دارة حبيب باشا مطران من عهد بيوت بعلبك التراثيّة (2)
ذكرنا في الحلقة الأولى من موضوعنا، المتعلّق ببيوت مدينة بعلبك التراثية، أنّ هذه المباني صارت أشبه بمنحوتات قديمة، قائمة في زوايا متروكة، ولا تُولى أدنى اهتمام من السلطات أو عامّة الناس. يعود هذا الأمر إلى أسباب عدّة، بدءًا من سوء تقدير قيمة هذه المباني من جهة، وعدم وقوع هذه الأمكنة ضمن دائرة النشاط الاقتصاديّ والاجتماعيّ وحتّى الثقافيّ.
لكن المفارقة تكمن في أنّ بيت حبيب باشا مطران (التسمية القديمة المترسّخة في أذهان البعلبكيّين من ذوي الاطّلاع على النواحي التاريخيّة)، يقع في مكان مركزيّ واستراتيجيّ من وسط المدينة، عند تقاطع رئيس، في محاذاة شارع رأس العين، أبرز شوارع المدينة.
لكن، وعلى الرغم من هذه المواصفات، يبدو البيت منسيًّا، ولا يثير اهتمام أحد، اللهمّ إلّا ما تنامى إلى مسامعنا من شائعات يفيد مضمونها إنّ أحد الأثرياء البعلبكيّين يسعى إلى امتلاكه بهدف هدمه وتحويله إلى مركز تجاريّ (سوبر ماركت). بيد أنّ هذا الأمر لم يخرج عن نطاق الشائعات، التي قد تتضمّن بعضًا من الحقيقة، أو تنحرف عنها. على أيّ حال، سوف نروي في هذه الحلقة من موضوعنا قصّة رجل صاحب مكانة ومنزل فخم، وكيف شاء الزمن والظروف أن تنتهي هذه الرواية نهاية شبه دراماتيكيّة.
سيرة عائلة آل مطران
يعتبر المؤرّخ البعلبكيّ ميخائيل ألوف، بما ذكره في كتاباته، أنّ حبيب باشا مطران (1829-1900) أحد أبرز الشخصيّات المسيحيّة في مدينة بعلبك، في أواخر القرن التاسع عشر، وكان صاحب نفوذ سياسيّ واسع في كلّ من سوريا ولبنان. أمّا العائلة التي ينتسب إليها فتعتبر من عائلات بعلبك ذات السيرة والمكانة البارزتين خلال الحقبة الممتدّة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وحتّى منتصف القرن العشرين.
حبيب باشا مطران (1829-1900) أحد أبرز الشخصيّات المسيحيّة في مدينة بعلبك، في أواخر القرن التاسع عشر، وكان صاحب نفوذ سياسيّ واسع في كلّ من سوريا ولبنان
تنتسب عائلة مطران، العربيّة والكاثوليكيّة المذهب، إلى الغساسنة المتفرّعين عن الأزد وعرب الجنوب. وقد سكنوا بلاد حوران، وكانوا كذلك من زعماء القبائل. وتفيد بعض المصادر بأنّ منهم من اعتنق الإسلام إبّان حكم صلاح الدين الأيّوبيّ.
توطّن آل مطران في بعلبك منذ ما يقارب 400 سنة، وأصبحوا من ملّاك الأراضي الكبار، ولا تزال بعض أراضي سهل بعلبك لجهة الغرب ملكًا للعائلة حتّى اليوم. وتقول الروايات إنّ حبيب باشا مطران، الذي كان يتقن القراءة والكتابة، في زمن كان معظم سكّان المنطقة أمّيّين، بدأ حياته العمليّة وكيلًا على أرزاق آل حرفوش، إذ كان يهتمّ بإدارة المناطق الزراعيّة وحساب الغلّة، كذلك دخل في خدمة الولاة، وكان مخلصًا للدولة العثمانيّة.
في ذلك الحين قصد ابنه يوسف مدينة إسطنبول، وأقام في فندق كبير “له عيون وآذان”، على ما أسرّ لنا الراحل إدمون سلامة، وكان يشيد في أحاديثه بالسياسة التركيّة ورجالاتها، ممّا أثار اهتمام السلطات صاحبة العيون والآذان المنتشرة في كلّ زاوية، وأدّى بالتالي إلى قيام علاقات وثيقة بينه وبين مسؤولين كبار.
أوّل باشا مسيحيّ
وفي أيّار العام 1892 توجّه حبيب مطران إلى الآستانة، فحظي بشرف المثول أمام الحضرة الشاهانيّة مع نجله يوسف. في ذلك الحين، منحته السلطنة مرتبة “مير ميران” الرفيعة، فكان أوّل مسيحيّ يحصل على رتبة باشا، كما كان أوّل مسيحيّ في سوريّا يحصل على وسام من الدولة العثمانيّة، التي اعتمدت عليه في تسيير عديد من أمورها في مدينة بعلبك وجوارها، وقد اعتبر من أهمّ رجالات لبنان وسوريّا لدى السلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني.
ومن الأمثلة، التي ذكرها بعض الرواة، على علوّ شأن حبيب باشا المطران ونفوذه، أنّ مرتكب الجنحة في ذلك الوقت كان يُعفى من العقوبة، أو يُصار إلى تخفيفها، في حال بلوغه سياج منزل الباشا، وبالعاميّة كان يقال: “يلّي بيحطّ إيدو عدرابزين بيته وبيكون قاتل قتيل بتخفّ عنّو العقوبة”.
ومن الشخصيّات التي استقبلها في بيته، على مائدة الغداء، كان مصطفى كمال باشا أتاتورك، حين كان لا يزال ضابطًا في بيروت، وهو كان يرتاد عادة فندق بالميرا في بعلبك لدى قدومه إلى المدينة. إلى ذلك فقد اعتبر بيته مضافة لوجهاء عشائر المنطقة حينذاك. إضافة إلى ذلك، فإنّ الرافضين شملهم بـ”سفربرلك” (وكانوا كثرًا من دون شك)، كانوا يتقدّمون إلى الباشا بطلب وساطة من أجل إعفائهم، مقابل مال أو قطع من الأراضي.
في الجوانب المعماريّة
قامت دار حبيب باشا مطران في وسط مدينة بعلبك، وهي عبارة عن منزل فخم، وربّما من أفخم منازل المدينة حينذاك، مؤلّف من طبقتين، ذي هندسة تتوافق والنمط والتقاليد المعماريّة التي كان متّبعة في بيوت البورجوازيّة اللبنانيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تزيّنه الزخارف والرسوم التي ما زال بعضها مرئيًّا حتّى اليوم.
لا يختلف المخطّط العام للمنزل كثيرًا عن المخطّطات المتّبعة في تلك الحقبة الزمنيّة، التي تعود إلى نحو 150 عامًا مضت، والتي نفترض أنّ المنزل بُني خلالها (لم نعثر على وثائق تتعلّق بتاريخ تشييد البناء بشكل دقيق لعدم توافرها). إلى ذلك، يمكن الولوج إلى الساحة التي تتقدّم المنزل عبر مدخلين: واحد من الجهة الغربيّة، وآخر من الجهة الشماليّة. وقد جرت العادة أن تستعين عائلات بعلبك المرموقة كآل حيدر والمطران والرفاعي بمهندسين أجانب من أجل تخطيط بيوتهم الفخمة، والإشراف على بنائها، فإنّ حبيب باشا مطران إلتزم هذا التقليد، إذ استعان بمهندسين إيطاليّين من أجل القيام بهذه المهمّة.
مخطّطات معماريّة سائدة
وفي كلّ الأحوال، فإنّ هذه البيوت، التي حُفظ عديد منها في بعض المناطق اللبنانيّة، وبقي بعضها في حال ممتازة نظرًا للاهتمام الذي أولاها، تبعًا لإدراك أصحابها لأهمّيّتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بعدما تصدّت وزارة الثقافة لإمكان هدمها، إضافة إلى تصنيفها ضمن لائحة التراث المحلّيّ أو العالميّ، تشترك هذه المباني، في شكل عام، بمخطّط معماريّ لم يحد عنه أصحابها، إلاّ في بعض التفاصيل: بهو في وسط المكان تخترق جدرانه فتحات– أبواب تؤدّي إلى الغرف المحيطة بالبهو.
هذا المخطّط يتكرّر حرفيًّا أحيانًا في الطبقة الثانية، لكون الغالبيّة العظمى من هذه البيوت تتألّف من طبقتين. أمّا ما يميّز هذا النمط المعماريّ، في ما يخصّ المظهر الخارجيّ، فهو انفتاح البهو المذكور على الخارج عبر أقواس ثلاثة غالبًا، وقد يزيد عددها في حال اتّساع الواجهة، ما يمكّنها من استيعاب عدد أكبر من الأقواس.
بما أنّ الحديث يدور على الناحية المعماريّة، فقد يكون من المفيد، بل الضروريّ، التطرّق إلى ما يشبه المخطّط المذكور، ولكن ذاك المتبّع في البيوت الشعبيّة، وخصوصًا تلك التي يمكن مصادفتها في منطقة البقاع، وقد بقي منها أمثلة نادرة في بعض القرى.
قامت دار حبيب باشا مطران في وسط مدينة بعلبك، وهي عبارة عن منزل فخم، وربّما من أفخم منازل المدينة حينذاك، مؤلّف من طبقتين، ذي هندسة تتوافق والنمط والتقاليد المعماريّة التي كان متّبعة في بيوت البورجوازيّة اللبنانيّة
إنّ النموذج المقصود هو ما يُسمّى “بيت مع إيوان”. هذا النوع من البيوت كان قد سبق من الناحية التاريخيّة “البيت اللبنانيّ البورجوازيّ”، الذي ينتمي إليه بيت حبيب باشا مطران. تألّفت هذه البيوت من طبقة واحدة، ويحتلّ وسط واجهته قوس حادّ ومنفرج في الوقت نفسه، يؤدّي إلى مصطبة صغيرة تتفرّع منها غرف ثلاث، واحدة في الوسط، وغرفة من كلّ من الجهتين. يُعتبر هذا النموذج بسيطًا، لكنّه يتمتّع بجماليّة خاصّة، وهو يتطابق، في طبيعة الحال، مع القدرات المحدودة والمتواضعة للسكّان، المزارعين في غالبيتهم.
زخرفة داخليّة إيطاليّة
بالعودة إلى بيت مطران، فبالإضافة إلى العناصر الخارجيّة ذات الصفات المعماريّة المتقنة، يتمتّع الدار بزخرفة داخليّة أنيقة، تليق بحجم المنزل، وبمكانة أصحابه. سقوف المنزل المرتفعة، التي تستوعب طبقتين من البيوت الحديثة، مزخرفة بالرسوم ذات الطابع الأوروبّيّ، المتوارثة من التقاليد الزخرفيّة لعنصر النهضة الإيطاليّة.
زخارف من النوع النباتيّ، كما تسمّى في علم الزخرفة، أيّ أنّها تعتمد موتيفات نباتيّة، وليست زخارف هندسيّة، أيّ تلك التي تتضمّن أشكالًا هندسيّة، وهي التي يمكن مصادفتها بكثرة في العمارة الإسلاميّة والعربيّة. هذا بالإضافة إلى الزخرفات الأخرى التي تزيّن المدخل الغربيّ للمنزل، وبعض التفاصيل المعماريّة الأخرى.
أمّا ما يتعلّق بالوضع الحاليّ للمنزل، فهو ما سنتطرّق إليه في الحلقة التالية من موضوعنا.