خسائر الجنوبيين كبيرة وبدائل الألمنيوم والزجاج..”نايلون”!
“شو حدا بيفضح بيئته؟”، بهذه العبارة يوصّف أحد العمّال المساعدين في ورشة للألمينيوم في الجنوب، الارتفاع الكبير وغير المبرّر لأسعار الألمينيوم والزجاج. ويضيف لـ “مناطق نت”: “بيضل عندك عالم بتحسّ؛ إذا خليت بليت، بس في عالم ما عم ترحم”.
بعد الحرب اكتشف اللبنانيّون أنّ خسائرهم تفوق قدرتهم المادّيّة والمعنويّة، فالدولة المهترئة تركتهم إلى مصائرهم بعد عودتهم من نزوح مؤلم، ليواجهوا خسائرهم بحيادٍ مقيت، ولم يعد أمامهم سوى انتظار إجراءات المسح ودفع التعويضات التي تقوم بها لجان موفدة من “مؤسّسة جهاد البناء” التابعة لـ “حزب الله”، والتي تسير بدورها بوتيرة ضعيفة لا تلبّي حجم الكارثة.
مع تأخّر دفع التعويضات يواجه الجنوبيّون ومثلهم البقاعيّون وأهل الضاحية مصائرهم بصبر وأناة، فثمّة بيوت دُمّرت بالكامل ولم تعد تصلح سوى مصدر كسب لورش عمل بائعي الخُردة والحديد، وهناك بيوت بلا أبواب ولا نوافذ، وأخرى مُنيت بخسائر طفيفة، ولكن تصليحها ليس بمقدور عديد من أصحابها، في ظلّ أزمة ما بعد الحرب والتي تتجلّى في لعبة التجّار ومستغلّي الفرص، الذين يرون في الظرف الحالي وحاجة الناس، فرصة لزيادة أرباحهم. فكيف يواجه اللبنانيّون تداعيات ما بعد الحرب؟
استغلال وفوضى
توقّع مصطفى، من سكّان منطقة النبطيّة، ارتفاع أسعار الألمنيوم والزجاج، فباشر بإصلاح زجاج منزله المحطّم، بعد وقف إطلاق النار مباشرةً، واحتفظ بالفواتير، لكنّ كثيرين من الجنوبيّين لم يستطيعوا أن يفعلوا مثل مصطفى، ممّن ليس لديهم الإمكانات المادّيّة والمعنويّة كي يلملموا خسائرهم بهذه السرعة، ويفطنوا لفكرة أنّ الحرب التي غيّرت معالم قراهم وبلداتهم وشوارعهم، لم تنجح في تغيير طبيعة النفس البشريّة التي تبرع باستغلال الظروف واحتكار السوق، كما فعل بعض التجّار وأصحاب المصالح.
مع تأخّر دفع التعويضات يواجه الجنوبيّون ومثلهم البقاعيّون وأهل الضاحية مصائرهم بصبر وأناة، فثمّة بيوت دُمّرت بالكامل ولم تعد تصلح سوى مصدر كسب لورش عمل بائعي الخُردة والحديد، وهناك بيوت بلا أبواب ولا نوافذ
الخسائر كبيرة، وثمّة قلق من ألّا تغطّي التعويضات قيمة الفاتورة، التي تتجدّد أرقامها من يوم إلى آخر، ولسان حال عديد من المواطنين يطرح سؤالًا واحدًا في هذه المرحلة: “هل التعويض سيكون وفق الفاتورة القديمة للأسعار أم مع ما يستجدّ كلّ يومٍ من أسعار؟”.
النايلون والأغطية بدل الزجاج
مع دخول كانون الأوّل (ديسمبر) إلى البيوت بخطوات خجلى، ومع موجات البرد والشتاء، هناك من يستعيض عن الزجاج بـ “النايلون”، ومنهم من عمد إلى تغطية منافذ البيت بأغطية القماش والشراشف، التي لم تستطع منع دخول الأمطار والبرد إلى المنازل.
في حديث إلى “مناطق نت” يقول حسين حمّود من سكّان بلدة تول التي طالت مبانيها عدد كبير من الغارات والقصف والدمار، إنّه سجّل في بيته كثيرًا من أعمال الصيانة؛ ومنها تركيب الزجاج واستبدال درف المطبخ المخلعّة، “ولكنّني اكتفيت في الوقت الحالي بشراء النايلون لسدّ منافذ البرد وحجب الرؤية، بعد أن لجأت إلى القماش والأغطية. واليوم ننتظر التعويضات، وإلّا فالأولويّة لتصليح بعض النوافذ دون أخرى”.
بدورها تقول فاطمة وهي صاحبة محلّ لبيع الألعاب التربويّة في منطقة كفرجوز “لم أتواصل مع أحد لتصليح ما تحطّم لديّ من زجاج في واجهة المحلّ، فالواجهة كلّها سقطت على الأرض، والآن أنتظر الكشف والتعويضات، إذ ليس من ضمن قدراتنا تصليح الأضرار”.
تتابع فاطمة لـ “مناطق نت”: “أنا مستأجِرة والواجهة كانت موجودة في الأساس، ولكنّني أسمع من الآخرين أنّ هناك ارتفاعًا جنونيًّا في الأسعار بشكل مبالغ به. وهناك كثير من أصحاب المحال التجاريّة إلى جانب محليّ أحجموا في الوقت الحالي عن إصلاح الأضرار”.
لعبّة تجّار
“هيدي كلّها لعبة تجّار” يقول صلاح وهو معلّم تركيب ألمينيوم وزجاج ضمن منطقة صيدا، ولديه زبائن في منطقة الجنوب والضاحية. يتابع صلاح لـ “مناطق نت”: “ما حدا فهمان شي، فأصحاب الورش يسعّرون بضائعهم مجرّد استلامها من التجّار، وذلك لتفاوت الأسعار بين طلبيّة وأخرى، فلا يوجد تسعيرة محدّدة ليس للزجاج ولا حتّى الألمينيوم والسليكون وغيره”.
يضيف: “وتيرة العمل أخفّ من السابق، والسبب برأيي يعود إلى التأخّر في دفع التعويضات، فمن لديه أحد من أفراد عائلته يعمل في الخارج تمكّن من تصليح بعض الأمور البسيطة، مثل الزجاج أو واجهة نافذة محطّمة تحتاج إلى تقويم، أمّا ما يحتاج إلى تصليحات كبيرة فلم يُبتّ العمل به بعد”.
عن تفاوت الأسعار بين التجّار يقول صلاح: “كان متر البلّور في السابق بـ 11 دولارًا، اليوم أصبح بـ 20 و22 دولارًا، وكذلك الفيميه، كان سعره 15 دولارًا، أصبح سعره 25 دولارًا. مشرّط الأبيض (وهو واحد من أنواع الإكسسورات التي تدخل في الزجاج) كان بـ 35 دولارًا، وقد وصل سعره اليوم إلى 55 دولارًا”. وعلم أنّ هذه الأسعار شبه مضاعفة في النبطية والجوار، إذ بيع متر زجاج الفيميه المربع على سبيل المثال بـ 35 دولاراً وتجاوز “المشرّط” الـ 100 دولار. “ولم يستحِ التجّار المحلّيّين من ذكر هذه الأسعار على فواتيرهم” فيما بلغت معالجة أضرار الألمينيوم حدًّا جنونيًّا.
نقصٌ في البضائع أم احتكار؟
يعتقد أحد مسؤولي الورش أنّ أزمة ارتفاع الأسعار في السوق قد تتحسّن وذلك عندما تصل البضائع من الخارج، وهو توقّع معظم العاملين في المهنة. لكن بعضهم يعتبر أنّ أزمة غلاء الأسعار تعود إلى نقص المواد في السوق، وبعضهم الآخر يقدّر أن هناك فائضًا في البضاعة، ويتّهم بعض التجّار باستغلال زيادة الطلب؛ وثمّة من يعتقد أن حجم الطلب على المواد يفوق قدرة تحمّل السوق.
في حديث مع محمّد (اسم مستعار) وهو أحد أصحاب ورش الألمينيوم العاملين في منطقة النبطيّة، يقول لـ “مناطق نت”: “في منطقة الجنوب تسوء الأوضاع يوميًّا بسبب نقص البضائع والألمينيوم. غالبيّة الناس بدأوا بتصليح الأضرار بسبب الشتاء والبرد، جزء منهم ينتظر الكشف كي يباشر في التصليحات، وجزء آخر بدأ بالعمل رويدًا رويدًا”.
يرى محمّد أنّ سبب غلاء الأسعار يعود إلى تحكّم التُجّار بسوق العمل، فمعظم البضائع متوافرة في السوق، إلّا بعضها الذي بدأ ينضب، مثل الألمينيوم والزجاج، وهذا ما يزيد من صعوبة الوضع، فالأسعار تتفاوت من تاجر إلى آخر، وهو ما لا تتحكّم به إلّا الأخلاق”. ويختم محمّد: “نحن كأصحاب ورش، نضطرّ أحيانًا إلى العمل مع التاجر الكبير على رغم أسعاره الخياليّة وذلك لاستمراريّة العمل، والعبء يقع على الناس في النهاية”.
لجان الكشف على الدولة السلام
تقوم فرق من مجلس الجنوب المكلّفة من قبل الحكومة اللبنانيّة بعمليّات كشف ومسح الأضرار التي خلّفها العدوان الإسرائيليّ على الجنوب، برفقة عناصر من شرطة البلدية. وباشرت لجان تابعة لـ “حزب الله” عبر مؤسّسة جهاد البناء بمعاونة أفراد من الحزب في جميع البلدات والقرى الجنوبيّة وغير الجنوبيّة، التواصل مع الأهالي من خلال رسائل نصّيّة للكشف على منازلهم المتضرّرة لمساعدتهم في إعادة تجهيزها.
صلاح: كان متر البلّور في السابق بـ 11 دولارًا، اليوم أصبح بـ 20 و22 دولارًا، وكذلك الفيميه، كان سعره 15 دولارًا، أصبح سعره 25 دولارًا. مشرّط الأبيض كان بـ 35 دولارًا، وقد وصل سعره اليوم إلى 55 دولارًا
ويتمّ ذلك عبر مراحل: في البداية تقوم اللجان المؤلّفة من مهندسين متخصّصين، بمعاينة المباني المتضرّرة بهدف ترميمها، ويُطلب إلى الأهالي التواجد في المبنى لتتمكّن اللجان من الدخول إليه والكشف على الأضرار المادّيّة. تُسجّل كلّ المعلومات المتعلّقة باسم المبنى واسم صاحبه، عبر تقرير مفصّل وتقدّم مساعدات مادّيّة لتغطية التصليحات عبر شيكّات.
ولكنّ كلّ هذا لا يمنع المواطنين من القلق والترقّب الحذر، وذلك بسبب تفاوُت أسعار البضاعة بين يوم وآخر. كذلك لا يؤمن الناس بما يسمّونه “تمثيليَّات” كما قال أحد المواطنين في تعليق على الجولات التفتيشيّة لمراقبي وزارة الاقتصاد الذين قاموا بجولة في النبطيّة للتحقّق من أسعار الألمينيوم والزجاج ومصادر استيرادها.
وفي ظلّ غياب رؤية اقتصاديّة واضحة من قبل الدولة وغياب النوايا الجدّيّة للبدء في إعادة الإعمار من قبل الدول الداعمة، يتخوّف الناس من أن “تروح عليهم”، وهنا يظهر التخبُّط في البيئة نفسها التي بدأت تمتعض، فتسمع تذمّراتهم من هنا وسبابهم من هناك، رفقة صراع بين السلّة والذلّة وهو يتآكل، في ظلّ وجود عدوّ ماكر يتربّص بالمناطق الحدوديّة ولا يراعي التزامات الهدنة وحدود السيادة.