“حكايات جنوبية”.. محمد أبو جهجه ينفض الغبار عن قصص الجنوب
مع كل صباح، أدير مفتاح سيارتي، أنتقل من صور إلى مرجعيون، وفي أحيان من البازورية نحو حانين، وهكذا تنفتح الطرقات أمامي نحو الأقارب والأصدقاء، بين العمل والواجبات والترفيه عن الذات، نمشي لنعيش زمننا الحاضر، لحظتنا المرئية، الروائح الآنية. ثم ندرك أن هذه الوردة ابنة البذور الوردة التي سبقتها، والوقت المعاش هو الجزء الصغير من بذور نسجها الآباء ونحتها الزمن وألفتها الفصول.”
لعل ما دوّنه محمد أبو جهجه في مقدمة كتابه الصادر حديثاً عن دار زمكان “حكايات جنوبية” يشكل باباً للولوج إلى الحكايا التي قال عنها إنها كشكول جمع فيه “باقات الكلام، من قرى الجنوب ومدنه، من بحره حتى آخر جباله، من قلعة دوبيه حتى بئر الطيبة وبركة كونين وخلوات البياضة ومغارة قانا وثلج جبل الشيخ”.
حكايات محمد أبو جهجه الجنوبية تختلف عن سواها من الحكايات التي سمعنا عنها كثيراً، وإن كانت تتشابه معها. لكن خاصية تلك الحكايا هي أن أبو جهجه أخرجها من المشافهة إلى التوثيق ومن العتمة إلى حيّز الضوء، وأيضاً أنها لأشخاص عاديين تركوا بصمات مؤثرة في بلداتهم وقراهم لا زالت عالقة على الجدران وجذوع الشجر، وفي فضاء المكان وذاكرته.
حكايات الكتاب التي توزعت على 28 قطعة، بعضها عايشها الكاتب بنفسه وعن كثب والبعض الآخر اختاره من صحف ومواقع ومنها موقع “مناطق نت”، حيث أضاف الكاتب ما رآه مناسباً عليها.
ذاكرة المكان
الحكايات تندرج ضمن توثيق ذاكرة المكان والناس من خلال سرديات لشخصيات وأمكنة وأحداث ومهن وعادات وتقاليد، شهدت جميعها على حقبات متنوعة، وبالرغم من الشقاء والكد والتعب الذي كان يعتريها إلا أنها كانت حقبات جميلة، هي بمثابة جذور لذاكرتنا التي تنزف الآن جرّاء اندثارها وتواريها طي الاسمنت وطي التغييرات الجذرية التي عصفت بالجنوب خلال الأربعين سنة الماضية، حيث العشوائيات العمرانية واختفاء البيوت الطينية القديمة وغيرها من المظاهر الدافئة التي كان يزخر بها الجنوب واندثرت، ويتذكرها ممن عايشوا تلك الحقبات.
أبو جهجه قال لـ “مناطق نت” إن الكتاب هو عبارة عن مساحة لكي يتعرف الجيل الجنوبي الجديد على تراث منطقته وتاريخها من خلال الحكايا التي عشت بعضها شخصياً وصارت جزءاً من الكتاب والبعض انتقيته من بعض وسائل الإعلام نظراً لأهميتها وتميزها”. يتابع “ما يضمه الكتاب من حكايا جزء كبير من الناس لا يعرفونها أو سمعوا بها وبالمناسبة يعيشون في المكان نفسه الذي كان يضم تلك الحكايا، وهي بمجملها لها علاقة بالعادات والتقاليد والأعراس والمآتم ونمط الحياة وآليات الإنتاج وغيرها من التفاصيل التي تشكل نبض الذاكرة التي توغل عميقاً في تراثنا الشعبي الغني”.
أبو جهجه الذي جال طوال عشرين عاما في بلدات وقرى الجنوب من أقصاه إلى أقصاه بحكم عمله في مجال التنمية البشرية في الأمم المتحدة، لم يكن تجواله عابراً، بل كان حريصاً على التعرف على تلك البلدات والقرى وعلى الالتقاء بناسها ولملمة حكاياها والذي صار جزءا منها في “حكايات جنوبية”. عن ذلك يقول أبو جهجه إنه من الصعوبة بمكان جمع كل الحكايا ونشرها دفعة واحدة نظراً لكثرتها وتشعبها، لكن بالتأكيد سوف يكون هناك إصدارات جديدة تكشف عن حكايا أخرى لا تقل جمالاً وحلاوة من تلك المنشورة الآن، فكل قرية أو بلدة جنوبية لها هويتها ورمزيتها وحكاياها التي تختلف عن البلدات الأخرى”.
عادات وتقاليد في خبر كان
لا شك أن الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات والاجتياحات المتكررة ونزوح الجنوبيين إلى المدينة كان له الأثر الكبير في بعثرة جزء كبير من تراث المكان بما يضم من حجر وبشر وصبير وتين وبير مي وعريشة وسطيحة وحمارة وقادومية وتصوينة وفدان وغيرها من الأشياء والمفردات. هذا ما قاله أبو جهجه عن أن العديد من بلدات الجنوب إن لم يكن أكثرها قد فقد طابع القرية القديمة الراسخة في ذاكرة ممن عاشوها، لناحية البيوت والعادات والتقاليد ونمط العيش.
وأعطى أبو جهجه نموذجاً لأعراس أيام زمان من أنها كانت “فرخة وديك” أي شاب وصبية يشبكن أيديهم و”يقطرن عالدبكة”، وهذا تراث وعادات اندثرت للأسف!
أبو جهجه أوضح أن نزوح الجنوبيين بفعل الاحتلال الاسرائيلي إلى بيروت وغيرها، كان من العوامل التي أدّت إلى ضياع التراث الجنوبي، وذلك بفعل البعد عن المكان والاندماج في أماكن أخرى كان لها التأثير الكبير في ذلك.
عمر الحكايا
عن عمر الحكايا في “حكايات جنوبية” يقول أبو جهجه إنها تعود لأكثر من مئة عام، إلا أنها بالرغم من ذلك فهي تستند إلى تاريخ متراكم هو الذي تستند إليه تلك الحكايا. في الكتاب حكاية عن مطار سهل مرجعيون وكيف تم بناءه في مطالع القرن الماضي من قبل البريطانيين، وفي الكتاب أيضاً قصة المعمر الحاج مهدي منصور وهو من بلدة أنصار الجنوبية. عاش 122 سنة وشهد حقبات عديدة من تاريخ لبنان من الإقطاعية والعثمانية إلى الاستعمار الفرنسي وصولاً إلى الدولة اللبنانية. منصور كان له دور في بناء السرايات في كل لبنان. من سراي البترون إلى سراي جونية مروراً ببحنس وبعقلين وجزين وأنفه وجديدة المتن والشويفات والمستشفى العسكري في بعبدا. كما شارك في بناء الجسور منها جسري نهر الكلب وابراهيم.
وفي الكتاب أيضاً حكاية الشيخ ناصيف النصار التي تعود إلى العام 1781 وتروي حكاية ذلك الشيخ الذي قاد 700 فارس من قواته لمواجهة جيوش أحمد باشا الجزار التي هاجمت جبل عامل واستشهد بعد أن سقطت به الفرس على صخرة قرب بلدة يارون الجنوبية.
بُعدان اعتُمدا في “حكايات جنوبية” يقول أبو جهجه، منها الجغرافي الذي راعى جميع المناطق ساحلاً وجبلاً ومدناً وقرى وبلدات، ومنها التنوع الحكائي ما بين المهن والتراث والقلاع والأمكنة والشخصيات.
“حكايات جنوبية” أكثر من كتاب. هو تاريخ من لحم ودم.. حكاية البيوت الطينية وحدلها عند كل شتاء مجبولة بالتعب وبساطة العيش. حكايا عاشها ناس وانغرست في الأمكنة ووجدت طريقها لتستقيم في كتاب.