حياكة الكروشّيه أنيسة النساء في زمن الحرب

تعيش النساء في القرى الحدوديّة ظروفًا استثنائيّة لا يحسدن عليها، بعضهنّ اخترن إشغال أنفسهن بحياكة الكروشّيه لتساعدهن على تخطّي الوقت، ومعها، اجتياز الخوف والقلق والتوتّر وانتظار المجهول، وكذلك لتأمين مدخول إضافيّ، حتّى اللواتي أجبرن على النزوح القسريّ، حملن في حقائبهنّ، عدّة الكروشّيه أيضًا.

فنّ الحياكة

هي حرفة قديمة متوارثة عبر الأجيال، إذ تحيك النساء الكروشّيه باستخدام إبرة خاصّة لها رأس معقوف تُسمى “صنّارة”، وخيوط متنوّعة، خاماتها مثل القطن والصّوف. أمّا الحرير فهو خارج عن مقدور كثيرات نظرًا إلى غلاء سعره.

وتحوكُ النساء الكروشّيه بأشكّال مختلفة، فيصنعن قبّعات وأحذية وثيابًا وحقائب يد ودُمى وأغطية وشراشف و”أكسسوارات” وكثير غيرها. إلّا أنّ هذه الحرفة كادت أن تندثر لقلة المهتمّين بها، لكنّها عادت في السنوات الأخيرة لتجتاح عالم الموضة بقوّة على منصّات العروض العالميّة، فيما تنشط هذه الحرفة وتزدهر راهنًا على رغم الحرب القائمة في جنوب البلاد منذ نحو 9 أشهر.

في زمن الحرب

تعيش السيدّة الأربعينيّة منى يعقوب في أحد أحياء بلدة كفررمان جارة النبطية، بعد أن نزحت وعائلتها من بلدتها حولا (قضاء مرجعيون) مع بداية الحرب على الجنوب، وهي البلدة التي تشهد راهنًا دمارًا واسعًا جرّاء القصف الإسرائيليّ المستمرّ عليها.

من أعمال منى يعقوب

في المنزل “البديل” حيث تمكثُ راهنًا، تحوك يعقوب بإبرتها الدُمى والحقائب والثياب وغيرها من الإكسسوارات المصنوعة من خيطان مختلفة، وتقول لـ”مناطق نت”: “جعلتني الحرب أكثر إقبالًا على حرفة الكروشّيه، أشعر أنّها تساعدني في تخطّي ظروف النزوح والحرب والتوتّر والخوف من المجهول”. ويعقوب مثلها مثل كثيرين من أبناء حولا والجنوب، لا يعلمون حتّى الساعة بحجم الدمار الذي أصاب منازلهم وممتلكاتهم.

وتضيف: “أنتقي التصميم والألوان بحسب تصوّري للرسمة، وأحيانًا بحسب ذوق وطلب الزبون”. شغفها في هذه الحرفة حفّزها على صناعة ما هو جميل ومميّز. هي تمارس فنّ الكروشّيه مذ كانت في عمر صغير جدًّا “أحببت هذه الحرفة فتعلّمتها ولوحدي. كنت أشاهد ابنة خالتي وأنا في سن الثانية عشرة”. تعود بذكرياتها إلى الماضي يوم أهدتها ابنة خالتها صنّارة الكروشّيه وهي ما زلت تحتفظ بها حتّى يومنا هذا.

مصدر رزقٍ

مارست يعقوب هذا الفنّ كهواية طوال نحو 30 عامًا، وكانت تُهدي منتوجاتها للأصدقاء والأقارب، يوم كانت تعيش برفقة زوجها وأطفالها الثلاثة في السعوديّة، لكنّها قبل خمسة أعوام قرّرت العودة والاستقرار في لبنان، لتبدأ الأزمة الاقتصاديّة النقديّة في البلاد، وتخسر وديعتها في البنوك بالعملة الوطنيّة، “بعد غربة سنوات، ضاع شقاء عمرنا أنا وزوجي. لا دخل ثابت لدينا، ومدّخراتنا تبخّرت في البنوك، لهذا السبب عدت إلى امتهان حرفة الكروشّيه”.

هذه الحرفة كادت أن تندثر لقلة المهتمّين بها، لكنّها عادت في السنوات الأخيرة لتجتاح عالم الموضة بقوّة على منصّات العروض العالميّة، فيما تنشط هذه الحرفة وتزدهر راهنًا على رغم الحرب القائمة في جنوب البلاد

تعرّفت منى عن طريق الصُدفة على متجر “أمّ محمّد” التي تبيع أدوات الكروشّيه في بئر السلاسل (خربة سلم) في جنوب لبنان، وباتت هذه الحرفة مصدر رزقها الأساس في زمن الحرب والنزوح، لكنّ إنتاجها يحتاج إلى الترويج والدعم، وهي لمّا تزل ضمن المحيط الضيّق من الأقارب والأصدقاء.

“طارة وصنّارة”

في مجموعة على تطبيق “واتس أبّ” باسم “كروشّيه طارة وصنّارة”، تجمع الحاجّة أمّ محمّد من بلدة خربة سلم الجنوبيّة ما يقارب 250 سيّدة من قرى وبلدات جنوبيّة مختلفة مثل المجادل والسلطانيّة وشقرا وتبنين، يعملن جميعهن في حياكة الكروشّيه.

تزامن تأسيس المجموعة على “واتس أبّ”  مع افتتاح متجرها لبيع أدوات الكروشّيه. تُشارك المحترفات من خلاله بكلّ ما هو جديد في هذا العالم الواسع من الأدوات والتصاميم، وتؤمّن لهنّ طلباتهنّ من الموادّ الأوّليّة.

وقد امتهنت أمّ محمّد صناعة الكروشّيه قبل ست سنوات، وافتتحت دكانها الخاصّ بالشراكة مع زوجة أخيها، وهو مشروع صغير في القرية. وقد تعلّمت وهي صغيرة في سنّ الثامنة مسك الصنّارة من شقيقتها الكبرى، أيّ “من الجيل السابق” على حدّ تعبيرها، لكنّها بقيت مجرّد هواية تمارسها في أوقات الفراغ، إلى جانب كونها معلّمة مادّة الدين بعد حيازتها على ماجستير في علوم القرآن والعقيدة والفلسفة، لتشكّل دخلًا إضافيًّا لها في ما بعد.

من أعمال أم محمد

تقول لـ”مناطق نت”: “هو عالم واسعٌ وفيه كثير من الإبداع. لا يمكن لأحد أن يتعلّم هذه الحرفة إن لم يحبّها حقًّا. ولأنّني أحببتها ولمست حماسة النساء وشغفهنّ في القرى المحيطة هنا، ابتكرت تصاميم خاصّة أسوّقها على صفحاتي في السوشيال ميديّا ومنها واتس أب وكذلك كلّ ما يهمّ السيّدات من موادّ أوّليّة لصناعة الكروشّيه”.

واللافت أنّ النساء في محيطها تشجّعن على تعلّم الحِرف الأخرى، مثل تطريز الطّارة واتّجهن نحو الحِرف اليدويّة، وهذا بحدّ ذاته مجال واسع وفيه كثير من الإبداع والشغف.

سلعة محبّبة

لا يزال كثيرون من الناس يقتنون مصنوعات الكروشّيه ويقدّمونها كهدايا وتذكارات لانخفاض أسعارها مقارنة بأسعار الجاهزة في الأسواق، وتقديرًا لهذه الحِرفة اليدويّة المصنوعة بشغف وحبّ. وعادة ما ينشط الطلب على مثل هذه السلع في فصل الشتاء، لكنّ الحرب المشتعلة في الجنوب فرضت واقعًا استثنائيًّا، فتراجعت نسب البيع بحسب ما تؤّكد أمّ محمّد، وتقول: “انخفضت نسبة البيع لديّ بنحو 60 بالمئة منذ اندلاع الحرب الحدوديّة، خصوصًا وأنّ غالبيّة زبائني ممّن يصنعون الكروشّيه هم من القرى المحاذية لفلسطين المحتلّة وقد نزح معظمهم”.

وعلى رغم ظروف الحرب الصعبة لا تزال صاحبة المتجر تفتح أبوابه أمام النساء اللواتي يقصدنها لشراء ما يحتجن من خامات الصوف المختلفة وأدوات التطريز خصوصًا من يمتهنّ صناعة الكروشّيه لبيعها، إلى جانب بعض التصاميم التي تعدّها وتحوكها وتعرضها للبيع، في حين تصلها طلبات الناس من الجنوب والشمال والعاصمة بيروت وكلّ لبنان.

من أعمال أم محمد
تراجع بتأثير الحرب

لكن الحال مختلفة لدى بعض النساء اللواتي أثّرت الحرب فيهنّ بشكل كبير، بسبب تراجع قدراتهنّ المادّيّة وارتفاع أسعار الموادّ الأوّليّة مثل الصوف، بسبب انهيار العملة الوطنيّة وتسعيرها بالدولار، لا سيّما أنّ معظم المصالح تضرّرت في القرى الحدوديّة وشُلّت الحركة الاقتصاديّة ما عدا الضروريّة منها كالموادّ الغذائيّة.

“أمّ فضل” سيدة أربعينيّة وأمّ لطفلين من بلدة كفرا الجنوبيّة (قضاء بنت جبيل). هي واحدة من هؤلاء النساء اللواتي أثّرت الحرب فيهن بشكل مضاعف، لجهة تراجع القدرة المعيشيّة لديها أوّلًا، ولجهة التوتّر والضغط النفسيّ الذي تعيشه بفعل الحرب ثانية، مّما جعلها غير قادرة حتّى على ممارسة هذه الهواية.

تقول لـ”مناطق نت”: “الكروشّيه من أمتع الأعمال اليدويّة التي تعلّمتها، لكنّ أسعار “كبكوب” الخيطان باتت مرتفعة بفعل أزمة الدولار، وبعض الأحيان تكون خارجة عن مقدورنا نحن النساء ممّن لا يشكّل هذا العمل مصدر دخل لنا”.

الأطفال البنات أيضًا

وتضيف: “في حسبة بسيطة أحتاج من أجل حياكة كنزة لابنتي وعمرها 13 عامًا، قرابة ستة “كباكيب” صوف، أيّ ما ثمنه 15 دولارًا على أقلّ تقدير، باعتبار أنّ سعر الكبكوب الواحد هو دولاران ونصف الدولار”. مع العلم أنّ أسعار خيطان الصوف تختلف بين نوعيّة وأخرى “هذا في حال ساعدت الظروف النفسيّة في أنّ أتمكّن من إنجاز هذه المهمّة” على حدّ تعبيرها.

ويُعدّ أمر لافت أن تسعى الفتيات والأطفال البنات في عمر صغير من أجل تعلّم هذه الحرفة. وتختم “أم محمد”: “إنّ كثيرات من الفتيات يقبلن على شراء أدوات للاكسسوار والزينة في فصل الصيف بعد انتهاء العام الدراسيّ وبتشجيع من ذويهنّ”.

من أعمال أم فضل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى