دُور النبطيّة العريقة في مهبّ المجهول
كان وقع الأمطار الغزيرة التي تساقطت الشهر الماضي، بالغ القساوة على دارة النائب والوزير الراحل محمد بك الفضل، في النبطيّة، إذ تسربت المياه من السقوف القرميدية، ومن الجدران وسببت بتلف الكثير من الرسوم والنقوش في سقف الدارة التي تبلغ في العام المقبل 2024 المئة من العمر.
لا قدرة لأصحاب الدار على ترميم ما يجب ترميمه إذ تردّت أوضاعهم الماليّة، على غرار الملايين من الشعب اللبنانيّ، «مثل هكذا ترميم يحتاج إلى عشرات الألوف من الدولارات ولا إمكانيّة لنا، نحن أبناء محمد الفضل على القيام بما تحتاجه دارتنا. ولا أظنّ أنّ البلدية في وقتها الراهن، لديها أيّ صيغة للمساعدة في الترميم» يقول بهيج محمد الفضل.
عرَضَ أصحاب الدّار دارتهم للبيع منذ مدّة، بمبلغ مليون ونصف المليون دولار أمريكي، وحتى الآن لا يوجد أيّ مشترٍ.
كان محمد الفضل يمتلك بالوراثة من آبائه وأجداده كلّ التلّة التي تحوط دارته بمحلّة “خلّة الهوا” (شمال شرق النبطيّة) بيد أنّه وزّع أكثر أراضيه مساهمة في بناء المدارس ومساعدة الجيران، ولم يبقَ من أملاكه سوى «الفيللا» وقليل من الأراضي حولها.
حمل العلم اللبنانيّ في صيغته الأولى توقيعاً واضحاً لنائب النبطيّة محمّد الفضل، الذي بدأ في بناء دارته في النبطيّة في العام 1924، وأتمّها بعد ست سنوات كاملة، على تلّ يشرف على وسط المدينة وجنوبها وغربها وحيّز من شرقها (آنذاك) على نمط معماريّ إيطاليّ، يعتمرها القرميد؛ وتزيّنها واجهة من النحوت الصّخريّة والزركشات الهندسيّة والنباتيّة، والنوافذ المُقنطرة. أمّا في الداخل، فقد توزّعت الرسوم في السقوف وعلى الجدران بين “مشربيّات” خشبيّة ملوّنة من صنع يدويّ.
بدأ النائب محمّد الفضل بناء دارته في النبطيّة في العام 1924، وأتمّها بعد ست سنوات كاملة، على نمط معماريّ إيطاليّ، يعتمرها القرميد وتزيّنها واجهة من النحوت الصّخريّة والزركشات الهندسيّة والنباتيّة، والنوافذ المُقنطرة
شارك في بناء الدار معلّمون وعمّال من مغدوشة وشرق صيدا، وكانت الصخور الكبيرة تنقل على الجِمال من مقالع في شرقيّ صيدا إلى النبطيّة، ليتولّى النحّاتون معالجتها وحفرها بأشكال هندسيّة وأزهار ونباتات، ثم تثبيتها حجراً فوق حجر، ليكتمل الهيكل والمشهد.
أقامت بلدية النبطيّة فيها معرضاً دائماً للصور الفوتوغرافيّة التي تتناول بالأبيض والأسود محطّات من ذاكرة الراحل السياسيّة والعائليّة، منها لقطات له مع رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، بالتعاون مع جمعيّة بيت المصوّر في لبنان، بعد مهرجان حاشد تخلّله إصدار مغلّف تذكاريّ وبطاقات بريديّة تحمل الطابع البريديّ الذي صدر له بتاريخ 18/11/2016، عن وزارة الاتصالات اللبنانيّة و”ليبان بوست” كواحد من رجالات الاستقلال في لبنان.
والنائب الفضل سليل عائلة لم تغب عن السدّة النيابيّة والوزاريّة منذ الربع الأوّل من القرن العشرين واستمرّت حتّى مطلع الثلث الأخير منه، ابتداءً من جدّه فضل الفضل ثم عمّه بهيج الفضل وصولاً إليه. وقد توفّي بتاريخ 5 آذار سنة 1980 ومنحه رئيس الجمهورية آنذاك الياس سركيس وسام الأرز الوطنيّ؛ وبقيت عائلته تقطن الدار.
دارة الطبيب بهجت الميرزا
كان الطبيب بهجت الميرزا هو الأوسع انتشاراً في النبطيّة والجوار على مدى نصف قرن. وكانت دارته التي بناها في النبطيّة سنة 1936 هي الأشهر، إذ في طبقتها السفلى تقع عيادته التي كثيراً ما تحوّلت إلى غرفة عمليّات، توقّفت بعد وفاته في العام 1978.
بنى الدكتور المِيرزا دارته على النمط الإيطاليّ وزركش واجهاتها الغربيّة والجانبيّة المتدرّجة بزخرفة كثيفة نادرة ومميّزة ربما لا تجد مثيلاً لها على امتداد الجنوب اللبنانيّ كلّه، وزيّن غرفها بالنحوت والرسوم الجميلة، والنوافذ المقوّسة.
تكثر في واجهة الدار الزخرفة الحجريّة والصخريّة المتنوّعة، بين أشكال هندسيّة طوليّة وعرضيّة ومثلّثة، وأشكال الزهور المتنوّعة، التي كانت رائجة في النبطيّة، في تلك السنين، وانتشرت على واجهات العديد من البيوت الجميلة والدُّور، التي بدأت تزيّن أحياء النبطيّة، وسعى إليها العديد من أبناء المدينة الميسورين والمغتربين.
بنى الدكتور المِيرزا دارته على النمط الإيطاليّ وزركش واجهاتها الغربيّة والجانبيّة المتدرّجة بزخرفة كثيفة نادرة ومميّزة ربما لا تجد مثيلاً لها على امتداد الجنوب اللبنانيّ كلّه، وزيّن غرفها بالنحوت والرسوم الجميلة، والنوافذ المقوّسة.
في دارة الميرزا تكثر نماذج الستائر المثنيّة من فوق والكؤوس، وتكاد تنتشر فوق كلّ الزخرفة، وبين الأعمدة والجسور العليا ثمّ تلتفّ عليها. ناهيك عن «الدرابزونات» التي توزّعت على السطح من جميع جوانبه، تقطعها في مسافات متوازية برانق (برامق) حجريّة أو اسمنتيّة.
تقع دارة الميرزا في الشارع الرئيسيّ للنبطيّة، شارع حسن كامل الصبّاح، شمال السرايا الحكوميّة الحاليّة وشرق مبنى البريد والهاتف. كانت تنتشر فيها الأشجار المثمرة والحمضيّات، وتراجعت بتراجع الاهتمام، منذ وفاة صاحب الدار، وبسبب ما تعرّضت له النبطيّة طوال ربع قرن من اعتداءات إسرائيليّة أصابت الدار أكثر من مرّة. تمتلك ابنة الراحل «فيوليت» الميرزا حمّود معظم أسهم المبنى والبستان ونفت أن تكون قد عرضت الدار للبيع، في أعقاب سيل من الشائعات التي دارت حول بيعها والجهات التي اشترتها.
بهجت الميرزا هو ابن الميرزا إبراهيم، الإيرانيّ الأصل، مساعد الدّكتور “بوست” في الجامعة الأميركيّة الذي كان يزور النبطيّة أواخر القرن التاسع عشر واستوطن فيها وتزوج منها. وقد ساهم والده في نقل زراعة التّبغ البلغاريّ إلى النبطيّة وفي إقامة المراسم الأولى لذكرى «عاشوراء» بعدما كانت محرّمة على السّكان المحليين أيام العثمانيّين ومسموح بها للإيرانيين.
دارة آل شاهين في حي الميدان
بنى سعيد شاهين، والد النائبين والوزيرين الراحلين غالب وفهمي شاهين، دارته في حيّ الميدان في النبطيّة، سنة 1928. هو ملاّك “نبطاني” هاجر في أواسط العشرينات إلى أفريقيا وعاد بزاد من المال مكّنه من أن يصبح من أصحاب الأملاك، وقد استثمر أراضيه الشاسعة في زراعة القمح والتبغ، وبناء دارته في وسط حيّ الميدان، الحي الذي كان يعرف في تلك المرحلة بحي آل شاهين.
رزق سعيد شاهين بذكرين وأربع إناث. خاض الشقيقان غالب وفهمي غمار السياسة، النيابة والوزارة، ورحلا في عمر مبكر، غالب (1930- 1968) وفهمي (1932- 1972)، بعدهما آلت الدار إلى ابن شقيقتهما فاطمة الدكتور تنال صبّاح.
تعتبر واجهة الدار هي الأبرز في النبطيّة، تتألّف من شرفة يتجاوز طولها 25 متراً وعرضها نحو ثلاثة أمتار، تتقدّمها 15 قوساً منفرجة، منها اثنتان من الجهة الشرقيّة للواجهة واثنتان من الجهة الغربيّة. تتّكئ الأقواس على أعمدة صخريّة وحيدة عند الواجهة، وثلاثة أعمدة عند كلّ زاوية. تقطع أعمدة الأقواس بين «الدرابزونات» الصخريّة المزيّنة ببرامق منحوتة بشكل خفيف ومدروسة.
يصنّف المعماريون دارة آل شاهين بأنّها تجمع بين العمارة اللبنانيّة التقليديّة والزركشة الإيطالية، ويخيّم اللون التراثيّ اللبناني تماماً على الجهات الجانبيّة والخلفيّة للدار، من حيث الأبواب والنوافذ والجدران التي يعتمرها القرميد الإيطاليّ.
ما يحافظ على ألق الدار، أنّ مالكها الحالي قام بترميمها سنة 2013 وأعاد للواجهة الصخريّة رونقها وحافظ على البلاط القديم المزيّن برسوم وألوان مختلفة، وأزال الشوائب والنباتات التي قد تضرّ بالبناء. وهو يتردّد عليها بين الحين والآخر ويبيت فيها لوقت محدود.
شهدت النبطيّة في العام 1972، فصولَ هدم السرايا العثمانية القديمة، التي بنيت في العام 1885 من طبقتين، أزيلت بالتمام ولم يبقَ منها أيّ أثر وسط تجاهل بلدية المدينة والفاعليات المختلفة، وشُيّد لاحقاً مستوصف على أنقاضها
شهدت النبطيّة في العام 1972، فصولَ هدم السرايا العثمانية القديمة، التي بنيت في العام 1885 من طبقتين، «السرايا» التي سمّي الحي القديم باسمها، أزيلت بالتمام ولم يبقَ منها أيّ أثر وسط تجاهل بلدية المدينة والفاعليات المختلفة، وشُيّد لاحقاً مستوصف على أنقاضها. أمّا العام 1992، فشهد «جريمة» هدم أهمّ القصور التراثيّة في وسط النبطيّة وأشهرها، إذ كان يشكّل محطّ رحال أبناء النبطيّة والجوار، هو قصر فضل الفضل، بعد إهماله لسنوات، علماً أنّه كان بالإمكان ترميمه. ولم يبقَ منه غير مدخل من القناطر، التي تميّز بها بناؤه، وغيره العديد من البيوت القديمة الرائعة، التي أبادتها مساحات الإسمنت العشوائيّة التي غزت المدينة اعتباراً من منتصف الثمانينيّات وحتّى اليوم، والعديد منها آيل إلى السقوط أو الهدم، من دون أن يحرّك أحد من المعنيين ساكناً لإيجاد مخرج يحفظ تراث وتاريخ المدينة. فهل تلقى دور النبطيّة التي تشكّل الذاكرة السياسية والاجتماعية والصحية والإنسانيّة للنبطيّة وقضائها المصير عينه؟