حينما نكبت الحرب الغبيري عاصمة قطع غيار السيّارات
في “شارع رعد” أحد شوارع منطقة الغبيري يقف علي إبراهيم الخنسا “علي عفيف” قرب مؤسّسته التي سوّيت بالأرض، نتيجة قصف إسرائيل المبنى وتدميره بشكل كامل. خسائر الخنسا لا تقتصر على مؤسّسته، بل على متجرين وشقّتين يملكها في المبنى نفسه. يُعتبر علي عفيف من أقدم تجّار “الكولييه” في الغبيري، فهو تاجر جملة ويحظى بثقة الشركات التي يتعامل معها وترفده بالبضائع. يقول علي الخنسا لـ”مناطق نت”: “إن الخسارة ليست بخسارة مؤسّسته، بل باغتيال السيد حسن نصرالله والشهداء”.
أكثر من مليوني دولار من البضائع هو حجم الخسائر التي سجّلها تجّار قطع غيار السيّارات في الغبيري، جرّاء العدوان الاسرائيليّ الذي استهدف الضاحية الجنوبيّة بشكل شبه يوميّ، بدءًا من الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي، تاريخ توسعة الحرب (الحرب الكبرى)، واستمر على مدى 66 يومًا وتكثّف في الأيّام الأخيرة قبل سريان مفعول اتّفاق وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) الماضي.
استهداف الغبيري التي تُعرف بأنّها “عاصمة” قطع غيار السيّارات والـ “كاراجات”، لما لها من تاريخ عريق في ذلك، خلّف خسائر جسيمة في البضائع، بعد أن سوّيت عديد من المباني التي تضمّ عشرات المحال التجاريّة بالأرض، وهو ما أدّى إلى توقّف أصحاب هذه المحال والمصالح بشكل كلّيّ عن العمل، لتبدأ معاناة أخرى، تتمثّل بالتفتيش عن أماكن أخرى يلجأ إليها التجّار لفتح محالهم من جديد، تترافق مع انعدام الحركة التجاريّة وضعف إقبال الزبائن.
أكثر من مليوني دولار من البضائع هو حجم الخسائر التي سجّلها تجّار قطع غيار السيّارات في الغبيري، جرّاء العدوان الاسرائيليّ الذي استهدف الضاحية الجنوبيّة بشكل شبه يوميّ
قلق بشأن التعويضات
القلق الأكبر الذي يعيشه التجّار اليوم ويشكّل هاجسًا لهم، هو ما يخيّم على الأفق من ضبابيّة حول التعامل مع مسألة التعويضات في القطاع التجاريّ، إذ إنّ الأولويّة في التعويض اليوم هي لمن فقدوا منازلهم، وهو ما أدّى إلى حال قلق وترقب وحذر يعيشها التجّار بانتظار عمليّة إعادة الإعمار التي تبقى الأمل الوحيد بالنسبة إليهم للعودة إلى العمل.
وصلت خسائر علي إبراهيم الخنسا نتيجة القصف إلى نحو نصف مليون دولار. معظم بضاعته تبعثرت بين الردم والطريق، عدا عن الخسائر التي لحقت بالموظّفين، فالمؤسّسة كانت تعيل أربع عائلات، جميعها تعاني اليوم من أعباء اقتصاديّة تتعلّق بتأمين مستلزمات العيش.
يعيش تجّار قطع غيار وصيانة السيّارات في الغبيري اليوم واقعًا اقتصاديًّا صعبًا، يسعون نحو تعويض خسائر أيّام الإغلاق، التي فرضها عليهم العدوان المستمرّ أكثر من شهرين، فإغلاق المحال بدأ بشكل تدريجيّ مع اقتراب القصف إلى المنطقة، حيث تحوّلت أعمالهم إلى Delivery بحسب الطلب، وهو ما أدّى إلى تأخّر إيصال بعض الطلبيّات التي ارتفعت أسعارها بشكل نسبيّ، ومع توقّف القصف عاد التجّار وأصحاب المصالح لتفقّد أرزاقهم مسجّلين تفاوتًا في حجم الخسائر.
عاصمة قطع الغيار
لم تشهد الغبيري وتحديدًا “شارع حسينيّة الخنسا ومحيطه” في حرب تمّوز (يوليو) 2006 ما شهدته خلال الحرب الأخيرة، فالغارات طالت سوقًا اقتصاديّة هامّة لأهل المنطقة والضاحية الجنوبيّة، إذ تعتبر الغبيري مدينة صناعيّة و”عاصمة” قطع الغيار وصيانة السيّارات، وهي تضمّ أشهر المتاجر مثل “كاسكو”، “الغندور”، “عماشة”، “الأسمر” وغيرها من المتاجر.
دفعت توسعة الحرب في أيلول الماضي وشمولها الضاحية الجنوبيّة في بيروت، بالتجّار إلى تأمين مستودعات خارج المنطقة، ومع البدء باستهداف الغبيري وإغلاق المحال، باشر عدد من التجّار العمل في مستودعاتهم الجديدة، بغية تأمين قطع الغيار والصيانة لزبائنهم عبر الهاتف وإرسالها إلى مختلف المناطق.
يشير علي إبراهيم الخنسا لـ “مناطق نت” إلى أنّه “حتّى اليوم لم يقم أيّ أحد بمسح الأضرار، ولم نسمع بوعود حول تعويضات ما، فالأمر اقتصر على تقديمنا أوراق الشقق السكنيّة المدمّرة”. ويعلّق “نحن لا ننتظر تعويضات، نريد أن تبدأ عمليّة رفع الأنقاض والبناء”.
إلى جوار “علي عفيف” يجلس جاره بسّام قطب، وهو معلّم ميكانيك في تصليح السيّارات. يعاني قطب اليوم من توقّفه عن العمل بعد أن أصاب الدمار محلّه، لتزداد معاناته من أعباء إيجار المنزل ودفع أقساط أولاده المدرسيّة. يسمع قطب كلامًا عن تعويضات دفعت في مناطق أخرى مثل “الليلكيّ وحيّ السلّم وبرج البراجنة” باستثناء الغبيري التي لم يدفع فيها أيّ تعويض.
أسماء مهمّة غادرت الغبيري
يغيب عن سوق قطع السيّارات في الغبيري تجّار مهمّون، أمثال “الحسيني” صاحب محل “صيدليّة السيّارات”، إذ ينشغل اليوم بنقل بضائعه من متجره الذي دمّره القصف في “شارع البرجاوي” إلى “شارع رعد” ناقلًا معه ما بقي من بضائع: زيوت وفلاتر وبطّاريّات السيّارات. يقدّر الحسيني خسارته بنحو نصف مليون دولار.
أضحى الحسيني اليوم مشرّدًا في ما بقي له من بضائع، إذ يستودع أجزاء منها في أماكن مختلفة. يشرح هادي عماد الحسيني لـ “مناطق نت” واقع السوق اليوم فيقول: “يسيطر القلق على مستقبل السوق، حيث نتأنّى في نقل البضائع بسرعة إلى المتجر الجديد تحسّبًا لأيّ تطوّر قد يحصل”.
وعلى الرغم من إجراء المسوحات وتقييم الخسائر، إلّا أنّ الأمور لا تزال غير واضحة في دفع التعويضات للتجّار، فخسائر الحسيني لا تقتصر على المتجر، بل كذلك على المبنى الذي يتضمّن شقق العائلة بعد أن دمّرت بالكامل. يرى الحسيني أنّه “لا يمكن تقييم الوضع الاقتصاديّ في الغبيري الآن، فالأمور لا تزال غير مستقرّة، وطائرات العدوّ الاسرائيليّ ما دامت تحلّق في السماء”.
إنّ غياب الزبائن والتعويضات مؤشّران سلبيّان يشكّلان هاجسًا لدى التجّار. حول ذلك يقول الحسيني: “أيّ تجارة تحتاج إلى الاستقرار، ونحن اليوم نفتقد هذا العامل المهمّ”.
استهداف اقتصاد الضاحية
كيفما تجول في شارع حسينيّة الخنسا تجد الدمار والخراب. يجلس الحاج حسين الخنسا داخل محلّه من دون عمل. كان الخنسا يبيع زيوتًا وبطّاريّات للسيّارات قبل الحرب، لكنّ معظم بضاعته اليوم أصبحت في الشارع نتيجة قصف مبنى مقابل له، وقدّرت خسائر الحاج حسين ما بين الـ 50 والـ 60 ألف دولار، عدى عن تضرّر منزله ومنازل العائلة في المبنى نفسه فوق المحلّ.
يرى الحاج حسين الخنسا أنّ “هناك إصرارًا من قبل العدوّ الإسرائيليّ على تدمير البنى الاقتصاديّة للضاحية، فالغبيري مرفق اقتصاديّ أساس لكلّ لبنان، يقصده زبائن من مختلف المناطق اللبنانيّة، كون الغبيري فيها متاجر تبيع قطع السيّارات”، ويتابع الخنسا لـ “مناطق نت”: “هناك إصرار من قبل التجّار في المنطقة على العمل وسوف نتخطّى الأزمة”.
في المتجر المجاور للحاج الخنسا، يستقبل الشيخ بلال بعض الزبائن، فهو متخصّص ببيع قطع غيار السيّارات من “مراوح وتصليح Stop ومبرّدات (ريديتارات) ومرايا بالإضافة إلى الزينة”. الأضرار في محل الشيخ بلال طفيفة، ولم يذكرها في المسح الذي قامت به “جهاد البناء” بحسب ما قاله لـ “مناطق نت”.
كيفما تجول في شارع حسينيّة الخنسا تجد الدمار والخراب. يجلس الحاج حسين الخنسا داخل محلّه من دون عمل. كان الخنسا يبيع زيوتًا وبطّاريّات للسيّارات قبل الحرب، لكنّ معظم بضاعته اليوم أصبحت في الشارع
الزبائن نحو أسواق بديلة
انعكس إغلاق المتاجر في الغبيري إبّان الحرب سلبًا على أصحاب “كاراجات” صيانة السيّارات في مختلف المناطق، وأصبح الزبائن يقصدون مناطق أخرى مثل كورنيش المزرعة والأوزاعي. محمود شحادة وهو ميكانيكيّ منذ 30 عامًا يشتري قطع غيار السيّارات من متاجر الغبيري بشكل يوميّ. عانى شحادة خلال الحرب من تدنّي نسبة إقبال الزبائن إلى محلّه في طلعة السفارة الكويتيّة، فتحوّل إلى ميكانيكيّ على الطلب، يقصد الزبائن تحت القصف، لكنّه واجه خلال الحرب صعوبات في تلبية حاجة زبائنه، فقصد متاجر أخرى خارج الغبيري.
في الوقت الذي يعاني فيه بعض التجّار من صعوبات، ثمّة آخرون لم يتعرضوا لأيّ ضرر. يعمل عبّاس محمّد عجمي في كاراج للميكانيك. يرى أنّ “الغبيري لا تموت! فعلى الرغم من الدمار الذي حلّ بالمباني حول محلّنا وأدّى إلى إغلاق الطرقات، إلّا أنّ القيّمين في الغبيري أعادوا فتحها وعادت الحياة إليها”.
يتابع عجمي لـ “مناطق نت”: “على الرغم ممّا حدث، ستبقى الغبيري مقصدًا للزبائن، والسبب أنّ أسعار قطع غيار السيّارات فيها بالإضافة إلى الصيانة أرخص من بقيّة المناطق، وذلك يعود إلى أنّ بدلات الإيجارات في الغبيري مقبولة، ما يرجّح عودة الغبيري إلى ما كانت عليه قبل الحرب”.
تشهد الغبيري اليوم زحمة أعمال، بعد أن عادت الحركة الاقتصاديّة شكليًّا إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وعلى الرغم من أنّ الخسائر متفاوتة بين التجّار، إلّا أنّ التعويض بشأن تلك الخسائر ما زال بعيدًا وقد يستغرق وقتًا أكثر من المتوقّع، في ظلّ تحدّيات كثيرة تتمثّل بعدم الاستقرار الذي يشكّل هاجسًا أكبر لدى التجار، وكلّ ذلك ينذر بصعوبات اقتصاديّة مقبلة على هذه المنطقة الحيويّة.