حينما تغدو الانتخابات ساحة إقصاء وتمييز

في أحد مراكز الاقتراع في منطقة بعلبك، وقفت سلمى، امرأة سبعينيّة، على عتبة درج طويل يؤدّي إلى غرفة الاقتراع، تبحث بعينيها عن يدٍ تُعينها وتجنّبها التعثّر. تتّكئ على عكازها وتطلب من الشرطيّ أن يمهلها قليلًا، لعلّها تجد قريبًا يرافقها، بعدما قرّرت أن تأتي وحدها إلى المدرسة، “لترى العالم”، كما قالت.
منذ سنوات، تعاني سلمى من كسر في الظهر جعل صعود الأدراج مهمّة شاقّة شبه مستحيلة، تحمل بطاقة “المعوّقين” بين يديها كبرهان حيّ، لعلّها تشفع لها وتجنّبها الصعود. كانت واقفة هناك، تنتظر معجزة – أخلاقيّة وحقوقيّة- تجعل هذا البلد أكثر أمانًا، وأكثر دعمًا لها كي تمارس حقّها الطبيعيّ فيّ الاقتراع بكرامة.
ولم تكن سلمى وحدها على أعتاب الدرجات. من البقاع إلى جبل لبنان، ومن الشمال إلى بيروت، واجه مئات من ذوي وذوات الإعاقة الحاجز البنيويّ نفسه، الذي يتكرّر مع كلّ استحقاق انتخابيّ. بعضهم تملّكه شعور الخذلان، وآثر العودة إلى منزله، بعدما شعر أنّ صوته يُقصى قبل أن يصل إلى صندوقة الاقتراع.
وعلى رغم مرور 24 عامًا على صدور القانون 220/2000، الذي يكفل حقوق الأشخاص المعوّقين، وعلى رغم توقيع لبنان على الاتّفاقيّة الدوليّة لحقوقهم، لا تزال الانتخابات- ببلديّاتها ونوّابها ومجالسها- تشكّل ساحة تمييز سافر، وإقصاء ممنهج لفئة لا تطالب سوى بحقها بالمشاركة، دون عوائق.

حين تغدو الانتخابات ساحة إقصاء
انتشر خلال الأسبوع الانتخابيّ الفائت شريط فيديو للنائب البقاعيّ حسين الحاج حسن، وهو يعاون مجموعة من الرجال على حمل امرأة مقعدة على درج أحد مراكز الاقتراع، لإيصالها إلى غرفة التصويت.
مشهدٌ بدا، للوهلة الأولى، إنسانيًّا ورقيقًا، يعكس تعاطفًا ولحظة رهافة… لكنّه، عند التمعّن، يكشف هشاشة بنية أخلاقيّة وتناقض في دلالاته، حتّى مع افتراض حُسن النيّة.
فالنائب ليس من يُفترض به حمل الشعب على الأدراج، بل هو مَن يُنتخب ليمثّل هذا الشعب داخل البرلمان، أيّ كسلطة تشريعيّة في البلاد. دوره أن يقترح القوانين، أن يعدّلها، أن يراقب التزام الحكومة بها، ويحاسبها عند التقصير. المشهد إذًا لا يُظهر نائبًا يؤدّي واجبه، بل يُجسّد شرخًا صارخًا بين المهام التشريعيّة المفترضة، وما يُمارس فعليًّا على الأرض.
هل هذا الفعل يشكّل دفاعًا عن حقوق ناخبيه؟ وهل نقل مطالب الأشخاص من ذوي الإعاقة إلى الجهات الرسميّة يتمّ عبر حملهم جسديًّا بدل المطالبة بتأمين وصولهم إلى مراكز الاقتراع بكرامة، ويحفظ استقلاليّتهم؟
ما رأيناه، في الحقيقة، هو امرأة تُعامَل كـ “أثاث” يُنقل على الأدراج، في تكرار جارح ومؤذٍ جسديًّا، بسبب الطريقة التي يُحمل بها الناخبون والناخبات من ذوي الإعاقة، وسط غياب شبه تامّ للتجهيزات اللوجستيّة التي تصون كرامتهم وتضمن مشاركتهم الفعليّة. مشهد يكرّس الإقصاء، حتّى حين يُتظاهر بعكس ذلك.
نظّمت حملة “حقّي” لمراقبة الحقوق السياسيّة للأشخاص المعوّقين جولة ميدانيّة شملت 68 مركزًا انتخابيًّا. النتائج جاءت صادمة: مصاعد غير صالحة على رغم توافر الكهرباء، منحدرات مغلقة عمدًا، أقلام اقتراع في الطوابق العلويّة
انتهاكات تتكرر فمن يحاسب؟
في لقاء نظّمه الاتّحاد اللبنانيّ للأشخاص المعوّقين حركيًّا بالتعاون مع برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، وعدت وزيرة الشؤون الاجتماعيّة حنين السيّد بتحسين التنسيق مع وزارة الداخليّة لتأمين مشاركة أفضل للأشخاص ذوي الإعاقة في العمليّة الانتخابيّة. أشارت إلى وجود “تعاون لتبادل البيانات وضمان وصول الناخبين إلى الطوابق الأرضيّة”، في محاولة لطمأنة الناخبين من تكرار الإخفاقات.
لكنّ الواقع، في الجولة الأولى من الانتخابات البلديّة والاختياريّة في جبل لبنان، كشف فجوة صارخة بين الخطاب الرسميّ والتنفيذ. فقد نظّمت حملة “حقّي” لمراقبة الحقوق السياسيّة للأشخاص المعوّقين جولة ميدانيّة شملت 68 مركزًا انتخابيًّا. النتائج جاءت صادمة: مصاعد غير صالحة على رغم توافر الكهرباء، منحدرات مغلقة عمدًا، أقلام اقتراع في الطوابق العلويّة، ومرافقون يُمنعون من تقديم الدعم، حتّى في الحالات الضروريّة، يمنع وصول السيّارات التي تقلّهم وغيرها من الانتهاكات. وهو ما تكرّر في الجولة الانتخابيّة الثانية في مناطق البقاع وبيروت.
تقرير الحملة أشار إلى أنّ المعايير الهندسيّة، حين تُطبّق، تُقابل بإهمال إداريّ يُفرغها من معناها. كما سُجّلت انتهاكات تمسّ بسرّيّة الاقتراع، وغياب شبه تامّ للغة الإشارة. ما يعني أنّ الوزارة تُعلن وعودها، لكنّها لا تفي بها.
فهل يكفي الاعتذار الرسميّ لتبرير هذا الإخفاق المتكرّر؟ وأين المحاسبة الفعليّة حين تُفرّغ المشاركة السياسيّة من مضمونها وتستمرّ انتهاكات الأفراد؟
الحقّ بالوصول للجميع
وليست هذه المطالب حكرًا على الأشخاص المعوّقين، بل تشمل أيضًا كبار السنّ، والمصابين موقّتًا، والأمّهات الحوامل أو اللواتي يصطحبن أطفالهنّ، وكلّ من قد يواجه عوائق في ممارسة حقّه السياسيّ.
هذا وتبقى الانتخابات مرآة للعدالة الاجتماعيّة. أمّا في لبنان، ما زالت تعكس واقعًا مثقلًا بالعوائق؛ عتمة على السلالم، ومداخل مغلقة، ومراكز غير مهيّأة وتدخّلات سياسيّة وغيرها.
قليل من الضوء يتسلّل إلى صناديق الاقتراع، فيما يُثقل الوصول إليها بحواجز لا تليق بديمقراطيّة تُفترض للجميع.