“خلّة وردة” جنّة عيتا الشعب أحرقت الحرب اخضرارها وأحراجها

“مجزرة، مجزرة”، بهاتين الكلمتين اختصر شبّان من بلدة عيتا الشعب المشهد بعد أن وطأت أقدامهم منطقة “خلّة وردة” التابعة للبلدة، ومعاينتهم ما حلّ فيها من خراب وتجريف وحرق مساحات حرجيّة واسعة.
يذهب بنا الخيال عند سماعنا اسم “خلّة وردة” إلى مسرح الرحابنة ووديع الصافي وفيروز، لما يتضمّن الاسم من بُعد ريفيّ وطبيعيّ وجماليّ، لكن “خلّة وردة” هي اسم حقيقيّ لناحية في خراج بلدة عيتا الشعب الواقعة في قضاء بنت جبيل، والملاصقة لفلسطين المحتلّة. قطعة من الجمال الطبيعيّ، هي صنيعة هبة الله ويد الجماعة من أهالي عيتا الشعب، فتحولّت إلى “خلّة” بورود كثيرة ساحرة، وبغطاء أخضر نادر.
منذ سريان اتّفاق وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) العام الماضي، لم يطأ أحد “خلّة وردة”، التي تعتبر من المناطق الحدوديّة الحسّاسة الملاصقة للخطّ الأزرق الفاصل بين لبنان و”إسرائيل”، وتمتدّ على مساحة نحو ألف دونم (الدونم ألف متر مربّع).
غطاء أخضر في خبر كان
تضمّ “خلّة وردة” أحراجًا متنوعة وأودية صغيرة وعرة، وهي غنيّة بالكروم وبساتين الزيتون والتين، ولطالما كانت وجهة زراعيّة ومكانًا للرعيّ من قبل أهالي بلدة عيتا الشعب والقرى المجاورة.

اليوم، تغيّر كلّ شيء. الأرض التي كانت خضراء صارت جرداء. الحدود اختفت، والعلامات القديمة تلاشت، والمعالم الطبيعيّة تغيّرت كلّيًّا، هذا ما أفاد به شبّان من عيتا، تملك عائلاتهم وأحبّة لهم أراضٍ كانت مزروعة بالزيتون هناك، قرّروا المخاطرة والتوجّه إلى المنطقة، وما عاينوه كان صادمًا. جلّ ما رأوه مساحات مجرّفة خالية، شاهدة على خراب لم يرحم حتّى الشجر في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة.
يقول هاني قاسم، أحد أبناء البلدة ممّن تمكّنوا من الوصول إلى المنطقة بعد التجريف إنّ المشهد غدا كأنّه لا يشبه الأرض التي يعرفها. وقف فوق أراضي عائلته التي تمتدّ على نحو 10 دونمات، ولم يصدّق أنّها هي، لا أثر لأشجار الزيتون التي كانت هنا، ولا معالم الأرض التي حفظها عن ظهر قلب. آثار الجرف بادية في كلّ ناحية، وكما وصفها قاسم، “أشبه بملعب قاحل لا ملامح له، بلا حدود ولا ظلال”.
يتابع قاسم لـ “مناطق نت” مستعيدًا المشاهد التي رآها في إبّان الطريق إلى “كرم الدم” الذي يقع بقرب موقع الراهب “كانت تلك، المرّة الأولى التي تطأ قدما أحد أرض المنطقة، منذ ما قبل الحرب. ما رأيته هناك أبكاني؛ أحراج السنديان والملّول والغار التي كانت تغطّي التلال، اختفت تمامًا. الأرض التي كانت تفيض حياة، تحوّلت إلى مساحة جرداء صامتة، لا ظلّ فيها ولا طير”. يصف قاسم لحظة وصوله إلى هناك بأنّها لم تخلُ من توتّر “فقد حضرت قوّات الطوارئ (اليونيفيل)، محاولة ثنينا عن متابعة طريقنا، إلّا أنّنا أصرّينا على رؤية ما تبقّى من أرضنا”.
سرور: المساحات المجرّفة من الزيتون تساوي أكثر من الثلثين من نسبة الأشجار التي كانت موجودة في السابق. بعض تلك الأشجار يعود عمرها إلى أكثر من 500 عام
أحراج مجروفة
من ناحيته، يروي ابن عيتا الشعب حسين ناصر لـ “مناطق نت” أنّه توجّه إلى خلّة وردة حيث تملك عائلته نحو ثلاثة دونمات كانت في ما مضى مزروعة زيتونًا، على رغم معرفته المسبقة بأنّ المنطقة تعرّضت لتجريف واسع. كان يحمل شيئًا من الأمل في أن تبقى بعض الأشجار أو معالم الأرض، لكنّ المشهد كان صادمًا، خلّة وردة قاحلة تمامًا. الزيتون، السنديان، الأحراج جميعها مجروفة بلا استثناء، وكأنّ يدًا واحدة مرّت على المكان ومسحت معالمها دفعة واحدة. يتابع ناصر أنّ “المعالم تغيّرت كلّيًّا، والمشهد كان صادمًا بالنسبة إليّ”.
يؤكّد رئيس بلدية عيتا الشعب أحمد سرور، لـ”مناطق نت” أنّ “المساحات المجرّفة من الزيتون تساوي أكثر من الثلثين من نسبة الأشجار التي كانت موجودة في السابق. إلّا أنّ ما يجعل من الفعل مجزرة بحقّ، هو أنّ بعض تلك الأشجار يعود عمرها إلى أكثر من 500 عام”.
وعن معاينة المنطقة، يلفت سرور إلى أنّ عملية التجريف ما هي إلّا تخريب متعمّد، فبعض الجذوع ما زالت موجودة، بينما باقي أقسام الشجرة مجرّفة أو مقطوعة. ويروي أنّه في السابق كان يمكن رؤية الغطاء الأخضر، الذي يصفه بأنّه “لا مثيل له حتّى في القرى المجاورة، والذي كان يغطّي الخلّة أو بقيّة حدود البلدة، من داخل البلدة، أمّا اليوم فالمشهد توحّد وصارت الرؤية قاحلة، حيث إنّ الهمجيّة الإسرائيليّة رسمت مشهدًا آخر”.
ويوضح أنّ “المنطقة كانت تحتوي بالإضافة إلى الأشجار، مزارع دواجن ومعامل للحجارة، وهناك بعض البيوت لأهالي البلدة أيضًا، حيث كانت منطقة مقصودة ومتاحة للجميع”.
مكانة في “الذاكرة العيتاويّة”
وعن موسم الزيتون هذا العام، يشير سرور إلى أنّه كان كبقيّة القرى خجولًا لا بل معدوم، إلّا أنّ مجرّد وصول بعض المزارعين إلى حقولهم الحدوديّة لتفقّد أرزاقهم كان “فشّة خلق”. مشددًا على أنّ الجيش اللبناني بذل جهدًا مشكورًا من هذه الناحية.
يعتبر أهالي عيتا أنّ لمنطقة “خلّة وردة” رمزيّة خاصّة، ويصف أحدهم أنّ تلك المنطقة لها مكانة كبيرة في “الذاكرة العيتاويّة”، لذلك فإنّ مجرّد الوصول إليها ومعاينتها عن قرب له شعور نادر، لا يمكن لأيّ أحد آخر فهمه.
هكذا تبدو خلّة وردة اليوم، أرضًا فقدت ملامحها الطبيعيّة. كانت في ما سبق تمتدّ كلوحة زيتيةّ بين الكروم والتلال، وصارت مساحة ميّتة يروي ترابها ما حلّ بها من اقتلاعٍ وتجريف. ما تبقّى هناك ليس سوى ذاكرةٍ تتنقّل على ألسنة من وصلوا إليها أخيرًا، يصفون ما كان ويحدّثون عن كارثة وتاريخ صارا أكبر من المكان نفسه.




