“خندق الغميق” جنة بيروت التائهة وذاكرة منسية على الجدران
في العاصمة البولّندية وارسو، ثمّة مطعم اسمه “فينيقيا”، على حائطه الملوّن تستريح صورة التقطتها أمل الشريف (مصمّمة غرافيك ومديرة جمعيّة للمعوّقين في بيروت) لأحد شبابيك بيت من بيوت خندق الغميق. أدخل إلى صفحة أمل وأسالها “كيف وصلت الصورة إلى ذلك الحائط؟” فتجيب: “لقد رأى صاحب المطعم تلك الصورة واشتراها منّي، ولم أعرف حينها اسم المطعم، فأرسل لي أصدقائي اسمه والصورة على الحائط”.
لم أستغرب ما قالته أمل أبدًا، فقبل توجّهي سيرًا على الأقدام إلى الخندق، غصت في ذاكرة تلك المنطقة وما كُتب عنها من تاريخ غنيّ ضائع، بدّدته الحروب والأزمات فصار نسيًا منسيًّا، مُلقى على قارعة الذاكرة.
شامخة بكلّ ما فيها
في الخندق، أحدّق في البيوت القديمة، ينتابني إحساس أنّني أريد أن أعانقها وأطبطب على جدرانها. ولسان حالها يقول لي: “تعالي أخبرك سرًّا من أسراري”. تقف تلك الأبنية شامخة، بزجاجها المتنوّع الألوان والأشكال، وشبابيكها المميّزة، وأبوابها المغلقة بالجنازير الحديديّة الصدئة. أسال بعض الأشخاص عمّن يمكنه أن يروي لي عن تاريخ المنطقة. يبادرني صاحب دكّان عصير، ابنه كان في شرطة “المجلس” مبتسمًا “شو بتشربي؟”.
في خندق الغميق ألتقي بأحد “قبضايات” بيروت مفيد فيّاض، وهو صاحب “سوبّرماركت” في الحيّ. أكثر ما يتذكّره مفيد وجود خمّارة في الخندق، قائلًا لـ “مناطق نت”: “كان هناك خمارة لأبي أنطون، وكان يطلبني عندما يريد حماية الخمّارة. كنت في الثالثة عشرة من عمري آنذاك”. يتابع فياض حديثه عن قبضايات بيروت وما حصل معه مع صائب سلام، وكيف تمّ إنقاذه من السجن. يروي بفخر عمّا كان يفعله قبضايات بيروت، وحمايتهم للمدينة ولأبنائها.
لم تخفِ السنوات بهاء وجه فيّاض والعزّ الذي عاشه، لكنّه يكتفي بهذا، ثمّ يشرد وينظر إلى بيت قديم في الجهة المقابلة ثمّ يستدرك “بتعرفي إنّو هيدا بيت أهل فيروز؟ هون عاشت”.
سكّان الخندق عزّ اختفى؟
“قبل العام 1975، كانت منطقة خندق الغميق يسكنها مسيحيّون وأرمن، وعدد قليل من المسلمين، أمّا اليوم، فمعظم سكّانها من نازحي النبعة وبرج حمّود، وبعض قرى الجنوب”، هذا ما يقوله أحمد حمّود، وهو صاحب محال عدّة في “الخندق” ويقطن فيه، هو من مواليد زقاق البلاط وأصله من تبنين في جنوب لبنان. يشير حمّود إلى مبنى أبيض اسمه “مبنى الحريري”، قائلًا لـ “مناطق نت”: “هنا أسكن”. يتحدّث حمّود مفاخرًا عن أشخاص مهمّين سكنوا في خندق الغميق، متناسيًا الواقع المختلف الذي يعيشه: “بيار الجميّل والقاضي فريد جبران وماما عفاف التي كانت تقدّم برامج للأطفال، وعائلة جنبلاط “إلها مكتب في الخندق وبعدو”.
هنا الكلّ يتحدث عن المستشفى الفرنسيّ، وكأنّه معلم من أمجاد الحيّ الضائع، وعنه يقول حمّود “كان المستشفى هنا قبل أن ينتقل إلى الحازميّة ويصبح اسمه قلب يسوع، وتحوّل الآن إلى موقف للسيّارات”. تظهر على وجه حمّود علامات الحزن، ينظر حوله وكأنّه يريد أن يقول “أين ذهب كلّ هذا العز؟”.
مفيد فيّاض: كان هناك خمارة لأبي أنطون، وكان يطلبني عندما يريد حماية الخمّارة. كنت في الثالثة عشرة من عمري آنذاك. بتعرفي إنّو هيدا بيت أهل فيروز؟ هون عاشت.
مسؤول الحي علي مرعي
ليس بعيدًا من حمّود نلتقي الحاج علي مرعي، رجل تبدو عليه الفطنة والذكاء في الوقت نفسه. يقول مرعي لـ “مناطق نت”: “عائلتي تقطن الخندق منذ العام 1957، قبل ذلك كان يسكنه مسيحيّون وأرمن، ثم تركوه بسبب الحرب”. يتابع مرعي: “البيت الذي أسكنه كان لعائلة مامليان، وفواتير الكهرباء كانت لا تزال باسمهم قبل أن أبدّلها منذ سنتين”. يضيف مرعي “أحد أفراد عائلة مامليان واسمه طوني ما زال حيًّا ويعمل في ميرنا الشالوحي، الممثّل فيليب عقيقي سكن هنا في الخندق أيضًا، في شارع سعد الذي يعتبر أساس شوارع الخندق”.
نسأل الحاج مرعي عن أصل اسم خندق الغميق لأنّ البعض يقول إنّ اسمه كان الخندق فقط. ينفي مرعي ذلك فيقول: “أهالي الأشرفيّة هم من أطلق على المنطقة اسم “خندق الغميق” لأنه يقع في “نزلة”، وهو مقارنة مع البسطة الفوقا عميق، كان مثل حفرة، ومع العمران الذي حلّ تغيّر شكله تمامًا، وقبل تعبيد الطرقات كانت المياه تتسرّب إليه”. يضيف مرعي: “من العائلات التي سكنت هنا أيضًا، دمشقيّة، بلطجي وجنبلاط، أمّا الآن فتسكنه عائلات حمّود، مرعي، الزين، الخليل، مطر والأخيرة عائلة كبيرة في الخندق، أيضًا سكنته عائلات مسلمة مثل برّي الذين سافروا إلى أميركا، إضافة إلى عائلات خليفة، غّدار وعاصي”.
وجوه من الخندق
يروي جهاد المولى الذي يملك مطبعة في “الخندق”، عن زاروب الحراميّة وهو من مواليده، فيقول لـ “مناطق نت”: “سمّيّ كذلك لأنّ بعض السارقين كانوا يختبئون في الزاروب وينقضّون على المارّة، كانوا يهربون من الدرك، وقد سمّي بزاروب الحراميّة منذ ذلك الحين، أيّ في أوائل الخمسينيّات”. يشير المولى إلى المسجد على يسار مطبعته نزولًا: “كان مدرسة في السابق ثمّ أصبح جامعًا”. يضيف “إنّ المنطقة كانت منطقة صناعيّة قبل ذلك، ثمّ أصبحت مزار خندق الغميق”.
يناديني الحاج قاسم جابر ليخبرنا عن عمله، يصف نفسه بأنّه “تاجر فبركة”. يشير كي ننظر إلى الخشب في الداخل قائلًا “نحن تجّار فبركة ولسنا تجّار خشب، أنا من مواليد الخندق أيضًا، لكن أنظري إلى المتاجر في الجهة المقابلة كلّها مغلقة”.
بقميصه المفتوح يجلس الحاج هاني فوّاز مقابل الـ”ميني ماركت” التي يملكها، يقول: “بس تصوريني بسكّر الأزرار؟”. يروي فوّاز لـ “مناطق نت” عن الجامع بأنّه “ملك خاص لشيخ المنطقة وهو الشيخ مرتضى عيّاد، اشتراه من وقف الروم، وقد كان السعر آنذاك 15 ألف ليرة لبنانيّة، فقال بيار الجميل الأب حينها: من وقف الروم لوقف الشيعة فقط 10 آلاف، وهكذا حلّ الجامع مكان المدرسة”.
وعمّن بنى الجامع يقول فوّاز: “عمّال البلديّة الذين كانوا يأخذون ليرة لبنانية مقابل أجرة عملهم في اليوم هم من بنوا الجامع”. يضيف فواز: “كان الشيخ عيّاد من أكثر المتحمّسين تجاه الجامع، إضافة إلى أنّ صائب سلام كان يأتي إلى الجامع بمناسبة عاشوراء ويتبرعّ بمبلغ من المال”.
بيوت من ذاكرة
“اصرخي أبو ربيع بيسمعك” يقول أحد شباب الحي لدى سؤاله عن صاحب المنزل القديم بغية معاينته من الداخل. وعلى رغم المناداة من دون جدوى. يلوّح شاب آخر برقم الحاج قائلًا: “هيدا رقمه احكيه، بيكون جوّا” أهاتفه وأطلب منه أن يفتح الباب، فيدعوني لشرب الشاي. يخبرني أبو ربيع طعمة من دون توقف: “أنا من مواليد المصيطبة العام 1941، أقطن في الخندق منذ سنة 1964، استأجر البيت أهل زوجتي وهم من عائلة النفسي البيروتيّة، سكنوه منذ العام 1934، وقد تزوّجت وسكنت هنا في هذا المنزل”.
يتابع أبو ربيع: “اسم الشارع شارع سعد، لأن حبيب باشا السعد سكن في المنطقة أيضًا أيّام الانتداب، لكن من بنى البيت المؤلّف من ثلاثة طوابق هم عائلة الأحدب، وهم ثلاثة أشقاء، تزوّجوا لكن لم يرزقوا بأولاد، فتركوا البيت، بعد ذلك سكنت في الطابق الثالث عائلة سوريّة من آل قاصوف، أمّا الطابق الثاني فقد كان مكتبًا للحزب التقدّمي الاشتراكيّ، سكنه نازحون بعد حرب العام 1975، وقد تمّت سرقته، حتّى أنهم سرقوا البلاط!”.
نجول في بيت أبو ربيع الذي فقد زوجته منذ سنوات، وتركته ابنته لأنّها أصيبت بالألزهايمر، يخبرنا عن البيت وغرفه التي تحتاج إلى الترميم، لكنّها لا تخفي جمال البيت.
يرفض المختار مصباح عيدو الحديث عن الخندق، بعدما تواصلنا معه هاتفيًّا مجيبًا “ما بحكي عن الخندق!”.
نتجوّل في منطقة الباشورة التي يعتبر خندق الغميق أحد شوارعها، لكنها في ما بعد تحوّلت الشوارع المحيطة بالخندق إلى جزء منه، ومن إحدى معالمه كنيسة السريان التي ما زالت موجودة على الرغم من كلّ الأحداث، إضافة إلى المستشفى الفرنسيّ الكبير ومعمل البيبسي كولا، كان الشارع مشهورًا بالنجّارين، لكنّ المهنة انقرضت والسوق انطفأت.
بين كنيسة السريان والحداثة
“أنشئت في عهد السعيد الذكر البطريرك أغناطيوس جرجس شلحت 1887”. هذا ما دوّن على جدار كنيسة مار جرجس للسريان الكاثوليك المرمّمة حديثًا، أجد نفسي قبالة مبنى شاهق حديث (بيروت ديجيتال ديستريكت)، أسأل بعض الشباب عن المبنى؟ يجيبون بأنّه مبنى فيه مكاتب، أمّا في الجهة المواجهة للكنيسة، فينتصب مبنى قديم جدًّا ومهجور، ووفق أهالي الحي، فإنّ أحد الأشخاص حاول أن يشيّد مبانٍ حديثة، لكنّ وجود آثار أوقفت المشروع، إضافة إلى أنّ البعض رفض بيع أملاكه. تقول إحدى سيدات الحي لـ “مناطق نت”: “في ناس بدها ترجع، عشان هيك ما قبلانين يبيعوا”.
يشير هاني فوّاز الكنيسة إلى أن الكنيسة “تضرّرت خلال الحرب، ثمّ أتى شخص سوريّ وتبرّع لترميمها”. تقع الكنيسة بين المباني الشاهقة، وفي الجهة المقابلة، مبنى قديم جدًّا يمتد على طول الشارع وهو مهجور.
نتجوّل في منطقة الباشورة التي يعتبر خندق الغميق أحد شوارعها، لكنها في ما بعد تحوّلت الشوارع المحيطة بالخندق إلى جزء منه، ومن إحدى معالمه كنيسة السريان التي ما زالت موجودة
أبو حسين وصندوق الذكريات
لا تكتمل زيارة خندق الغميق من دون المرور بالسيّد أبو حسين ترحيني، فاللقاء معه لقاء مع “التاريخ”، نمشي سويًّا نحو زاروب الحراميّة، فيقول لـ “مناطق نت”: “اسمها زاروب الأوادم، هيدا شارع أسعد خورشيد”. يقطن السيّد في هذا الزاروب منذ سنة 1950، يتذكّر كيف صلّى الشيخ عيّاد في الكنيسة التي ما زالت موجودة حتّى اليوم، وعندما سأله أحدهم كيف تصلّي هنا أجاب: “إنّها بيوت الله”.
“كانت الحياة غير يا بنتي، ماتت الليرة وماتت نفسيّة الناس معها.” يتحدّث ترحيني بحسرة ويتابع: “أنا الذي بنى جدار الجبّانة، (جبانة الباشورة)، من جمعيّة الحمير التي أرأسها”. يحضر ترحيني علبة قديمة وكأنّها مخبأ الذكريات. ويروي: “هذه الجمعيّة، لها فرعان الأوّل في القاهرة والثاني في لبنان”. يتابع “ذات مرّة كان داني شمعون عند حلّاق قريبي فحدّثه عن الجمعيّة، فبادر شمعون إلى التبرع للجمعية بـ10 آلاف ليرة”.
يتابع ترحيني عن حياته “كنت عاملًا في البلديّة، وطالبنا خلال حكم فؤاد شهاب أن يأمّنوا شيخوخة عمّال البلدية، لكن في ما بعد، حتّى رواتبنا لم يدفعوها، فلجأنا إلى الإضراب، حيث نزل معنا الشيخ عيّاد، حتّى تراجعوا عن القرار ودفعوا”. يضيف متأسفًا “الآن لم نعد نحصل حتّى على الطبابة”.
شباب الخندق
أغادر الخندق سيرًا على الأقدام كما أتيت، وحكاية الحيّ لا تغادرني، تترسّخ داخلي سيَر الناس الذين التقيتهم وسرديّاتهم عن تاريخ مضى، أعود وأستعرض أسماء العائلات التي غادرت الخندق، والأخرى التي لا تزال موجودة. أستعيد صورة الحيّ الحديثة ومعها صيته الجديد الذي وسمه بتلك العبارة “شباب الخندق” ويُحسب لهم ألف حساب، خصوصًا بعد “ثورة 17 تشرين” وما رافقها من صدامات على “الرينغ” القريب من الخندق.
يشكّل “خندق الغميق” أو “الخندق الغميق” صورة أكثر عمقًا للتحوّلات الجذريّة التي شهدتها بيروت في تركيبتها ومعالمها ونمط الحياة فيها، لعلّها الأكثر دلالة أيضًا على موت مدينة، لكن تاريخها يأبى أن يموت، إذ ما زالت تحكيه الجدران والشبابيك.