حكاية العجوز في الثورة الطلابية الفرنسية…أين لبنان في المدرسة؟
ناصر عجمي
الحرية لا تعطى ولا تؤخذ هي تجربة نبنيها بالمعرفة…
كل شيء في وطن الفدراليات الطائفية المنهوبة المنكوبة يسير إلى الوراء إلا ساعته التي تسير إلى الأمام، وكلما تقدمت في الزمن تجعلنا نتحسر على أيام قاسية وصعبة عشناها أيام الحرب الأهلية التي نرفضها جميعاً، لكنها كانت أقل قسوة ووطأة من الآن. إذ وبالرغم من القذائف التي كانت تنهمر بغزارة وبالرغم من تقلبات سعر صرف الليرة والفلتان الأمني الميلشياوي والاعتداءات الإسرائيلية، بقي الوضع معيشةً واقتصاداً أفضل حالاً من الآن. وهذا يؤشر إلى أن الدولة حينها أو ما تبقى منها استطاعت أن تقي بمظلتها الاقتصادية الهشة ويلات ما نشهده الآن. واستطاعت من خلال تلك المظلة إرساء شبكة أمان اقتصادي، منعت فيها أي مواطن من أن يقدم على إحراق نفسه احتجاجاً كما فعل إبن الشمال جورج رزق.
الوضع الاقتصادي الصعب الذي نعيش والذي يقارب الانهيار ليس وليد اللحظة ولم يأتِ من الفراغ، بل من الفساد الذي استشرى وتمدّد في كل مفاصل الدولة والمجتمع، حتى تحول إلى سرطان خطير تفشى في كل جسد الوطن والدولة، والطريف أن من تسبّب بذلك الفساد ومسؤول عنه يطالعنا كل يوم بمعزوفة «محاربة الفساد»، وهذا إن دلّ فهو يدل على شيء واحد وهو جهلنا وتقاعسنا ويدل على أنّ الفساد سيستمر وبشكل أخطر وما نرى منه ليس سوى قمة جبل الجليد الذي إن ذاب سيكشف لنا أهوال ما فعلته تلك الطبقة السياسية بهذا البلد وبأبنائه. لكن «ذاكرة السمك» التي يتمتع بها غالبية اللبنانيين وتقبل العيش في دوامة النهب المنظم والفساد المتفلت المستشري، يجعل احتكار السلطة من زمرة الإقطاع السياسي الطائفي الميليشياوي أمر ممكن ومستدام، سلاحها في ذلك طبيعة وشكل نظامنا السياسي الذي يتخذ من الطائفية قلعة حصينة منيعة للدفاع عن امتيازاته وجشعه. مرتكزاً في ذلك على ارتهاننا وتدجيننا للتعايش مع مختلف أنماط الحروب الأهلية المستمرة بأشكالها المختلفة والتي تكون تارةً علنية وطوراً مقنعة تحت ستار عناوين كثيرة ستؤدي بنا في نهاية المطاف نحو الانهيار الكارثي المحتوم.
إن منظومة القيم الاجتماعية الثقافية الاخلاقية التى تحدد شكل ممارستنا السياسية في كل قطاعات المجتمع اللبناني، لا تبشر بأي أفق نحو بناء وطن ودولة في ظل طبقة سياسية (واتباعها دون استثناء) يتجلى فيها الفساد والافلاس برعاية نظام سياسي طائفي مذهبي مما يجعل الهجرة أفق وحلم كل لبناني يسعى للعيش بكرامة.
الحديث عن منظومة القيم يقودني إلى الحديث عن تجارب الشعوب وتعلّمها من ذلك وهنا لا بد لي أن أذكر ما قاله لي أستاذي أثناء الدراسة عن الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت في فرنسا في أيار عام ١٩٦٨ ومن ثم عمت العالم، حيث ذكر أنه أثناء إحدى التظاهرات التي سارت في باريس رفضاً لمشروع تعديل القوانين في القطاع التربوي. كانت مراسلة مجلة «باريس ماتش» تستصرح المتظاهرين لفت نظرها رجل متقدم في السن، فاقتربت منه وسألته عن عمره فأجاب ٧٠ سنة. ثم سألته إن كان لديه أولاد أو أحفاد في الجامعات. فأجابها بالنفي، ثم عادت وسألته إن كان يدرس في الجامعة أم يقيم في باريس فأجابها بالنفي أيضاً. فما كان منها إلا أن سألته عن الذي دفع به إلى المشاركة في التظاهرة؟ فأجابها أنه قدِم من مرسيليا الواقعة جنوب فرنسا وتبعد عن باريس تقريباً المسافة ذاتها التي تبعدها بيروت عن بغداد لأنه اعتبر أن أي «مَس في نظامنا التربوي يعني المس بأحد أركان وركائز الجمهورية»، وبالتالي هذا الأمر يهدّد بانهيار الأمة الفرنسية.
إشكاليتنا ليست في التعلم، بل بـ «ما هو الذي نتعلمه وكيف نتعلمه» وضمن أي نظام تربوي، والأخير تقع على عاتقه دينامية إعادة إنتاج المجتمع وثقافته وأخلاقه. فالمعضلة والمشكلة تكمنان في نظامنا التربوي الطائفي الذي يكرس اعادة انتاج وعي مجتمعي طائفي يسمح لقوى السلطة استغلالها لتكريس ديمومتها. ويتجلى ذلك من خلال دعم التعليم الخاص والطائفي على حساب التعليم الرسمي في بلد تعتبر ثروته في طاقاته البشرية، مما يجعل التحصيل العلمي اللاطائفي متاح لمن استطاع إليه سبيلا ولكن! فلبنان «سايكس بيكو» وُلد وكان التعليم فيه مقتصراً على المؤسسات التربوية الدينية والطائفية واستمر حاله كذلك إلى ما بعد الاستقلال الأمر الذي أعطى الدولة والسلطة حينها مبرراً للاستقالة من مسؤولياتها في تأمين أحد الحقوق الأساسيه للإنسان في لبنان الا هو حق التعلم والمنصوص عنه في شرعة حقوق الانسان التي نتفاخر أننا ساهمنا في صياغتها.
بالرغم من محاولة الرئيس فؤاد شهاب دعم التعليم الرسمي، وبالرغم من التحركات المطلبية التي قامت من أجل ذلك ومنها إنشاء الجامعة اللبنانية الوطنية، بقي التعليم الخاص والطائفي تحديداً راجحاً وبقي يستقطب أكثر من ٦٠٪ من الطلاب في لبنان حتى عشية الحرب الأهلية في نيسان ١٩٧٥، فكان هذا القطاع الأكثر تضرّراً من الحرب حيث انقسمت الجامعة اللبنانية الوطنية التي نافست أهم الجامعات الخاصة العريقة إلى جامعتين بسبب ظروف تلك الحرب. ثم بدأت العملية الثانية وهي عملية تفريع وتفريغ الجامعة الأم بسبب ضغط الوضع الأمني من جهة وازدياد عدد الطلاب من جهة أخرى، الأمر الذي أفقد الحركة الطلابية أحد أهم أهدافها وهو التفاعل والحوار والاختلاف والانصهار. مما جعل زعماء الحرب الذين أصبحوا في السلطة قادرين على الامساك بالجامعة وبالطلاب كسلطات أمر واقع من خلال توسيع وتوزيع النفوذ فيما بينهم في فروع الجامعات والتي تمثل رأس هرم للقطاع التربوي، جاعلين منها اداة للإمساك بقطاع الشباب وتوظيفه لتكريس الوعي الطائفي وثقافته، وإفراغ الحراك المطلبي من أي مضمون نقابي حقيقي وسياسي وطني مما أدى الى تهميش دورها في اي محاولة تغيير او تقدم في بلد يشكل الشباب اكثر من ٥٠ فيه٪ من الهرم السكاني، وهنا تأتي أهمية توظيف الطاقات لاستعادة هذا الصرح كأولوية.
بإيجاز إن أخطر سرطان ينهك هذا الوطن الذي لم يكتمل بناؤه هو نظامه التربوي، الذي لا تتجاوز ميزانيته ١٠٪ من الميزانية العامة للدولة. هذا القطاع الذي يضم أكثر من ثلث الشعب اللبناني وجلهم من عنصر الشباب الحيوي هو الأساس في أي عملية تغيير محتملة، لذا الذي دفع هذا الرجل الفرنسي للتظاهر والدفاع عن النظام التربوي هناك كونه ركن أساسي لبقاء الجمهورية الفرنسية يجب أن يكون دافعاً لنا لهدم نظامنا التربوي هنا وذلك كمقدمة لبناء الجمهورية اللبنانية هنا.
بيروت – 2019/3/7