيقة تأثير المسيّرات أمنيًّا على المواطنين، فغياب الشفافيّة يزيد من الشعور بالقلق والخطر الدائم فوق الرؤوس.

ويرى أنّ الحدّ الأدنى من المسؤوليّة الوطنيّة يتطلّب إطلاع الناس على ما يجري، خصوصًا أنّ التهديدات التقنيّة لم تعد مسائل عسكريّة وحسب.

إمكانات متطورة وكبيرة

يشرح قطايا أنّ المسيّرات الحديثة تعمل وفق طبقات، تتيح لها جمع كمّيّات كبيرة ومتنوّعة من المعلومات. تبدأ هذه العمليّة من أبسط الإشارات الإلكترونيّة التي تصدرها الأجهزة المحيطة.  ويقول “إذا كان أحدهم يسير في سيّارة وقد أطفأ هاتفه، فإنّ هذا بحدّ ذاته يُعدّ إشارة، لأنّه يتحرك من دون أن يُظهر أيّ اتّصال أو نشاط إلكترونيّ. كلّ هذه التفاصيل الصغيرة تتحوّل إلى بيانات يمكن قراءتها وتحليلها.”

ويشير إلى أنّ هناك بعض الإجراءات التي قد تقلّل من حجم الضرر المحتمل، مثل استخدام أدوات لإخفاء عنوان الـIP، أو تفعيل “وضع الطيران” عند عدم الحاجة إلى الاتّصال، وكذلك إيقاف تشغيل شبكة “الواي فاي”.

لكنّ قطايا يشدّد على أنّ المسؤوليّة لا تقع فقط على المواطن لحماية نفسه من المراقبة الجوّيّة، ويضيف “المسألة لا تُحلّ بأن يقوم الأفراد بإجراءات وقائيّة فقط، بل هناك مسؤولية أكبر على الدولة. إذا لم تستطع الدولة إيقاف تحليق المسيّرات، فعليها في الأقلّ توعية الناس، وتوضيح ما يجري، وتقديم الشكاوى اللازمة ورفع الصوت”.

ختامًا، ليست المسيّرات مجرّد طائرات تحوم في السماء، بل هي اليوم مرآة تعكس واقعًا لبنانيًّا مكشوفًا ومأزومًا، واقعًا يعيش فيه الناس بين خوفٍ مألوف وقلقٍ متجدّد وحصار يحكم قبضته من دون حدود، في حين يبقى السؤال معلّقًا: متى ستعود الحياة إلى إيقاعها الطبيعيّ بلا طنين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى