حلم العكّاريّين بمطار القليعات هل تبدّده السياسة؟

شكّل مشهد هبوط طائرة في سهل عكّار قبل نحو تسعة عقود من الزمن صدمة لأهالي المنطقة إذ لم تكن تألف رؤية طيران حربيّ قريب إلى هذا الحدّ. لم تمرّ تلك الحادثة التي تناقلتها الألسن في المحافظة الشماليّة مرور الكرام، وإنّما شكّلت مقدّمة لإنشاء أوّل مطار حربيّ في “القليعات”.

مرّت السنون، وبات الاستثمار في هذه المنشأة فرصة لتشغيل آلاف العاطلين من العمل، ولإنماء المحافظة التي تُعاني من تهميش تاريخيّ بفعل موقعها الجغرافيّ البعيد من مركز العاصمة في البلاد، وتركيبتها السياسيّة التقليديّة، وحالة جمود تنمويّة.

مدرج مطار القليعات في عكار، الشمال
المطار شاهد تاريخ

إلى الحرب العالميّة الثانية، يعود تاريخ قيام مطار القليعات، ويروي جمال خضر الناشط في “لجنة إنماء وتشغيل المطار”، أنّه “خلال تلك الحرب، حطت طائرة ألمانيّة على شاطىء البحر، أيّ في منطقة المطار، بعدما فرغت خزّاناتها من الوقود”، مضيفًا “بعد إصلاح الطائرة وتجهيزها للطيران بقي هناك حاجة إلى مدرج، فما كان من السلطات في حينه إلّا أن أحضرت المزارعين، وجعلتهم يعملون في السخرة بغية إقامة مدرج في المنطقة الحرجيّة هناك”.

بقي هذا المعلم موجودًا إلى أن جاءت شركة نفط العراق IPC، وأسّست منشآت تكرير النفط في المنطقة المحاذية. تولّت الشركة عمليّة تأهيل الموقع والحفاظ عليه، وراحت تستخدم المطار في استيراد قطع غيار وبضائع تحتاجها.

لعب مطار القليعات دورًا مهمًّا في تاريخ طرابلس، وفي أواسط الخمسينيّات شهدت مدينة طرابلس “طوفان نهر أبو علي” الذي غمر جزءًا كبيرًا من المدينة القديمة الممتدّة على جانبيه. يلفت خضر إلى “استخدام مطار القليعات في عمليّات الإغاثة، واستقبال مساعدات دوليّة”. كذلك حطّت فيه طائرة الرئيس كميل شمعون في أوائل الستينيّات من أجل تدشين “سدّ نهر البارد”.

مطار أحداث كبرى

يعود خضر في الذاكرة إلى “كرنفال عيد الاستقلال” إذ كان يُقام سنويًّا في حرم المطار، وكان العكّاريّون يتجمّعون في المناسبة، وتقوم وزارة الزراعة بتنظيم مسابقات، وتوزّع جوائز على أجمل فرس أو بقرة، “كان يستمرّ لأربعة أو خمسة أيّام، وتنظّم في خلالها الأنشطة والكرمس وتنصب المراجيح، وويقام سباق للخيل. استمرت هذه الاحتفاليّة الدورية إلى العام 1972 قبل نقله إلى مصلحة الزراعة” وفق خضر.

مباني مطار رينيه معوض في القليعات

لم يكن دور مطار القليعات هامشيًّا، فقد شكّل منصّة لاستقبال أوّل طائرة “بوينغ” في لبنان على مدرجه، كذلك “شكّل أحد الركائز الثلاث لتدمير إسرائيل” بحسب خضر الذي يقول: “تاريخيًّا، اعتبر مطار القليعات مطارًا حربيًّا، وبعد حرب سنة 1967، وتوقيع اتّفاقية الدفاع العربيّ المشترك، اتّفق أن يكون هناك ثلاثة مطارات تستخدم للهجوم على إسرائيل، لذلك تولّت جامعة الدول العربيّة مهام توسعته في إبّان الحقبة الناصريّة التي انحاز إليها أهل عكّار”.

استمرّ المطار في نشاطه المحدود خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وكان يستقبل طائرات مختلفة بين الحين والآخر. ونشط في عهد الحال “العونيّة” في بعبدا في آخر الثمانينيّات بسبب إغلاق الطرق في بيروت، وصعوبة التنقّل بين أجزائها، فكان المسافرون ينتقّلون داخليًّا بين عكّار وبيروت، وكان ثمن التأشيرة 25 ألف ليرة لبنانيّة، وتستغرق الرحلة 14 دقيقة فقط.

احتضن مطار القليعات جلسة انتخاب أوّل رئيس لبنانيّ بعد اتّفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حيث اجتمع النوّاب وانتخبوا ابن زغرتا رينيه معوّض، الذي حمل المطار لاحقًا اسمه، وقد شكّل هذا النشاط آخر الأحداث البارزة في حرمه.

وجهة اقتصاديّة استثماريّة

مضت 30 عامًا على توقّف المطار عن العمل، وتحوّله إلى نقطة عسكريّة. ومنذ ذلك الحين، تستمرّ بورصة “مطار لبنان الثاني” في الصعود والهبوط بفعل الأهواء السياسيّة، وعدم نضوج خطط الإنماء المتوازن الذي نادت به وثيقة الوفاق الوطنيّ.

يعتقد جمال خضر بضرورة “التعاطي مع المطار كوجهة اقتصاديّة واستثماريّة بعيدًا من الحسابات المناطقيّة والطائفيّة، وتحويله إلى حاضنة للتجارة الدوليّة والسوق الحرّة على غرار جبل علي في دبي”.

مضت 30 عامًا على توقّف المطار عن العمل، وتحوّله إلى نقطة عسكريّة. ومنذ ذلك الحين، تستمرّ بورصة “مطار لبنان الثاني” في الصعود والهبوط بفعل الأهواء السياسيّة

ويضيف: “مطار القليعات أصبح أمرًا واقعًا، وهو ضرورة للبنان بسبب صعوبات تعترض توسيع مطار بيروت الدوليّ الذي تحوطه تجمّعات سكّانيّة مكتظّة”، لافتًا إلى أنّ “افتتاح مطار القليعات هي مسألة وقت، ناهيك بجملة عوامل تؤكّد جهوزيته، إن لناحية امتلاكه كودًا دوليًّا، وتسجيله لدى منظّمات الطيران الدوليّ، وإن لناحية حضوره على رادارات المطارات الدوليّة، لذلك فإنّ جميع الأمور اللوجستيّة جاهزة، وهو بحاجة فقط إلى شركة تأمين وقرار سياسيّ من الحكومة والسلطة”.

على لائحة الانتظار

يشي مسار الأحداث بأنّ قرار افتتاح مطار القليعات– رينيه معوض سياسيّ بامتياز، ففي العام 2017، توصّلت سلطات الطيران اللبنانيّة إلى خلاصة مفادها أنّ المطار جاهز للاستخدام، فهو يمتلك مدرج بحالة جيّدة، وطوله يمتدّ 3100 متر، وبالتالي يمكنه استقبال الطائرات بسلاسة دون دخول في الأجواء السوريّة، ويمكن في باديء الأمر استقبال طائرات الشحن، وطائرات الشارتر السياحيّة. وبالتالي، فإنّ تشغيله يحتاج إلى قرار، وبعض عمليّات التأهيل من خلال استحداث قاعة مغادرة ووصول، وإقامة محطّة للأرصاد الجويّة، وتزويد المدرج بالإضاءة، وتأهيل برج المراقبة، ووضع خطّة أمنيّة وتطبيق بروتوكولات السلامة.

يمتاز مطار رينيه معوّض في القليعات بوقوعه وسط منطقة شاسعة غير مبنيّة، بعيدة من التجمّعات السكنيّة، الأمر الذي يفتح الباب أمام إمكانيّة توسيعه وتطويره باستمرار.

سنة 1949، طائرة شخصيات لبنانية رسمية (يبدو في الصورة الرئيسان أحمد الأسعد ورياض الصلح وغيرهما) تحطّ في القليعات ليحضروا افتتاح وحدة التقطير الثانية لشركة نفط العراق (من مجموعة أرشيف الدكتور خالد تدمري)
مشروع عكّار الرديف

يشكّل تشغيل مطار القليعات محطّ إجماع لدى مختلف التشكيلات السياسيّة والمدنيّة في عكّار وشمال لبنان، ويحظى بتأييد ودعم شريحة واسعة من الكتل النيابيّة. يجزم النائب سجيع عطيّة رئيس لجنة الأشغال العامّة والنقل أنّ “هناك تصوّرًا متكاملًا لتشغيل مطار القليعات، وهو قادر على لعب دور البديل والمكمّل لمطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري”.

فمن ناحية، وفي حال تعرّض مطار بيروت لأيّ اعتداء، يمكنه أن يشكّل منصّة لبنان موقّتة على العالم بسبب مدرجه الجاهز واستقباله المستمرّ للطائرات. يضيف عطيّة “يجب أن يخضع المطار في مرحلة ثانية لتجهيز وتلزيم إلى شركات خاصّة وفق تلزيمات وعقود BOT، ليستقبل السيّاح والقيام بالأعمال التجارية”، لافتًا إلى “طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي دراسة ملف المطار، وصولًا إلى الاتّفاق على تشغيله بقرار سياسيّ وإداريّ”.

يتمسّك عطيّة بكفاءة المطار وقدرته على العمل، قائلًا “أنا بكرا قادر نزّلّك طيّارة في مطار القليعات”، لكن الأمر يحتاج إلى قرار. ويضيف: “قمنا بصفتنا نواب عكّار بجولة على الكتل النيابيّة في البرلمان اللبنانيّ، لم يعلن أيّ تكتّل رفضه للمشروع”، ويردف: “البعض يتّهم فريق المقاومة وحزب الله بعرقلة المشروع، ولكن هذا غير صحيح، فهم أكّدوا ضرورة إجراء بعض الدراسات ومخطّط توجيهيّ لكلّ لبنان، بالإضافة إلى تبديد بعض الهواجس الأمنيّة وما شابهها بالتنسيق مع الوزير الذي يعطي الأولويّة حاضرًا إلى الوضع في الجنوب”.

فرصة وطنيّة

يرفض الفاعلون في شمال لبنان التعاطي وفق معادلة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وإنّما تستمرّ الجهود لإعطاء تشغيل المطار بعدًا وطنيًّا توافقيًّا، ليس من زاوية الإنماء الانتهازيّ.

وفي هذا السياق، يبرز مشروع “طرابلس الكبرى” الذي طرحه منذ سنوات توفيق دبوسي رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في الشمال، الهادف إلى إقامة منظومة اقتصاديّة إقليميّة دوليّة، يتكامل فيها مرفأ طرابلس، ومطار رينيه معوّض في القليعات- عكّار، مرورًا بمنصّة لإدارة الغاز بمساحة21  مليون متر مربّع، وتوسيع المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة بطرابلس كي تصل مساحتها إلى خمسة ملايين متر مربّع.

من جهته، يخلص النائب سجيع عطيّة إلى أنّ “المطار حاجة اقتصاديّة، وهو ينطلق من خلفيّة إنمائيّة محض وليس سياسيّة، ويأتي متمّمًا وتابعًا إداريًّا لمطار بيروت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى