حمى النرجيلة والمعسّل.. الأكثر مبيعًا رغم أنف الأزمة
تترسخ يومًا بعد يوم مكانة النرجيلة (الأركيلة) في جلسات الجنوبيين ومناسباتهم ويتعاظم حضورها كسلعة أساسية في استهلاكهم اليومي في الأعوام الأخيرة. فهم من كل الأجناس والأعمار، يتناوبون على شربها في الصباح والمساء، في المنزل وخارجه. يحملونها معهم خلال زيارت الأهل والأصدقاء، حتى بات الإدمان عليها أمر شائع، ما ساهم في جعل الجنوب من أكثر المناطق إستهلاكاً للمعسّل في لبنان، بعدما اتسعت شريحة مدخنيها.
“مهووسة” نرجيلة
قد لا يخلو منزل جنوبي، من عدّة النرجيلة، بهدف التسلية أو كبديل عن تدخين السجائر، كونها أقل ضررًا، حسبما يقول البعض، أو لتقديمها للزوار في السهرات والجلسات. لكن اللافت أحيانًا، أن حب النرجيلة يصل إلى حد التعلق، “بلغي أيّ مشوار إذا كان وقت الأركيلة” تقول صونيا، وهي سيدة جنوبية في منتصف الأربعينيات.
ولا يقتصر الأمر على إلغاء المشاوير، إنما يتعداه إلى قدرة النرجيلة على تعديل المزاج “بحبها” تعلق صونيا، ثمّ تقول “حتى إنو صوتها نغمة بتسليني ومشهد الدخنة لي طالع منها حلو، بيعنيلي”.
لا يخلو منزل جنوبي، من عدّة النرجيلة، بهدف التسلية أو كبديل عن تدخين السجائر، كونها أقل ضررًا، حسبما يقول البعض، أو لتقديمها للزوار في السهرات والجلسات
وصونيا التي مضى على زواجها أكثر من 26 عاماً، وهي ربة منزل، يبلغ عمر علاقتها مع النرجيلة أكثر من عمر زواجها. تقوم يوميًا بتدخينها مساءً بعد تناول العشاء “مش طيبة إلا إذا شربتها على رواق” هكذا تعبر صونيا، وتضيف “صارت عندي متنفس” وهي تفضل نكهة الحامض والنعنع.
وعلى عكس حبها الكبير للنرجيلة، تمقت صونيا رائحة السجائر، وتصف نفسها بأنها “مهووسة” كونها متعلقة بشكل كبير بالنرجيلة، تقول: “لدي مجموعة أراكيل، أختار يوميًا واحدة منهم، وأخصص أركيلة مميزة لحملها معي في الخروجات”.
كلفتها مرتفعة ولكن..
وفي حسبة بسيطة، تعد صونيا حاجيات النرجيلة الشهرية المكونة من معسل وفحم وسانيتا، وهي لأجل ذلك تحتاج إلى 3.5 دولارات ثمن المعسل، و10 دولارات ثمن خمس كيلوات من الفحم المخصص لها وبنوعية ممتازة، وسانيتا بدولارين، وبذلك لا تتخطى كلفتها الشهرية الـ20 دولارًا. ولكن، في المقابل تعتمد صونيا نظام التقنين، فموعد نرجيلتها مساءً لا يتبدل، ولا يزيد عن ذلك، فيما قد يطرأ عليها مصروف إضافي في حال زارها أصدقاء يدخنون النرجيلة.
وتلفت صونيا، إلى أن الكلفة إذا ما احتسبت على أساس دولار الـ100 ألف كما هي اليوم، فإنها انخفضت عن السابق، حين كان الدولار يساوي 1507 ليرات، آنذاك كان “كف” المعسل يساوي 10 دولارات مثلاً، علمًا أن عائلة صونيا تتكفل بكامل مصاريف النرجيلة كونها ربة منزل ولا تعمل.
إلا أن هذه الكلفة، تعدّ مرتفعة جدًا إذا ما قورنت برواتب العمال والموظفين، لا سيّما في القطاع العام، والّذي يتقاضى عدد كبير منهم راتب شهري يساوي أقل من 100 دولار، أيّ ما يعادل أقل من 10 ملايين ليرة، وهو مبلغ لا يكفي لشراء السلع الغذائية التي تحتاجها عائلة مؤلفة من أربعة أفراد شهريًا.
هذه حسابات النرجيلة للاستهلاك المنزلي، ولكن ماذا عن المقاهي؟
يبدو واضحاً لكل من يزور الجنوب، لا سيّما في الساحل، امتلاء المقاهي هناك بمدخني النرجيلة، رغم ارتفاع تسعيرتها، حتى أن المقاهي تعتمد في مدخولها على مدخني النرجيلة أكثر من أي شيء أخر.
يبدو واضحاً لكل من يزور الجنوب، لا سيّما في الساحل، امتلاء المقاهي هناك بمدخني النرجيلة، رغم ارتفاع تسعيرتها، حتى أن المقاهي تعتمد في مدخولها على مدخني النرجيلة أكثر من أي شيء أخر.
بالأرقام
ورغم أن لا أرقام محددة لدى إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي”، وهي الجهة المعنية حصرًا بإنتاج كل منتجات التبغ والتنباك بما فيه المعسّل في لبنان، لكمية المعسّل المستهلكة في الجنوب، على قاعدة أن التاجر يمكنه بيع المنتجات على الأراضي اللبنانية كافة، لذا يصعب تحديد حجم الإستهلاك هناك.
إلّا أن جميع المؤشرات، تشي بأن إستهلاك المعسّل تضاعف في سنوات الأزمة الأخيرة، في الجنوب وكذلك في المناطق اللبنانية كافة، فمثلاً تظهر أرقام “الريجي” أنه تمّ بيع 228139 صندوقاً عام 2020، وتضاعف العدد في عام 2021، لتسجل أرقام المبيعات 571754 صندوقاً، و592251 صندوقاً في 2022، وذلك بالتزامن مع تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد، وفق ما يؤكد رئيس مصلحة البيع في “الريجي” حسين سبيتي لـ”مناطق.نت”.
علماً أن “الريجي”، عمدت إلى تصنيع منتجات المعسّل، قبل عام ونصف، في مصانعها الخاصة أو عبر الشركات المتعاقدة معها، وزاد إنتاجها أيضاً.
ومن ثمّ، يُجمع كثر، من تجار وأصحاب محال ومستهلكين في الجنوب، على الإقبال الكثيف أكان لجهة شراء المعسل وتوابعه، أو على شراء إكسسوارات النرجيلة، ولا يمكن إغفال زحمة مدخني النرجيلة في المقاهي والمطاعم هناك.
إستهلاك المعسّل تضاعف في سنوات الأزمة الأخيرة، في الجنوب وكذلك في المناطق اللبنانية كافة، فمثلاً تظهر أرقام “الريجي” أنه تمّ بيع 228139 صندوقاً عام 2020، وتضاعف العدد في عام 2021، لتسجل أرقام المبيعات 571754 صندوقاً، و592251 صندوقاً في 2022
الأكثر مبيعاً
في الطريق من صيدا بوابة الجنوب، مرورًا بصور وصولاً إلى الحدود مع فلسطين، تنتشر محال بيع المعسل والنرجيلة وإكسسواراتها أيضًا، محلات ضخمة وكثيرة بعضها متلاصق، لا تفصله عن الأخر سوى مسافة قصيرة، حتى أنها تنتشر داخل القرى والأحياء، ناهيك عن أن المعسّل يباع أيضًا في التعاونيات الكبرى ودكاكين القرى ومحال بيع المنتوجات التبغية.
“الإقبال أكثر من ممتاز”، يقول صاحب محلات “زيدان” لبيع لوازم النرجيلة في صور لـ”مناطق.نت”، ويضيف “أكتر شي منبيع معسّل. رغم إنو أرباحنا انخفضت مقارنة بسنوات سابقة للأزمة، بس الشغل صار أفضل من أيام دولار الـ1500”.
ولا يقتصر الأمر على لوازم النرجيلة الضرورية، وإنما يتعداه الى إكسسواراتها، حسبما يقول: “فيه ناس بتهتم بشكل الأركيلة، اللي بيبدا سعرها من 15 دولار وصولاً إلى 50 دولار، وجميعها مطلوب من الزبائن”.
ويروي كيف انتشرت مؤخراً الكثير من محال بيع إكسسوارات النرجيلة، ويعزو ذلك إلى الطلب الكبير على كل ما يتعلق بها.
ولكن، ماذا عن الإمكانات المادية، يقول “غالبية الناس هنا، لديها مدخول بالدولار” ويعدد “المنظمات الفلسطينية واللجوء السوري وحزب الله والمغتربين، الجميع لديه فريش دولار”.
واللافت أن الإقبال الكثيف على شراء هذه المنتوجات هو من قبل النساء، إذ يقدر صاحب المؤسسة نفسها، نسبة الرجال بأنها 15 في المئة فقط من أصل الزبائن.
أكثر تقبلاً وتكيفًا؟
إلى ذلك يبدو جلياً، أن النظرة المجتمعية تجاه مدخني النرجيلة تبدلت في السنوات الأخيرة، خصوصاً فيما يتعلق بتدخين النساء والأطفال في عمر المراهقة، وقبول هذه الصورة غير الإعتيادية، بعدما كانت تطغى الأفكار الذكورية على موضوع تدخين النرجيلة والتي كانت تعتقد بأن هذا النوع من التدخين حكرًا على الرجال فقط.
وإذا ما أردنا قياس مدى هذا التبدل، ترى الأخصائية النفسية زهراء صاحب، أن نسبتها التقريبية تتراوح بين 60 و75 في المئة، باعتبارها نظرة قبولية، كعرف ونوع إعتيادي في الجلسات والخروجات والاحتفالات وما بعد اللقاءات الرسمية.
وتقول لـ”مناطق.نت” “قبل نحو 10 سنوات، كانت النظرة المجتمعية، فيها نوع من الإستهجان والرفض وعدم القبول وبطء تكيف المدخن، ولكن في السنوات القليلة الماضية المشهد الجنوبي ازداد تقبلاً وتكيفاً مع هذه الظاهرة”.
وتضيف “لا شك أنه في السنوات الأخيرة إزدادت أعداد مدخني النرجيلة، نتيجة للتحديات النفسية التي يمر بها الناس في لبنان بسبب الظروف غير المستقرة”، لافتة إلى أن النرجيلة لدى كثيرين تحولت الى إدمان لمحاولة النسيان والهروب بدلاً من مواجهة الظروف الصعبة والقاسية.
في السنوات الأخيرة إزدادت أعداد مدخني النرجيلة، نتيجة للتحديات النفسية التي يمر بها الناس بسبب الظروف غير المستقرة”، إلا أن النرجيلة لدى كثيرين تحولت الى إدمان لمحاولة النسيان والهروب بدلاً من مواجهة الظروف الصعبة والقاسية
التهريب
على مقلب آخر، تنتشر في السوق بضاعة معسّل مهربة أو يتمّ تصنيعها في معامل غير شرعية، وتكون منخفضة السعر.
وينشط تهريب المعسل في أكثر من منطقة في لبنان، أيّ في الشمال والبقاع والجنوب، رغم أن استيراد المنتوجات التبغية المصنعة (العلامات التجارية) هو حق حصري لإدارة الريجي وتعدّ الجهة الوحيدة المخوّلة منح رخص لبيع المصنوعات.
بداية، يوجد نوعان من المعامل غير الشرعية، الأول، صغير الحجم، منتشر في مختلف المناطق اللبنانية، وليس حكراً على منطقة معينة، بعكس ما يتمّ الترويج له عن أنّ مثل هذه المعامل موجود في قرى البقاع. النوع الثاني المعامل الكبرى، تتواجد في مخيمات اللجوء الفلسطيني، حيث لا يمكن لعناصر مكافحة التهريب الوصول إليها، وفق ما يؤكد رئيس مصلحة مكافحة تهريب التبغ في “الريجي” محمد ضاهر لـ”مناطق.نت”.
يروي ضاهر، كيف يتمّ تزوير هذا المنتج، وتزوير أكياس التغليف في المطابع، لتغليفها وبيعها لاحقاً، ويتحدث عن سلسلة غش تبدأ بالمواطن نفسه، ويتناول مسألة تهريب المنتوجات عبر المعابر غير الشرعية من العراق والأردن، عبر سوريا، إلى لبنان، وعبر المعابر الشرعية أيضاً.
وتواصل “الريجي” مداهماتها في محافظتي الجنوب والنبطية، لاسيّما في قرى الصرفند والبابلية والدوير وعربصاليم، وتسطر محاضر ضبط بحق المخالفين ينظر فيها القضاء المختص. لكن بحسب ضاهر، فإن تسطير المخالفات، هو إجراء غير رادع أحيانًا كثيرة بسبب عدم صدور الأحكام اللازمة.
ويتمّ تصنيع هذا النوع من المعسل من صنفين أساسيين، هما نشارة خشب ودخان مفروم. ويرتفع الطلب عليه كون ثمنه أقل بكثير من المنتجات الأخرى، يقول ضاهر: “جميع المنتوجات التبغية مضرة بالصحة، ولكن هذا النوع أكثر ضرراً على صحة الناس”. من هنا، يطالب ضاهر جميع الأجهزة الأمنية بالتعاون من أجل وضع حد لمثل هذه الممارسات، من تصنيع غير قانوني وتهريب.