حولا المكلومة جرحها مفتوح ينزف منذ 1948
تنام بلدة حولا على مجزرة وتصحو على جرح نازف، ليس من اليوم فحسب، بل منذ 31 تشرين الأوّل/أوكتوبر من العام 1948، عام المجزرة، يوم ارتكب العدو الإسرائيليّ مذبحة جماعيّة بحقّ أهلها ذهب ضحيّتها أكثر من 70 رجلًا، كهلًا وشابًّا أكثرهم من أسرة واحدة، أو بيت واحد.
إذن، تدفع حولا ثمن صمودها ومقاومتها وجيرتها لفلسطين المحتلّة ومناصرتها لقضية شعبها واحتلالها منذ عهد المجزرة، منذ 76 عامًا. ومنذ تاريخ انطلاق الحرب على غزّة، في السابع من تشرين الأوّل/ نوفمبر العام المنصرم 2023، وحولا في مرمى العدوان، بغارات دمّرت عشرات المنازل، وقصف مدفعيّ يكاد يستمرّ ليل نهار، وملاحقة المسيّرات الإسرائيليّة الحربيّة العابرين في طرقاتها، لا سيّما الطريق العامّة التي توصل منطقة مرجعيون بمنطقة بنت جبيل، فسقط من أبنائها حتى أمس ثمانية شهداء، وآخر من ضمن فريق إعلامي إيراني، إلى عشرات الجرحى وآلاف النازحين.
خادم “روضة الحبايب الشماليّة” شهيدًا
كانت حولا مساء أمس، على موعد جديد مع المجزرة والحزن والخسارة، إذ أغارت الطائرات الحربيّة على مبنى المزارع حسن علي قاسم حسين “أبو علي” المعروف بـ”أبو حديدة” فاستشهد مع زوجته رويدا مصطفى وابنهما علي، فيما نجا شقيقه قاسم إذ كان في بلدة مجدل سلم، وكان عائدًا منها نحو بيت أهله وقت وقوع الغارة عند الخامسة والدقيقة 35. وبعد انتشال جثّة علي، ظلت فرق الانقاذ تعمل إلى ساعة متأخّرة من الليل ولم تعثر على جثتي الزوج والزوجة أو حتى على أشلاء. وأفاد رئيس بلدية حولا شكيب قطيش صباحًا “أنّه تمّ العثور على أشلاء جثماني الشهيدين حسن وزوجته رويدا متناثرة باتجاه الوادي”.
وضجّت مواقع “حولا” وصفحاتها على التواصل الاجتماعيّ أمس بنعي “حفّار القبور” ووجه الخدمات العامّة حسن حسين مع عبارات الحزن والفقدان. وكتب صديق “أبو حديدة” سهاد علي قطيش على صفحته، على “فايسبوك”: “يا أبا علي كمّ ستفتقد الأرض لفلّاحها وشهيدها، كنت رجلًا تعوّد مرارة الحياة”. وأضاف: “أبو علي بعد أن قام بواجبه اليوم وإطعامه الأبقار التي كانت كلّ ما يملك ويحبّ، وذهب ليجلس ويتناول عشاءه الأخير من جنى عمره، جاءت طلقات الغدر من العدوّ وصار شهيد الفلّاحين”.
وفي اتصال هاتفي لـ”مناطق نت” مع سهاد قطيش، قال: “المقبرة بجانب بيته، وحده من يبني الأضرحة ويواري الموتى، كنا وإيّاه في مجموعة مستقلة في حولا، هدفها الخدمة العامة، ومنها هذه الروضة التي تجاور بيته. سألته مع بداية الحرب أين سندفن الشهداء يا أبا علي، فردّ هنا، واختار مكانًا قريبًا من أربع شجرات سرو”.
خسارة كبيرة لا تعوّض
ويتابع قطيش بصوت حزين متهدّج: “راح أبو علي يا خسارة الرجال، خسارتنا به كبيرة، هي ليست بالأموال ولا بالمراكز، بل بما يبذله المرء لخدمة الناس وما تكون شمسه طالعة، على طول غايبة (غائبة) هكذا كان أبو علي”.
وعن خصال صديقه وعمله، يقول: “إنّه فلاح، عنده 5 بقرات ويحرث الأرض على جرّار زراعيّ (تراكتور) روسيّ، ويساعد الناس، إن كانوا من أبناء ضيعتنا أو من خارجها، ويسارع إلى سحب أيّ سيارة تعطّلت في الطريق. لقد حفر وساعد في إقامة 800 ضريح في روضة الحبايب الشماليّة (مقبرة حولا الشماليّة) وكان ينظّفها ويزيل الأعشاب من بين قبورها، وقبل الاعتماد على الحفّارة، كان يحفر الأضرحة بيديه والمعول والرفش من دون أن يطلب منه أحد هذا الأمر، إنسان مستحيل أن يأتي مثله في حولا”.
لم يغادر أبو علي حسين بيته في حولا، ومعه زوجته وابناهما علي وقاسم، أمّا الثالث كامل فمقيم خارج القرية. وعن بقائه وعائلته في حولا يقول قطيش: “إلى أين سيذهب ويتعزّر (يتعرّض للمشقّة) من مثله يعمل مزارعًا وفلّاحًا إلى أين سيلجأ مع بقراته، كيف بدّو يعيش؟”.
سهاد قطيش: أبو علي فلاح، عنده 5 بقرات ويحرث الأرض على جرّار زراعيّ (تراكتور) روسيّ، ويساعد الناس، إن كانوا من أبناء ضيعتنا أو من خارجها، ويسارع إلى سحب أيّ سيارة تعطّلت في الطريق.
ويؤكّد قطيش أن سقوط “أبو حديدة” وزوجته وابنهما علي، سيترك حزنًا عميقًا لكنه لن يؤثّر في الناس الصامدين في حولا، “إذ لا خيارات مفتوحة أمامهم، إلّا العيش في حولا ولو ماتوا، وهم من طبيعته، مزارعون ورعاة متمسّكون ببيوتهم وحقولهم بالرغم من أنّ هذه البلدة لم تأخذ حقّها. في قلوبنا كلام كثير نقوله، لكن نتركه إلى ما بعد انجلاء المعركة وغبارها، كثيرٌ هذا الإهمال”.
حولا تنعى حارس تراثها وترابها
وفي تغريدة ثانية كتب “أبو علي سهاد” (قطيش): “مش مستبعد إنسان حفرت وساعدت بـ 800 ضريح بروضة الحبايب الشماليّة دون مقابل لأنك ابن أصل وفاعل خير، اختيارك من الله أنت وعائلتك لنفتتح بكم روضة الشهداء في روضة الحبايب الحارة الشماليّة (ملاحظة من وصيّة أبو علي لي أن يدفن تحت الزيتونة بروضة الحبايب)”.
وكتب المهندس الشاعر طارق مزرعاني على “فايسبوك”: “من أين يبدأ الكلام عنك ياحسن؟ يا راعي النخوة والمروءة، يا حارس تراث ضيعتنا وجبّانتها وترابها. يا ويلنا من بعدك يا حسن بكلّ ما للكلمة من معنى رمزيّ وفعليّ. بعدك من سيدفن موتانا وشهداءنا؟ من سيفلح الأرض ويزرعها ويجني المحاصيل، من سيحصد القمح ويدرسه، من سيقبض على الأفاعي الخطرة من دون أن يقتلها؟ كان يكفي اتصال ٌواحدٌ بك ليكون القبر جاهزًا”.
ويضيف المهندس مزرعاني: “لن تكون حولا بعدك كما كانت، فلقد فقدتْ رمزًا من رموزها كضيعة مضمّخة بعطر الأرض وزنود الفلّاحين. حسن الإنسان البسيط شبه الأمّي كان يُتقن تفكيك “التراكتور” الروسي وإصلاحه وإعادة جمعه، ما كان يُدهِش كبار الميكانيكيّين المتخصّصين، وورث عن أبيه القدرة على التقاط الأفاعي بيده مهما كان حجمها، فلّاح ومزارع قدير لا يهدأ ولا يكلّ، جار الجبّانة، يحفر القبر ويواري الميّت في الثرى ولا يقبل حتّى الشكر”.
دمّرت حرب تموز وآب العام 2006 منزل حسن حسين تمامًا، وأعاد بناءه بالكدّ والتعب وبعدما عانى الأمرّين لنيل تعويض عليه، “وها هو المنزل نفسه يُدمره العدو من جديد، وكأنّ هذا العدو عرف هذه الصفات في حسن فأراد القضاء عليه ليقضي على تراثنا وتاريخنا وعلى النخوة والشهامة والمحبّة” يختم مزرعاني.
صمود معمّد بالدم
صمود حولا معمّد بالدّم، خصوصًا عند ثلّة من المزارعين والفلّاحين و”المساكين” ممّن لا طاقة لهم ولا قوّة إلّا بالبقاء، دفعًا عنهم ذلّ النزوح وخسران مصادر العيش ومغادرة الأرض التي يعشقون.
“إنه ثمن الصمود” يقول طبيب الأسنان الدكتور أيسر حجازي ويتابع: “هذا الصمود دفع ثمنه أبناء حولا من دمائهم ثمانية شهداء منذ بدء الحرب ونحو عشرين جريحًا ومصابًا. ومن بقي في حولا، فهم أناس لا حول لهم ولا قوّة، هم مزارعون وأصحاب مواش وغيرها، هم مرتبطون بأرضهم وبأرزاقهم ولا إمكانيّات لهم كذلك على تركها، وإلّا من أين سيعتاشون؟”.
صمود حولا معمّد بالدّم، خصوصًا عند ثلّة من المزارعين والفلّاحين و”المساكين” ممّن لا طاقة لهم ولا قوّة إلّا بالبقاء، دفعًا عنهم ذلّ النزوح وخسران مصادر العيش ومغادرة الأرض التي يعشقون.
ويضيف: “لم يعد عدد الصامدين في الضيعة (حولا) كبيرًا، وهم يتناقصون تدريجيًّا كلّما حدثت غارة أو حصلت مجزرة أو تدمير، وهم لا يتجاوزون اليوم خمسة بالمئة من أصل المقيمن عادة في حولا، (نحو 300 شخص من أصل 6 آلاف يقطنون بشكل دائم، من أصل 15 ألف نسمة عدد سكّان حولا) وقد نزح عن البلدة كلّ من استطاع، من أساتذة ومعلّمين وأصحاب مهن وحرف، ودكاكين ومتاجر وغيرها، بعدما تعذّرت الحياة الطبيعيّة بلا خطر في البلدة، بسبب ما تتعرّض له من قصف وتدمير وسقوط شهداء”.
ويتابع: “يمكن القول إنّ التدمير متموضع، في كلّ الحارة الشرقية من البلدة المطلّة على العبّاد وعلى الأحياء القريبة، ليس أدنى من 70 أو ثمانين بيتًا ومبنى، وبسبب تعذّر الوصول لا يمكن إجراء مسح للدمار والأضرار”.
نزوح 700 تلميذ
وعن دور البلديّة في هذه الظروف يقول الطبيب حجازي لـ”مناطق نت”: “لا إمكانية للبلدية في ظلّ الوضع القائم أن تقوم بدورها حتّى في الخدمات، تقوم مثلًا بإزالة الأضرار وفتح الطرقات وربّما في عملية الانقاذ ورفع الأنقاض بالتعاون مع فرق الإسعاف والدفاع المدنيّ التابعة للهيئة الصحية الإسلاميّة وكشافة الرسالة الإسلاميّة. ويدور الكلام عن بعض المساعدات لكنّها غير معلنة ولن تفي بالحاجة المطلوبة، أمام هذه الحرب الكبيرة والمفتوحة، وإمكانات البلدية المتواضعة جدًّا”.
في النبطية يتوزّع ما لا يقل عن 250 إلى 300 بيت نازح من حولا، وتنتشر مئات العائلات النازحة بين كفررمان والدوير والزراريّة وصريفا وصفد البطيخ والعديد العديد من البلدات البعيدة نوعًا ما عن الخطر، بنزوح جرى متفرّقًا وليس جماعيًّا على نحو ما حصل في عدوان تموز العام 2006.
ترافق نزوح معظم أهالي حولا، بنزوح نحو 700 تلميذ من مدارس البلدة والجوار، ففي حولا مدرستان رسميّتان، واحدة فيها نحو 400 تلميذ والثانية نحو 300 آخرين، عدا عن التلامذة الذين يتعلّمون في مدارس راهبات عين إبل ومرجعيون. وأخيرًا أطلق عدد من أساتذة حولا ومعلّميها منصّة للتعليم عن بعد، من محلّة كفرجوز في النبطية لمساعدة التلامذة النازحين على مواصلة دراستهم.
حولا في عين العدوان
تتألّف حولا من أربعة وديان وتلال خمس، “وهذا ما يجعلها في الحروب والمعارك منطقة مواجهة وجبهة مفتوحة وخطّ نار. وإذا ما عدنا إلى السبعينيّات من القرن الماضي، وما قبلها، كانت حولا باستمرار عرضة للاعتداءات الإسرائيليّة وسقوط الشهداء، ولم تزل في المتاهة عينها منذ أكثر من خمسين عامًا ولم نرتاح” بحسب حجازي.
حولا ذات طابع زراعي، فيها مزارعون بامتياز ومربو ماشية وأبقار، “وحتّى المعلّمين والموظّفين وأصحاب المهن الحرّة، لهم شأن في الزراعة يمنحونها حيّزًا من أوقاتهم خارج نطاق أعمالهم ووظائفهم، وهم لا يتّكلون على الرواتب بل يسعون إلى تأمين مؤونتهم من الزراعة والعمل بالحقل، وموسم الزيتون مثلًا خسرنا منه نحو 90 بالمئة بسبب الحرب والقصف بالقذائف الفوسفوريّة، ويوم اندلعت المعارك والحرب لم نكن قد جنينا أكثر من 10 بالمئة من المحاصيل، أنا عندي أكثر من 60 زيتونة لم أقطف عنها حبّة واحدة” والكلام للطبيب حجازي.
شهداء على مذبح حولا
يقول أبناء حولا إنّ الاعتداءات كانت في البداية تقتصر على الاشتباه بحركة ما بين البيوت أو على سيّارات تعبر على الطرقات لا سيّما من نوع “رابيد”، والمسيّرات لا تغادر أجواءها، “اليوم أضحى القصف عشوائيًّا ويأخذ منحى تصاعديًّا، في “موقعة” الجامع عشيّة 10 شباط/ فبراير الماضي، سقطت القذائف في وسط البلدة وسقط الشهيدان حسين موسى إبراهيم حسين والرقيب في قوى الأمن الداخليّ علي محمد نمر مهدي وحصل تدمير وخراب في الساحة والجوار” يختم حجازي.
من حولا سقط أحمد حسن مصطفى “ملاك حولا” بتاريخ 23/11/2023، ثمّ ناصيفة مزرعاني وابنها محمد حسين مزرعاني بقصف استهدف منزلهما بتاريخ الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2023. كما استهدف القصف الإسرائيلي يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 فريقًا إعلاميًّا إيرانيًّا في محيط موقع العبّاد ما أدّى الى مقتل سائق (فلسطينيّ) وإصابة أحد أعضاء الفريق الذي كان يتالّف من 7 أشخاص وحوصر ساعات طويلة، قبل أن يتدخل فريق من الجيش اللبنانيّ بالتنسيق مع قوّة من الأمم المتحّدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” ويعمل على نقل جثة السائق والمصاب إلى أحد المستشفيات، ونقل سائر أعضاء الفريق إلى مكان آمن.
في حولا كذلك سقطت نهى مزرعاني، وهي من ذوي الاحتياجات الخاصّة شهيدة، وجرت مواراتها في جبانة بلدة كفررمان. عانت نهى منذ صغرها وعاشتها حدّ التآخي، وفي أواخر أيّامها أصابها المرض الخبيث.
عنها كتب المهندس طارق مزرعاني بتاريخ 15 شباط/ فبراير المنصرم: “ابنة خالي الحبيبة نهى التي عانت المرض والألم ثمّ تحمّلت الحصار في حولا، حيث لا دواء ولا طبيب ولا مستشفيات، واستمرّت تقاوم المرض والقصف مع أهلها الصامدين في البلدة، إلى أن جاءت الغارة الأخيرة قرب منزلهم فتأذّت من جرّائها وما لبثت أن فارقت الحياة شهيدةً جديدة من حولا على مذبح هذا الوطن الجريح والذي طالما ضحّى أبناء حولا لأجل ان يبقى صامدًا في وجه العدو”.