حينما تبدّل الحرب أنماط النزاعات المجتمعيّة

“تطوّر اعتراض قريبتي الدائم على قائمة الطعام، إلى نزاع حادّ بيننا، فهي كانت تحاول دائمًا فرض أنواع مأكولات معيّنة وطريقة طبخها بما يتناسب مع ذوقها الخاصّ، دون أن تقيم أيّ وزن لذوق الآخرين أو الأخذ بعين الاعتبار الظروف غير الطبيعيّة التي كنّا نعيشها أيام النزوح”.. هذا ما أفصحت عنه إحدى السيّدات خلال ندوة تفاعليّة كنت أنظّمها في حسينيّة بلدة البازوريّة (صور)، حول النزاعات أثناء النزوح.
تلك النزاعات اتّخذت من الأهوال التي خلّفتها هذه الحرب وحجم الدمار والموت، وخوْضنا لتجربة النزوح القاسية والقسريّة طرقًا معبّدة وسهلة لتنتصر ولتنخر في مجتمعنا، مسبّبة ندوبًا أخلاقيّة وقِيَميّة، متنكّرة بوجهها الجديد الذي استحدثه الواقع المفروض، متّخذة مسارات مغايرة ومتقلّبة، بتأثيراتها السلبيّة ليس فقط على الكيان الذاتيّ للأفراد وإنّما في الصلات الاجتماعيّة أيضًا.
كثرٌ هم الذين يتحدّثون عن الحرب الأخيرة والتي ما زالت مستمرة على أنّها حرب وجوديّة، وإذا ربطنا هذا المفهوم بالنزاع سندرك حتمًا لماذا تتّخذ نزاعاتنا المجتمعيّة أشكالًا مختلفة وجديدة.
تطوّر النزاع
في الندوة ومن خلال تفاعل المتحدّثين، يظهر النزاع بعد الحرب متخطّيًا لكونه “جانبًا حتميًّا من التفاعل البشريّ” كما أخبرنا “جاك لاكان”، ليتّخذ مسارًا طويلًا من المقاطعة فيتعدّى الأشخاص، ويتحوّل عداءات عائليّة، وبخاصّة عند دخول أطراف متعدّدة إلى قلب المشكلة حيث يتحوّل النزاع من طرفين إلى مجموعتين أو أكثر.
كثرٌ هم الذين يتحدّثون عن الحرب الأخيرة على أنّها حرب وجوديّة، وإذا ربطنا هذا المفهوم بالنزاع سندرك حتمًا لماذا تتّخذ نزاعاتنا المجتمعيّة أشكالًا مختلفة وجديدة
لذا، تظهر هنا أهمّيّة قوّة الكلمة والتعبير في الوقاية من هذه الانفجارات وفي تلافي بناء “التحالفات” ليصبح التركيز على الإدراك الفعليّ للسبب الحقيقيّ لهذا النزاع، وعدم البناء على تصوّرات مسبقة، والتي يساهم فيها أحيانًا قرار أحد الأطراف التزام الصمت واتّخاذ موقف سلبيّ تجاه الآخر.
من الواضح جدًّا تغيّر شكل النزاع المجتمعيّ بعد الحرب عمّا قبلها، ففي حين كانت النزاعات (في المجتمعات الضيّقة) بمجملها بنيويّة أو علائقيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة وأحيانًا سياسيّة، نجدها اليوم تتركّز عند قاعدة “هرم ماسلو” للاحتياجات، لأنّ الوجود يبدأ من هناك، من الاحتياجات الحيويّة (الطعام والشراب) لتصبح نزاعات على الموارد، في ظلّ انعدام الأمان والاستقرار.
الأسباب العميقة للنزاعات
في الندوة الآنفة الذكر، والتي تتمحور حول النزاع وكيفيّة تفكيكه وإدارته والحلول الممكنة، تضيف السيدة التي تحدّثت سابقًا عن خلافها مع إحدى قريباتها، أنّ الأخيرة كانت تتصرّف في مركز النزوح وكأنّها في مطعم خمس نجوم، تطلب طعامها الصحّيّ بلا زيت، بلا ملح، بلا أيّ نوع من أنواع البهارات. تتابع “الظرف لم يكن ليسمح بهدر الطعام”.
المشكلة أنّ العائلتين ما زالتا على خصام، هنا تخرج الكلمات عمياء، شرسة، وبلا تسريح، تعلو الأصوات دون الغوص في التفاصيل أو مجرّد سؤال: لماذا؟ ولكن يبدو الخوف من شحّ “الموارد” جليًّا في سبب المشكلة.
على المقلب الآخر
في المقلب الآخر تحدّثت القريبة التي اتُهمت بالاعتراض على قائمة الطعام، عن معاناتها من مشاكل صحّيّة قديمة، وقلقها من صحوة هذه المتاعب، بسبب الضغط النفسيّ، والإرهاق الفكريّ، والخوف المرافق لأصوات الصواريخ والقذائف، والانتظار المرهق لأيّ بادرة أمل.
لذا قرّرت تلك القريبة تبنّي هذا التقشّف، الذي لا يمتّ إلى النزق بصلة، دون أن تتجرّأ على البوح بهاجسها الصحّيّ، وربّما الماليّ (الحاجة إلى الدواء في حال عودة المرض)، معتمدة الطريقة العدائيّة نهجًا تجاه مخاوفها كما تجاه الموقف المقابل، بدلًا من المصارحة.
هو خوف وجوديّ من نوع آخر، الخوف من المرض وربّما الموت، بالإضافة إلى الإكتظاظ والضغط النفسيّ والضجيج وتغيير النظام اليوميّ والافق المجهول. ولكن لا هي صارحت ولا تلك تفهّمت، ما سمح لتسلّل النزاع بخفّة، مخلّفًا تداعيات جمّة كانتا بالغنى عنها.
على فوّهة بركان
الأشخاص في الحروب يبدون وكأنّهم على فوّهة بركان، تحكمهم العودة إلى البدائيّة، إلى الشراسة، إلى الوجه المتوحّش للإنسان الأوّل، حيث الغريزة هي المدماك الأوّل للحفاظ على الوجود، فيصبح كلّ ما عاشه الناس من أنماط عيش راقٍ، وأساليب تحضّر، وما تمّ حصده من مكاسب على صعيد التطوّر الإنسانيّ، وعلى رأسها الحوار والتواصل الجيّد طيّ النسيان. إذ تتحول الحرب الكبرى إلى حروب صغيرة: “أنا” مقابل “أنت”.
المشكلة هنا ليست في النزاع بحدّ ذاته، بل بكيفيّة التعامل مع الحدث الذي خلّف هذا النزاع. كأنّ كل طرف لا يثق بقدرة الآخر على الاحتواء أو التفهّم، ليصبح الطرفان ضحايا الأحكام المسبقة.
الأشخاص في الحروب يبدون وكأنّهم على فوّهة بركان، تحكمهم العودة إلى البدائيّة، إلى الشراسة، إلى الوجه المتوحّش للإنسان الأوّل
في البلديّات تتّخذ النزاعات أشكالًا أخرى، مع بقاء الموارد السبب الرئيس لتفجّر النزاعات وازديادها. إذ ما زالت البلديّات تعاني الشحّ بالأموال، وما زالت تكابد بسبب تداعيات الانهيار الاقتصاديّ وأزمة “كورونا” والنزوح بوجهيه (السوريّ واللبنانيّ) كما المعاناة من الحرب الأخيرة.
واقع الحال
في مكتب أحد رؤساء البلديّات حيث يدور النقاش حول البنية التحتيّة وكيفيّة الحفاظ عليها، ومحاولة القيام بأعمال الصيانة الدوريّة، يظهر النزاع صامدًا في مواجهة النوايا الطيّبة، وإرادة التغيير لتلبية الاحتياجات، لا ليقاوم السلام بل ليهزمه، وبالضربة القاضية.
يبدو المشهد “سورياليًّا” في بلدة “عطشانة” تقع على البحر من جهة وعلى النهر من الجهة الأخرى، تكتمل الصورة بدخول شخصين من البلدة إلى المكتب يتنازعان حول “قسطل الميّ” -الجاف أصلًا- في اتّهاماتهما المتبادلة بسرقة المياه. هنا تظهر الحاجة أهمّ من الوعي ويصبح التحكّم بالانفعالات بعيدَ المنال، ليتحوّل المشهد وكأنّه أحد المشاهد في مسرحيّة “بيّاع الخواتم”: “علقت خناقة ع المي، وأزعجوا سكّان الحيّ”.
في البلدة الرازحة تحت عبء عدد سكّانها الأصليّين إضافة إلى ضغط النازحين، وزيادة الطلب على الاستهلاك في هذا الصيف الملتهب، ترتفع حرارة الانفعالات وجاهزيّة التأهّب ويتصبّب عرق الغضب، في البلديّة الغارقة بمحاولات فكّ شيفرات معادلات “الاستهلاك مقابل الإنتاج”، والتي تقف عاجزة أمام ما يسمّى بـ “الترشيد مقابل الإدارة في التوزيع” حيث لا “زبوطة ولا تدقيق”. يغذّي المشهد هنا سوء التواصل ليتفاقم النزاع ويتمدّد كي يشمل سكّان الحيّ… العطاشى.
أمّا “قسطل الميّ” فـ “سلّمناه للمراجع” و”الإمضاء: الشاويش”.