حينما تلوّح ستائرنا للحرب خلف النوافذ المكسورة

يتسلّل الهواء البارد من باب شرفتي، يلسع ما تبقّى في داخلي من دفء الحياة، أتردّد في إغلاقه، أسمع صوت أمّي: “اتركي النوافذ والأبواب مفتوحة، حتّى لا تنكسر إذا كان القصف قريبًا…”.

هذه المرّة لم أكترث، أغلقت الباب بإحكام وأغلقت النوافذ جميعها. منعت وصول الأوكسجين من الدخول إلى شقّتي، لا أريد أن أسمع الضجيج في الخارج، صخب السيّارات وأبواق الڤانات وصياح سائقي الدرّاجات الناريّة…

هذه المرّة لن أكترث، لن أبكي على زجاج نافذتي إذا انكسر، لن أبكي كما بكيت يوم عدنا إلى منازلنا بعد توقّف الحرب (هكذا ظننّا). يومها، لم أبكِ زجاج الأبواب والنوافذ المحطّمة، لكنّني بكيت الصور المهشّمة التي كانت تزيّن جدران منزلي وظلّت تحتضننا جميعًا: أنا، عائلتي، وكثيرًا من الأقارب والأحباب في إطار واحد.

صور لذكريات بلا إطارات

صور كثيرة، لكنّها بدون إطارات، تملأ طرقات الجنوب، تملأ مداخل المدن والبلدات، صور لشباب بعمر الورود، هكذا يقولون، يحاولون زيادة لوعة الفراق من خلال تشبيه عمر الشباب بعمر الورود، التي حين تُقطف تموت في عزّ جمالها. صور وابتسامات أولئك الشباب مُربكة، نظراتهم نحو المارّين من الصعب فهمها.

مريول لأحد التلامذة الذين قضوا في الحرب معلق على ركام منزله المدمّر في الضاحية (تصوير محمد قليط)

الصور في بيتي بقيت صامدة، تحمل الوجوه نفسها، تعيد ذكريات لم تبهت على رغم قسوة الحرب، تحفظ ملامحنا، ابتساماتنا، وأماكن مررنا بها يومًا مسرعين، لاهثين خلف حياة أرهقتنا، حتّى انحنت ظهورنا تحت ثقلها، وطأطأت رؤوسنا أمام واقع نعجز عن تغييره.

مع مرور الوقت، أصبحنا نعيش هذه الصعوبات وكأنّها جزء من حياتنا، قدرة اللبنانيّين على التحمّل والصبر فريدة، فقد اعتادوا الحياة الصعبة، وكأنّها جزء لا يتجزأ من وجودهم ونتيجةً لتجاربهم الجماعيّة المريرة، باتوا يجدون الراحة في عدم الراحة، ويتأقلمون مع غياب الكهرباء والماء والمواصلات العامّة، ويتقبّلون الكلفات الصحّيّة الباهظة وجشع التجار وغياب الرقابة.

وعلى رغم أنّ هذا الأسلوب في التعايش قد يمنحنا شعورًا بالسلام الداخليّ، إلّا أنّه في الواقع يحوّلنا إلى أسرى، راضخين لكلّ ما هو صعب؛ وبدلًا من السعي إلى التغيير، يصبح الاستسلام هو الخيار الأسهل، ما يجعلنا ندور في دوّامة تلتهم حاضرنا ومستقبل أطفالنا.

أين نجد الأمان؟

زادت الحرب من ثقل هذه الأعباء، وألقت علينا مخاوف جديدة تدفعنا مرّة أخرى إلى الهروب، إلى البحث عن أمانٍ في قلب اللاأمان. ما شهدناه في الأسابيع الماضية من انتهاكات لوقف الأعمال القتاليّة جعلنا نواجه معضلة وجوديّة “الأمان”.

القلق التهم عقولنا، ووضعنا في متاهات لا نهاية لها، بحثًا عن ملجأ، عن يد نلوذ بها. وحين سألنا، جاءت الإجابة واحدة: “الأمان عند الله.”

أين نجد الأمان؟ هل في البيت؟ في الملجأ؟ في الشارع أم في العمل؟ هل يكون مع الطائفة أم بعيدًا عنها؟ من يمنحنا الطمأنينة؟ من يمسّد على رؤوسٍ شابَ شعرُها من كثرة المخاوف والصدمات؟ ما عشناه ونعيشه ليس طبيعيًّا، ولكنّنا لم نعد نميّز بين الطبيعيّ وغير الطبيعيّ.

القلق التهم عقولنا، ووضعنا في متاهات لا نهاية لها، بحثًا عن ملجأ، عن يد نلوذ بها. وحين سألنا، جاءت الإجابة واحدة: “الأمان عند الله.”

لكن… هل عليّ أن أسرع للوصول إليه؟ هل أترك الأبواب مفتوحة أم أحكم إغلاقها؟ لم أعد أشعر بالذنب، ولن أشعر به، حتّى لو تهشّم زجاج الصور الجديدة. فمن سبقنا إلى الله، علّقنا له صورة على الجدار…

سمعت حديثًا غريبًا عاد إلى ذاكرتي وأنا أكتب. أخبرت صديقتي جارتها، خلال جلسة صباحيّة، أنّها على رغم مرور السنوات لا تزال تحدّث صور أمّها التي علّقتها على جميع جدران المنزل. وبينما كانت تسرد تفاصيل يومها مع الصور، استغربت الجارة وسألتها: “هل وضعت صور لأمّك في غرفة النوم أيضًا؟ هذا لا يجوز…”

في الحقيقة لا أحبّ صور الأموات في البيوت، لا أعرف السبب، ولكنّ العادات والتقاليد، تجعل صور الراحلين، مخلّدة على الجدران، كشخص يراقبك من الأعلى، يضع أمامك الموت كلّما نظرت إليه، على الرغم من أن صور جميع الراحلين تكون جميلة، بأبهى حلّة وابتسامة بريئة، إلّا أنّها تبقى تذكارًا للألم والفقد.

بلا مساحات رماديّة

في الحقيقة كلّما تقدّمت في العمر، ازدادت الصور من حولي. صور الشهداء على الطرقات، شهداء المرحلة والوطن والمبدأ، شهداء القضيّة. تغيّرت وجوههم، وتبدّلت خلفيّات صورهم، لكنّ الأرض التي احتضنتهم بقيت واحدة، ولم ترتوِ من دمائهم حتّى اليوم. الفلاحون يعرفون جيّدًا أن الأرض لا تقول “كفى”، فهي تواصل ابتلاع ما يسقط فيها، وتظلّ بلونها الداكن تمنحنا ألوان الحياة ورودًا حمراء ونباتات خضراء.

وعلى الرغم من كلّ هذه المعاناة، لا أكترث، ولن أكترث، شعوري الآن هو الأمان في قلب اللاأمان، الراحة في عدم الراحة. صرت أحمل ثنائيّة الموت والحياة، أعيش بين الأبيض والأسود، بلا مساحات رماديّة، بلا حلول وسطى. لا أريد بابًا نصف مغلق، فإمّا أن يكون مشرّعًا على الريح، أو لا يكون.

كيف تُحسب هذه الأيّام التي نعيشها؟ هل أعتبر نفسي على قيد الحياة، أم أنّني مجرّد ناجية بالصدفة، محميٌّة من موت مؤجّل؟ لم أعد أخشى الموت، بل أرتعب من فقدان من أُحِبّ.

أسمع صوت الصاروخ، صار مألوفًا كأنّنا حفظناه عن ظهر قلب. بتنا خبراء في الأصوات، جهازنا العصبيّ متأهّب لالتقاط إشارات الخطر، نميّز بين أنواع الطائرات، بين الصواريخ ومدى قربها منا، وفي لحظة الانفجار نسمع صوت المكان، يعوي كذئاب الجبل حيث أعيش. تلك الذئاب التي تنوح ليلًا، تنادي بعضها جماعاتٍ جماعات، ثمّ تختفي أصواتها حين تصبح الظلمة حالكة، ويغيب القمر في غياهب النسيان.

ستائر غرفتي ممزّقة

عندما عدت إلى بيتي بعد وقف الحرب المفتوحة وجدت ستائر غرفتي ممزّقة، كنت أترك النوافذ مفتوحة، تتطاير مع كلّ نسمة، تتجوّل بخفّة، تتفقّد الجوار، ثمّ تعود لتنسدل حين يهدأ كلّ شيء، تغطّي حقيقتنا المكشوفة، تحجبنا عن نظرات الآخرين. لم أربطها يومًا، كنت أتركها حرّةً أمام الهواء، متمرّدةً على القيود، تطوف كما تشاء ثمّ تعود إلى مكانها. لكن مع عصف الصواريخ، تطايرت، تمزّقت، ومع ذلك بقيت عالقة فوق النافذة. لا أدري، لو أنّني أغلقتها، هل كنت سأحميها من مصيرها المحتوم؟

هذه الستائر لم تكن مجرّد قماش، بل رمز للتحرّر بالنسبة إليّ. رفضت أن أغيّرها وحملت إبرةً وخيطًا، وبهدوء الصوفيّ، بدأت أحيكها. جلست لساعات أمام نافذتي الإخباريّة، أشاهد الأجساد الممزّقة في غزّة ولبنان، وأخيّط ستارتي. أغلق كلّ جرح فيها، أبدأ بالكبير، ثم أنتقل إلى الأصغر، وحين تأكّدت أنّها أصبحت جاهزة لتقاوم الريح من جديد، رفعتها إلى مكانها.

اليوم، تنسدل ستائري، تحجب الدمار الذي تكشفه النافذة. لا أريد أن أفتحها، أفضّل أن تنكسر النافذة على أن تتمزّق ستارتي مرّة أخرى. وإن كان قدري الموت، فليكفّن جسدي بمزق من ستائري…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى