خشبة ومدفع وتوربين.. أدوات تحديد الوقت في رمضان
لم يكن من السهل على أي مسلم صائم في العالم، بأن يُمسك ويفطر حسب التقدير، فالساعات لم تكن قد أخذت شكلها الحالي. أيضاً، العديد من البلدان أو البلدات لم يكن باستطاعته رصد مغيب الشمس وشروقها، وذلك بسبب الهضاب العالية، أو البعد عن البحر، أو حركة السُحُب، والرياح، والعواصف الرملية.
قديماً، في قرى جنوب لبنان النائية، كانت النفوس معجونة بالبساطة، ليقارب أهلها كل شيء من زاوية الرضا، والمكتوب، والصبر، ولهذا تعاملوا مع العبادات بالطريقة عينها، بل كانت صورة الله في أذهانهم جميلة، فتخيّلوه مثلهم، طيبّاً، كثير الرحمة، قليل الغضب.
ساعات ساعات
لطالما كان لأهل القرى، طرقهم الخاصة للإستدلال على المواقيت، ولم يكن الوقت مرتبط بالدقائق والثواني، كما حالنا اليوم. هكذا كان الفلاح ينظر إلى ظلّ الشجرة، فيحدد الوقت التقريبي، دون أن يشغله الأمر، كونه قد ربط برنامج حياته بفترات اليوم: الفجر، الصبح، قبل الظهر، الظهر، العصر، الغروب، العشاء، الليل.
بالمبدأ ذاته كان المسلم يتعامل مع صلواته الخمس، وميقات الفطور، والامساك، دون أن تخامره أية وساوس مثل تلك التي ترافق بعض المتدينين اليوم. في المقابل، كانت هناك استثناءات، تفرض على الانسان معرفة الوقت بدقّة، فابتدعت أساليب قياس كثيرة، في مصر القديمة، والصين، واليونان، والرافدين…بعضها شديد البدائية، مثل تثبيت العود، ومراقبة حركة ظلّه، وهي طريقة تفقد جدواها في الليل، أو حين تحتشد السماء بالغيوم، فتُحجَب الشمس. ثم كانت الساعة المائية، وهي اختراع فيه من الذكاء الكثير، واليوم هناك رسومات هندسية، تشرح آلية عمل تلك الساعات. وبالطبع كانت الساعات الرملية قد أخذت مكانها عند الكثير من الشعوب.
لطالما كان لأهل القرى، طرقهم الخاصة للإستدلال على المواقيت، ولم يكن الوقت مرتبط بالدقائق والثواني، كما حالنا اليوم. هكذا كان الفلاح ينظر إلى ظلّ الشجرة، فيحدد الوقت التقريبي، دون أن يشغله الأمر، كونه قد ربط برنامج حياته بفترات اليوم: الفجر، الصبح، قبل الظهر، الظهر، العصر، الغروب، العشاء، الليل
أما الساعات الميكانيكية التي استخدمت تقنية ميزان الساعة ذي القضيب، فقد اخترعت في أوروبا في بداية القرن الرابع عشر الميلادي، والتي ظلت أكثر آلات قياس الوقت شيوعًا حتى اختراع الساعات الزنبركية وساعات الجيب في القرن السادس عشر الميلادي، ثم اختراع الساعات البندولية في القرن السابع عشر الميلادي. وفي القرن العشرين، اخترعت المتذبذبات البلورية ثم الساعات الذرية. مع الإشارة إلى أن صانعي الساعات الأوائل في العصور الوسطى في أوروبا هُم من الرهبان المسيحيين، إذ كانت الطقوس الدينية تتطلب معرفة الوقت لتحديد الصلوات وتنظيم الأعمال، واستخدموا لذلك الساعات المائية والشمسية والشمعية، وأحيانًا استخدموها معًا. وكانت عادة ما تقرع نواقيس أو أجراس يدويًا أو ميكانيكيًا للتنبيه على الأوقات الهامة.
المدفع ساعة صوتية
المدفع أيضاً قد يتحول ساعة دينيّة، فلا يأبه للخامسة، أو السادسة، أو السابعة، بل ان شعلة فتيله مرتبطة بغروب الشمس، ودنوّ شروقها.
كثيرة، ومتشعبة هي الحكايات التي تشرح تاريخ مدفع الافطار، لكن أغلبها يردّ الأصل إلى مصر، بينما تعزّز المدفع كأداة اعلان عن الافطار والامساك وموعد العيد في الزمن العثماني، الذي حكم هذه البلاد لمئات السنين. في لبنان بقي هذا المدفع حتى وقت قريب، فكان يدوّي في طرابلس وبيروت وصيدا وصور والنبطية وغيرها من المناطق. غير أن الحرب التي انطلقت في العام 1975 ودامت لخمس عشرة سنة، جعلت من ذلك المدفع نكتة ظريفة، فكيف باستطاعة الناس التفريق بينه وبين أصوات قذائف المتحاربين؟!
في العام 1983، قامت مجموعة من جيش لحد (الموالين لإسرائيل) بسرقة مدفع الافطار في صيدا، بحجة انه سلاح عسكري ثقيل! وهو الرمز الذي يتشارك مع معالم أخرى بتكوين شخصية عاصمة الجنوب.
منذ أواخر المرحلة العثمانية أوكل إلى الصيداوي عبد الواحد مصطفى شهاب، مهمّة تجهيز مدفع الفطار وإطلاقه، ومن ثم تنظيفه. استمرّ على ذلك حتى منتصف القرن الماضي، ليرث الدور ابنه سليم، وتابع حتى وفاته، ليرث المهمّة ابنه غازي الذي استمر حتى سنة 1970، ليسلّم الأمانة إلى الجيش اللبناني، الذي صار يطلق قذيفة خلّبية، لا تشبه حشوة المدفع القديم الذي تعتمد حشوته على القماش، أو الأوراق والبارود، على أن تتم مراكمتها لعدة طبقات، فيشعل الفتيل من بعدها، ثم يحدث الانفجار بعد ثلاث ثوانٍ.
بالنسبة إلى البارود، كان المدفع يحتاج إلى كيلو غرام واحد يومياً، يتم الاستحصال عليها من ثكنة الجيش اللبناني في صيدا. كانت قلعة صيدا البرّية مكاناً ثابتاً لمدفع صيدا، بينما مدفع النبطية كان البيدر، حيث يتحوقل الناس من حوله لمشاهدة ذلك الحدث الذي لا يكلّ من ادهاش السامعين. ما أن يحل شهر الصوم، حتى يستعد الحاج خضر كمال لتهيئة المدفع في منطقة البيدر، في تقليد يزاوله منذ الاربعينيات، ولم يثنه عن ذلك سوى الاحتلال الاسرائيلي، حيث توقف عن اطلاق المدفع لسنوات، ليعود بعد انسحاب المحتل إلى مزاولة عمله، وفق البرنامج الثابت: طلقة عند الغروب، طلقة عند الامساك، وستّ طلقات إيذاناً بحلول العيد.
مدفع النبطية كان البيدر، حيث يتحوقل الناس من حوله لمشاهدة ذلك الحدث الذي لا يكلّ من ادهاش السامعين. ما أن يحل شهر الصوم، حتى يستعد الحاج خضر كمال لتهيئة المدفع في منطقة البيدر، في تقليد يزاوله منذ الاربعينيات
الافطار بالتروبين
بالنسبة لمدفع رمضان في صور، فكانت متابعته لبنانية حتى آلت ادارته إلى الفصائل الفلسطينية أواخر السبعينيات، حتى العام 1982. كان المدفع مثبتاً في حيّ الرمل، وموجهاً صوب البحر. المفارقة أن وكيل المدفع لم يعر انتباهاً لغروب الشمس، التي تسقط أمامه في البحر، بل يؤخذ القرار بالضرب بعد ان تعلن اذاعة مصر موعد الافطار! حين تبدّلت الظروف وتغيّر حال المدفع، صار صاحبنا يشعل إصبع تروبين (لغم يستخدم في صيد السمك بشكل غير شرعي)، ليفجره وقت المغيب، والامساك! كان الصوت ضخماً يفي بالغرض، لكنه بالطبع لا يراعي السلامة الخاصة والعامّة، كما يفقد المشهد الرمضاني واحداً من عناصر سحره.
بعد التحرير بسنوات، اعتُمِد في مدينة بنت جبيل مدفعاً للافطار، وكان مشغولاً بشكل يدوي عند الحدّاد، على أن يُحشى بالمفرقعات، ويعطي نتيجة مقاربة للمدفع القديم. اليوم صار المدفع “ارتيزانا” مثله مثل الفانوس، يثري المشهد الرمضاني، ولو أنه فقد وظيفته الأصلية كساعة يضبط عليها الناس مواعيد إفطارهم، وامساكهم.