حكاية ألفي شجرة وشجرة أحرقتها الحرب في زوطر الغربيّة

للناس في أيّام الرخاء والهدوء حكايات وقصص لا تُنسى، فكيف بها في أيّام الحرب؟ لحظات عصيبة تجلّت في خلال 66 يوماً من حرب ضروس شنّتها إسرائيل على لبنان، كلّ لبنان، وبخاصّة جنوبه وبقاعه وضاحية بيروت الجنوبيّة، كانت امتداداً، لم ينتهِ حتّى اليوم، لنحو سنة من حرب غير معلنة، متقطّعة أحياناً، وحامية الوطيس في أحيان كثيرة، هذه الحرب التي لم تنجلِ تداعياتها بعد، تركت في نفوس الناس ممّن نزحوا أو قُتّلوا أو دُمّرت بيوتهم وأرزاقهم وحتّى قراهم، ولا سيّما في قرى الحافّة الأماميّة من الحدود التي دُمّرت عن بكرة أبيها، قصصاً لا تُعدّ أو تُحصى، وستدوم وتستمرّ من جيل إلى جيل.
كيف، مثلاً، لمن أفنى مجمل عمره يجاهد في دنيا العلم والفنّ والاغتراب كي يكوّن رصيداً عاد به إلى قريته وزيّنها بدارة جميلة وغابة لم يزرع فيها الأشجار البرّيّة والمثمرة وحسب، بل زرع روحه وحواسّه ونحو أربعين سنة من عمره يراقبها لحظة بلحظة ويرعاها، ويقيسها شبراً بشبر، ثمّ يعود إليها بعد هذه الحرب ليجدها قد تفحّمت بسبب القصف الوحشي والعشوائي؟
عُدنا.. فماذا وجدنا؟
هي مقاطع أو مقتطفات من قصّة الفنّان التشكيليّ الدكتور حسين منيف ياغي من زوطر الغربيّة، وكذلك لزوجته ورفيقة عمره زينب شعيتاني حيّز منها، إذ عادا من اغترابهما وأفراد العائلة في العام 1986 كي يستقرّوا في لبنان، وتحديداً في مسقط الرأس زوطر الغربيّة، فبنوا دارة على الكتف الشماليّ لمجرى نهر الليطانيّ الذي ينبع من البقاع ويشق أودية عشرات القرى والبلدات الجنوبيّة، ومنها الزوطران الشرقيّة والغربيّة، قبل أن يصل إلى البحر عند القاسميّة شمال مدينة صور. وأحاطوا الدار بحديقة من نحو خمسة دونمات (الدونم ألف متر) واستصلحوا مساحات واسعة من الأرض البور المنحدرة بصعوبة نحو مجرى النهر وحوّلوها إلى غابة غنّاء استوطنتها البيئة الخضراء العليلة والطيور والحيوانات البرّيّة.

ولنقرأْ القصّة بلسان راويها، الدكتور حسين ياغي، إذ يقول: “عدنا إلى زوطر الغربيّة بعد إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في اليوم التالي، وكان كلّ همّنا أن نجد البيت قد سلم من الدمار وآثار الحرب، هي أضرار قليلة عاينّاها إذا ما قارنّاها بالبيوت التي دمّرت جزئيّاً أو كلّيّاً، لكن وفي لحظة دخولي أنا وزوجتي إلى البيت اشتمّينا رائحة حريق ودخان تنبعث بشدّة، ثم لفت انتباهنا طبقة من الغبار الأسود (شحبار) أو الأبيض على الجدران الداخليّة، تفقدّنا الدار وأحصينا زجاجاً محطّماً وأضراراً في الجدران والقرميد، وأدركنا أنّ رائحة الحريق والدخان آتية من ناحية الوادي، من شمال مجرى الليطانيّ، من حرائق اشتعلت هناك، ولم نستوعب بداية ما هو حاصل وكانت جلّ همّنا سلامة الدار”.
ألفا شجرة وشجرة احترقت بكاملها
ويتابع الدكتور ياغي روايته: “في مساء ذاك اليوم، أو صبيحة اليوم التالي نظرت نحو الحقول القريبة من الدار، إذ نمتلك نحو 12 دونماً من الأراضي، منها خمسة دونمات أو أكثر قليلاً في محيط البيت لم تصلها النيران بسبب الجدار العالي الفاصل بينها وبين بقيّة الحقول، لقد رأيت كلّ ما تحت الجدار وقد احترق، نزلنا، ويا للكارثة! كلّ شيء تفحّم: أشجار الصنوبر والسنديان والزيتون والخرّوب والكينا وأصناف أخرى كثيرة، هذا عندي، وغيري لديه بساتين زيتون وأفوكادو، سمّاق وعنب وتين وليمون وغيرها، فمن رأس التلّة حتى أسفل الوادي الجبل كلّه محروق، كان عندي ولدى غيري ما يتجاوز 2000 شجرة وشجرة احترقت بكاملها، كانت تنتشر على مساحة تتجاوز الـ 100 دونم”.
ياغي: كان عندي ولدى غيري ما يتجاوز 2000 شجرة وشجرة احترقت بكاملها، كانت تنتشر على مساحة تتجاوز الـ 100 دونم
ويفنّد الفنّان ياغي آثار الحريق وأضراره “من تحت بيتنا في زوطر الغربيّة وباتّجاه زوطر الشرقيّة، وادٍ بكامله من أعلاه وانحداراً نحو النهر احترق بمسافة تتجاوز ثلاثة كيلومترات، إنّها كارثة، فقد وجدنا سلاحف نافقة، ثعالب مشويّة، نياصاً هالكة (مفردها نيص وهو القنفذ الكبير). كثير من حيوانات الجبل والوادي لم نعد نراها منذ ذاك الحين، أو رأيت منذ وقت قصير أحد الثعالب وقد عاد يقترب من بيتنا وربّما أحد الضباع. بيئة طويلة وعريضة رعيتها واهتممت بها منذ نحو 40 سنة، من حيوانات برّيّة، ثعالب وضباع، حتى أضحت بيئة مثاليّة، كلّها باختصار، أيّ بيئة والشجر والأحراج والحيوانات احترقت برمّتها، والواضح أنّ النيران اشتعلت في أيّام القيظ، أيّ في تشرين الثاني، والأرجح في أواخر الحرب، قبل وقف النار بنحو أسبوع واستمرّت عدّة أيّام حتّى قضت على كلّ شيء”.
بين البداية والنهاية
بدأ التشكيلي حسين ياغي مشروع الدار والجوار والغابة في العام 1986 “بنينا البيت واشترينا الأرض حولها وكانت أرضاً جرداء منحدرة، أحضرنا جرّافة و”بوكلين” ضخماً و”جلّلناها” (استصلاح الأرض) وشيّدنا جدراناً ضخمة بمسافة ألف متر وردمناها بأتربة جديدة أحضرناها من زوطر الغربية، مئات الشاحنات من التراب نقلناها إلى هذه الأرض حتى أضحت على ما هي عليه، وبدأتُ في زراعتها بما استطعت إليه من أنواع الشجر البري والمثمر، وأنا عندي ولع بالشجر البريّ لا سيما تلك الأصناف التي تلائم مناخ بلادنا. زرعت نحو 100 شجرة صنوبر، ومثلها أو أكثر سندياناً، وأكثر من 100 زيتونة و15 شجرة خروب ومثلها شجر كينا وتجاوزت أرضي وزرعت في المشاعات والأرض البور واليباب، قمت بعمليتيّ تحريج وبستنة كاملتين وسقيت زرعها وأغراسها مدة ثلاث سنوات على الأقل حتّى صلب عودها”.

لا تقتصر فوائد الأحراج التي زرعها الدكتور ياغي على تماسك الأرض والتربة وتنقية الأجواء وتأليف مناخ عليل وفيء مستديم، بل استفاد من ثمار شجر الصنوبر والخرّوب وأوراق بعضها، لكن “ما احترق عندي وحدي يراوح بين 60 و70 في المئة من “الجلول” المحدثة في أرض مستعرضة (منحدرة) يبلغ عرض الجلّ فيها 20 متراً وطوله بين 200 و300 متر كلها تحولت إلى أعمدة سوداء جرداء منتصبة أو متفحّمة”.
كان ياغي قد بنى ثلاثة خزانات مياه كبيرة ومدّ إلى الأرض المستصلحة شبكات ريّ تغطّي مساحة تراوح بين 200 و250 متراً “لو كنّا لم نزل في البيت ولم ننزح أو نغادر ربّما كنت أقدمت على محاولة إطفاء النيران المشتعلة على رغم ضراوة الحرب التي كانت، وربّما كذلك ما استطعت القيام بذلك بسبب عشوائيّة هذه الحرب وغدر العدوّ، لم أعد أدري” يقول.
“لن أزرع من جديد”
نسأل الفنان ياغي عمّا سيفعله في المستقبل وهل سيعيد عملية التشجير التي بدأها منذ أربعين سنة؟
يجيب بلا تردّد “لا، لا، لا.. من أين سآتي بـ 40 سنة جديدة كي أعيد ما بدأته منذ 40 سنة سلفت، وعمري بات على أبواب الـ 75 عاماً؟ قلت لأولادي: إذا أردتم زراعتها تعالوا من غربتكم، خذوا إجازات من أعمالكم وتعالوا شجّروها، أنا اكتفيت بما بقي لي ولزوجتي من حقول الدار الملاصقة، بين 30 و35 في المئة من المشروع الكبير، وربّما مع تقدّم العمر سوف نكون عاجزين عن خدمتها، لن أستطيع أن أزرع من جديد، أو ربّما سأعدّ مشتلاً لزراعة شتول صنوبر مؤصّلة أفضل من تلك المنتشرة في الأسواق، وسأرعى هذا المشتل بقدر استطاعتي من السنين والظروف التي تسمح بذلك”.
ياغي: قلت لأولادي “إذا أردتم زراعتها تعالوا من غربتكم، خذوا إجازات من أعمالكم وتعالوا شجّروها”، أنا اكتفيت بما بقي لي ولزوجتي من حقول الدار الملاصقة
ليس من السهل إعادة جهد وتعب 40 سنة في أعوام قليلة، وهذه ليست حال غابة ياغي أو أحراج وحقول الزوطرين وحسب، بل هي حال مئات الهكتارات من الأحراج والبساتين التي أتى عليها العدوان الإسرائيلي المتمادي وخصوصاً في المناطق الحدوديّة.
يقول ياغي: “تخيّلوا زراعة نحو 400 شجرة ورعايتها حتّى أضحت كبيرة، ثمّ أحرقها العدوان. كانت تشكّل بيئة جميلة، وكنّا نتسلى بحيواناتها البرّيّة وطيورها من شحارير وترغلّ وحمام برّيّ وثعالب ونياص وضباع وخنازير برّيّه وغيرها من الحيوانات والزواحف والحشرات. فالبلابل مثلاً تستوطن هنا في الحقول القريبة، أترك لها ثمار نحو 12 تينة في موسم النضج كي تأكلها وأكتفي بقليل القليل، وكذلك شجرات الأكّيدنيا نتركها للعصافير كي نفرح لفرحها ونستمتع بأصواتها وطيرانها وما تدبّه من حياة على التلال وفي الوادي”.
الطيور تعود بعد نزوح
بعد العودة من النزوح القسري، لاحظ الدكتور ياغي غياب العصافير التي كانت تملأ فضاء حقوله وأحراجه، وافتقد زغردتها وعذب أصواتها؛ وبرأيه فإنّ “العصافير تخاف مثل الناس، ربّما تكون الانفجارات العنيفة التي حصلت جرّاء القصف الإسرائيليّ بالقنابل الثقيلة حولنا قد مزقت رئاتها وأدمغتها، فثمّة أناس وأفراد لم يسلموا من قوّة الانفجارات وشعاعات مسافاتها التدميريّة وقُتلوا بنزيف داخليّ جراء تفجّر الأوردة والشرايين، فكيف بهذه الطيور الصغيرة؟”.
ثمّ يستدرك، أنّها “بدأت تعود شيئاً فشيئاً، نحن نضع لها أوعية ماء وأجراناً وحبوباً وأطعمة تشجيعاً لعودتها وبدأت بذلك. كلّ الطيور مرغوب بها هنا في زوطر والجوار ما عدا طائر المينا الذي يفتك بالطيور وببيوضها وفراخها وبالمزروعات. كذلك فإن أحد الثعالب عاد منذ أيّام عدّة إلى أمام بيتنا، مثلما كان يفعل وأترابه في السابق، كان جائعاً فقدّمنا له الطعام، كانت الثعالب والضباع تقترب من بيتنا مسافة مترين أو ثلاثة بعد أن عودناها على ذلك، تأتي كي تأكل، كان ذلك يتكرّر منذ زمن بعيد وإلى ما قبل احتراق الغابة”.
زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون
يجزم الدكتور ياغي بأنّه لن يقوم بقطع جذوع الأشجار المحترقة بعد تفحّم أغصانها أو تحوّلها إلى رماد، “فأنا لن أستطيع ذلك، بل أتركها للوقت والزمن فربّما سيفرّخ بعضها من جديد، إذ لاحظت ذلك من شجرة خرّوب احترقت مثل رفيقاتها ثمّ فرّخت بعد فصل المطر من جديد. يسألني بعض الرفاق: ما بك؟ مشكلتي أنّني لم أستوعب بعد ماذا حلّ بهذه الدنيا التي صنعناها طوال 40 عاماً، لذلك لا أريد قطعها، بل لا أستطيع قطعها ولن أقدر على أن أزرع من جديد”.
ربّما يجد بعض الفنّانين من حريق غابة وحياً للوحة تعبّر عن مكنوناتهم تجاهها، لكنّ صديقنا الفنّان التشكيليّ حسين ياغي لا يتقبّل الفكرة، لماذا؟ نسأله؛ فيجيب “أنا أرسم لوحات فَرِحة ملآى بالحياة وبألوان زاهية، لن أرسم أشجاراً محترقة كانت منذ وقت ليس ببعيد تورف ظلالاً وتداعب الريح وتخبّئ في جنباتها أعشاش الطيور والعصافير”.
على المنحدر الصعب بين الزوطرين الشرقيّة والغربيّة ومجرى الليطانيّ، في الكروم المروّضة من الأهالي والمزارعين بعد استصلاح أراضيها، تنتصب أجذاع الشجرات التي لم تسلم احتراقاً من فتك العدوّ المدمّر لمختلف شؤون الحياة وبيئتها وناسها، ثمّة جذوع بدأت تقاوم الموت ففرّخت من جديد، ومثلما بدأ الفنّان حسين ياغي بمشروعه من فكرة تطوّرت ونمت في خلال أربعين عاماً، بعدما زرع كي تأكل الناس والطيور والحيوانات وتستفيد من بيئة سليمة معافاة، ثمّة من سيعيد الفكرة ويكرّرها، وسوف يزرع كي تأكل الأجيال القادمة، وتنهض الحياة من جديد، في كلّ نواحي الجنوب.