“دويلة” المولدات متفلتة تفتك بصحة الناس وهوائهم

تجتاح المولّدات الكهربائيّة العشوائيّة أحياء وشوارع المدن الكبرى في لبنان، لا سيّما العاصمة بيروت، حيث تستقر بين الأبنيّة وفي التجمّعات السكنيّة، بالقرب من المنازل والمؤسّسات والمحال التجاريّة، يتنشّق الناس سمومها ويسمعون ضجيجها، ويموت بعضهم بسببها. لا يكترث أصحاب هذه المولّدات لحجم المخاطر الصحّيّة والبيئيّة الناتجة عنها، الآنيّة والمتوقّعة في المستقبل، كذلك لا تمارس السلطات المعنيّة دورها الرقابيّ.

يحدث ذلك، في وقت، باتت فيه المولّدات الكهربائيّة، خلال السنوات الأربع الأخيّرة، حاجة ضروريّة، بفعل انقطاع الكهرباء المستمرّ والتقنين القاسي، منذ أنّ عصفت الأزمة الاقتصاديّة والنقديّة بالبلاد أواخر العام 2019، وعجزت مؤسّسة كهرباء لبنان عن تأمين حاجة المواطنين الإستهلاكيّة.

457 ألف مولد؟!

في بيروت الإداريّة وحدها، تمّ رصد وجود 9300 مولّد كهربائيّ، وفق ما تؤكّده النائبة في البرلمان اللبنانيّ نجاة عون صليبا لـ”مناطق نت”، ما يعني وجود مولّدات على مسافات متدانية جدًّا بعضها قرب بعض، وهذا الرقم سيكون أكبر بكثير في حال احتساب كلّ مولّدات لبنان.

تشير دراسة أجراها الباحث الاقتصاديّ والاجتماعيّ الدكتور ميشال مرقص إلى أنه في العام 2000 تمّ توثّيق وجود أكثر من 370 ألف مولّد كهربائيّ خاص في لبنان، ومن ثمّ تمّ استيراد 86785 مولّدًا بين العامين 2001 و2005، وقارب عددها الإجماليّ 457 ألف مولّد حتّى نهاية العام 2017. هذه الأعداد ارتفعت أكثر لتعويض غياب الكهرباء “الرسميّة”، لكن لا أرقام دقيقة معلنة عن مجمل العدد النهائيّ.

تشير دراسة أجراها الباحث الدكتور ميشال مرقص إلى أنه في العام 2000 تمّ توثّيق وجود أكثر من 370 ألف مولّد كهربائيّ خاص في لبنان، ومن ثمّ تمّ استيراد 86785 مولّدًا بين العامين 2001 و2005

متضرّرون ولكن؟

هكذا، يشكو الناس في المدن الكبرى من دخان المولّدات، تلوّيثها وضجيجها، علمًا أنّها باتت بديلًا متاحًا راهنًا، لا يمكن الاستغناء عنه طالما تنعدم الخيارات الأخرى. تقول ملاك: “يعمّ الضجيج المكان، وهو أكثر ما يزعجني، إنّه ضجيج لا يهدأ، متواصل منذ سنوات، ولا أعتقد أنّه سينتهي في وقت قريب”، هذا أكثر ما يزعج الفتاة العشرينيّة التي تسكن قرب أحد المولّدات الكهربائيّة التي تغذّي منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.

وتضيف لـ”مناطق نت”: “اعتادت غالبيّة الناس وجود مولّد كهربائيّ كبير، وسماع صوته، ربّما بسبب طبيعة المنطقة السكنيّة هنا، والتي فيها كثير من الفوضى. إذ إنّ مشهد إطلاق رصاص كثيف واحد كفيل بأن يجعلك تموت خوفًا وذعرًا أكثر من احتمال وفاتك اختناقًا بدخان المولّد الأسود الذي تظهر آثاره المزمنة على جدران المباني المحاذية له، وطبعًا في صحتنا في ما بعد”.

لذا، تعتقد ملاك أنّ قلّة من الناس هناك تلتفت إلى الضرر الصحيّ ليس أكثر، بل على العكس “يمتعض سكّان الحي كثيرًا، في حال حدوث عطل طارئ قد يؤخّر تشغيل المولّد، في ظلّ انقطاع التّغذية الكهربائيّة إلى وقت طويل”، حسبما تقول.

خارج بيروت أيضًا

على أطراف بيروت، في بشامون تحديدًا، يختلف المشهد قليلًا ولكنّه ثابت، ثمّة مولّد كهربائيّ كبير يغذّي المنطقة، موضوع في بناء شبه مهجور، غير مُرخّص من البلديّة، ولا يتمتّع بأدنى معايير السلامة لجهة تركيب الفلاتر وتبديلها باستمرار، حسبما يؤكّد أحد السكان الذي يقع منزله قرب المولّد لـ”مناطق نت”.

غيوم سوداء ملوّثة نتيجة مولدات الكهرباء في لبنان

ويضيف: “توجد تمديدات عشوائيّة منتشرة، ونعيش تلوّثًا سمعيًّا بسبب صوت المولّد الدائم والذبذبات الناتجة عنه، ناهيك بالتلوّث البيئيّ جرّاء مخلّفات مادة المازوت والملوّثات التي نتنفّسها، وخطر إصابتنا بالأمراض”.

ويقول: “لمن نشتكي وماذا سنستفيد؟ صاحبه محميّ سياسيًّا، حاله حال كلّ من يعمل في قطاع المولّدات، حتّى أنّه لا يلتزم بتركيب عدّادات”. ويختم: “سندفع وأطفالنا كلف وجوده البيئيّة والصحّيّة المرتفعة، والأخطر أنّنا سوف نعيش تبعات أيّ إنفجار قد يصيبه، مثلما حدث في مناطق أخرى”.

هذه الحال، وهذه المخاوف، يعيشها كثيرون في لبنان، لا سيّما في المدن الكبرى، لكن للعاصمة خصوصيّة بارزة، كونها الأكثر اكتظاظًا وتلوّثًا وضجيجًا. وهذا ما يصبح مختلفًا للغاية، كلّما توجّهنا نحو القرى والأطراف، حيث المساحات الشاسعة والخضراء.

مستويات تلوّث مرتفعة

خلصت دراسة أجرتها النائبة الدكتورة نجاة عون صليبا في الجامعة الأميركيّة في بيروت، حول أثر تشغيل المولّدات الكهربائيّة على تلوّث الهواء، إلى أنّ “التلوّث الناتج عنها كبير جدًّا. ويجب التعاطي معها بمسؤوليّة” حسبما تقول لـ”مناطق نت”، وذلك في سياق التحقيق في تأثير أزمة انقطاع الكهرباء أكثر من 20 ساعة يوميًّا في بيروت الإداريّة.

وقد بلغت مستويات التلوّث الناجم من الجسيمات الدقيقة، وقطرها 2.5 ميكرومتر (2.5PM)، ذروتها عند 20 ميكروغرام في المتر المكعب، أيّ أربعة أضعاف المستويات القياسيّة لمنظّمة الصحّة العالميّة التي تقول إنّه يجب ألّا تتخطّاه، ما يثبت أنّ مستويات التلوّث باتت مرتفعة جدًا.

والأخطر بحسب صليبا، “أنّ النتائج أثبتت علميًّا أنّ هذا التلوّث له علاقة مباشرة بازدياد حالات المصابين بأمراض القلب والرئتين والسرطان، إضافة إلى الموت المبكر، وبالتالي فإنّ خطر الإصابة (كاحتمال) بالسرطان المقدّر ارتفع بنسبة 53 في المئة”.

المولدات بين الأبنية المكتظة بالسكان مشهد اعتيادي في بيروت

وتلفت الدراسة إلى أنّ مصادر التلوّث التي تمّ تحديدها، في ثلاثة مواقع، هي الجامعة الأميركيّة في بيروت، ووسط المدينة التجاريّة ومنطقة المقاصد (جامعة التمريض)، هي الديزل والحرق والبنزين، وبأنّ المهيمن في تلك المواقع، كان انبعاثات الديزل، وتحديدًا من المولّدات، بنسبة 42 في المئة للموقع الأوّل، 56 في المئة للثّاني و43 في المئة للثالث.

وتثبت دراسة سابقة، أجريت بين عاميّ 2020- 2021 أنّ ثمّة تشابه كبير بين غالبيّة المدن الكبرى، على مستوى معدّلات التلوّث، إذ أظهرت أنّ المعدّلات متقاربة في صور وطرابلس وبعلبك وبيروت، وفق ما تؤكّد صليبا.

ما هو الحلّ؟

وعن الحل؟ تردّ صليبا: “الأفضل إزالة كلّ المولّدات الكهربائيّة، ولكن طالما لا توجد راهنًا خيارات بديلة، أقلّه، يجب إلزام أصحابها بضرورة الإلتزام بمعايير السلامة العامّة، من خلال القيام بالإجراءات الوقائيّة، كوضع فلاتر وكواتم للصوت”.

وتضيف “لا بدّ للإدارات المعنيّة، من ضرورة متابعة وممارسة الرقابة الجدّيّة على هذا القطاع، وهي: البلديّات كسلطة رسميّة محلّيّة، المحافظون، ووزارتا الداخليّة والبلدّيات والبيئة، في حين يقع على عاتق وزارة الطاقة العمل بشكل ملحّ لإيجاد طاقة بديلة تتاح للناس عوضًا عن المولّدات”.

ومنذ بداية الانهيار الاقتصاديّ والنقديّ العام 2019، بدأ الاعتماد بشكل شبه كامل على المولّدات الكهربائيّة في المدن اللبنانيّة، بمعدل 18 ساعة أو أكثر، بسبب التقنين القاسي للتّغذية الكهربائيّة وعجز مؤسّسة كهرباء لبنان عن إنتاج الكهرباء، فيما كانت تستخدم قبل ذلك لسدّ فجوة انقطاع التيار الكهربائيّ في الشبكة الوطنيّة لساعات قليلة ليس أكثر. حتّى أن ساعات التغذية راهنًا، تختلف بين منطقة وأخرى، لكنّها لا تتعدّى الـ6 ساعات في غالبيّة الأحيان، وفي بعض الأيام، تنقطع بشكل كامل نتيجة النقص في إمدادات الوقود.

قطاع رديف

تاريخيًّا، يرى خبراء كثر، أنّه على مدى العقود الماضيّة، تمّ إضعاف شركة كهرباء لبنان، لصالح مافيات تحتكر مثل هذه القطاعات، وهو أمر لم يأتِ عن عبث وإنّما ضمن مخطّط لتحقيق مكاسب ماليّة كبرى.

بلغت مستويات التلوّث الناجم من الجسيمات الدقيقة، وقطرها 2.5 ميكرومتر، ذروتها عند 20 ميكروغرام في المتر المكعب، أيّ أربعة أضعاف المستويات القياسيّة لمنظّمة الصحّة العالميّة التي تقول إنّه يجب ألّا تتخطّاه

هذا الواقع، ومعه العجز الحاصل، جعلا من قطاع المولّدات الكهربائيّة رديفًا لمؤسسة كهرباء لبنان، يعمل فيه مستثمرون محميّون من الأحزاب والجهات الفاعلة، ويتمتّعون بنفوذ في هذا الحي أو ذاك. يستفيد منه، حماة هذا القطاع، ممّن ساهموا في إفشال الدولة اللبنانيّة كي لا تكون قادرة على تأمين حاجات الناس من إنتاج الكهرباء.

وكذلك، ثمّة قطاعات أخرى تستفيد من وجود هذه المولّدات، أهمها الشركات المستوردة للنفط التي ستخسر قسمًا كبيرًا من إيراداتها من استيراد المازوت في حال توافرت الكهرباء الحكوميّة للمواطنين، إذ عندها لن يكون هناك أيّ حاجة لوجود هذا القطاع أصلًا. ويقدّر خبراء الاقتصاد، أن حجم اقتصاد قطاع المولّدات يتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنويًّا، نتيجة تلبيته نقص كهرباء لبنان.

ووفق الأرقام التي حصلت عليها “مناطق نت” من مصادر وزارة الطاقة، استورد القطاع الخاص في لبنان العام الماضي نحو مليوني طنّ من الديزل و1.5 مليون طنّ من البنزين، فيما استورد في العام 2019، نحو 1.8 مليون طّن من الديزل و1.85 مليون طنّ متري من البنزين. ما يعني ارتفاع حجم الاستيراد عن السنوات التي سبقت الأزمة، ولكن بفارق ليس كبيرًا، لسبب أساس هو توقّف تهريب الفيول إلى سوريا.

التلوّث والخبيث

هذا الاعتماد المفرط على مولّدات المازوت أثّر بشكل سلبيّ على صحة الناس، لا سيّما على نسب التشخيص الإيجابيّ لمرض السرطان. يقول رئيس “جمعية بربارة نصّار لدعم مرضى السرطان هاني نصّار، “ممّا لا شكّ فيه أنّ معدّلات الإصابة بالسرطان ارتفعت في لبنان، وبوتيرة متسارعة في الآونة الأخيرة”.

ويضيف لـ”مناطق نت”: “إنّ أنواع السرطان ومسبباتها كثيرة، مثلًا يعدّ التدخين مسبّبًا أوّل لسرطان الرئة، يصاب به أيضًا العاملون في معامل الموبيليا والترابة، ومن أسبابه كذلك، التلوث الناتج عن وسائل النقل والمولّدات الكهربائيّة المنتشرة بكثرة وعشوائيّة، إذ يشكّل دخانها غيمة كبيرة فوق بيروت”.

مولدات كهربائية تنتشر في كل مكان في لبنان

ويشير نصّار إلى مسببّات أخرى “مثل تناول الخضروات التي يتمّ رشّها بالمبيدات الزراعيّة، وتدخين النرجيلة”، لافتًا إلى “أنّ لبنان يسجّل أرقامًا مرتفعة لجهة الإصابة بسرطان المبولة (المثانة)”.

أمّا عن أرقام المصابين، فيقول نصّار: “إن آخر إحصائيّة معلنة من قبل السجلّ الوطنيّ للسرطان في وزارة الصّحة كان في العام 2016، ومنذ العام 2017 وحتّى الآن، لم تُعلن أيّ أرقام جديدة، علمًا أنّ فريقًا من داخل الوزارة يعمل راهنًا من أجل تجديد الأرقام ونشرها مع حلول العام 2025”.

لكن ما هو مؤكّد، “وجود 13 ألف حالة جديدة سنويًّا مصابة بالسرطان في لبنان، كرقم تقريبيّ لمنظّمة الصحّة العالميّة، هذا يعني أنّها لا تقلّ عن 30 ألف مصاب يتلقّى علاجًا كيميائيًّا، يضاف إليها مصابون يتناولون علاجات من حبوب (كبسولات) ليصبح المجموع المقدّر 100 ألف تقريبًا. علمًا أنّه يتمّ تسجيل 3000 إصابة جديدة بسرطان الثدي سنويًّا”، بحسب نصّار.

قطاع بحجم دولة

قانونيًّا، لقد أوجدوا قطاعًا خارج القانون ينتج الكهرباء ويبيعها، ويشكّل خطرًا على البيئة والصحّة في آن. ماذا يجب أن نفعل؟ يقول المحامي الدكتور جاد طعمة “إنّ مقاربة ملف مولّدات الديزل لا بدّ من أنّ يتمّ على مستويين: الأوّل يتعلّق بالأثر البيئيّ والصحّيّ على المواطنين، والثّاني يرتبط بالوضع القانونيّ لعمل هذا القطاع.”

ويضيف في حديث لـ”مناطق نت”: “لا يخفى على أحد أنّ هناك آثارًا مباشرة على تلوُّث الهواء، ولا بدّ من تدخّل الدولة لتنظيم وضبط مخاطر استمراريّة هذا القطاع”. لافتًا إلى “إمكانيّة تحرّك المدّعي العام البيئيّ في كلّ محافظة، حفاظًا على البيئة وصحّة المواطنين. لكنّ التراخي الحاصل، ناتج عن المحسوبيّات السياسيّة لكلّ مالك مولّد، والمحاصصة داخل الشوارع والأزقّة، فالكلّ يسترزق من غياب الدولة وعلى حسابها”.

وفي هذا السياق، يستغرب طعمة “عدم إيلاء مجلس النوّاب الأولويّة الضرورية لاقتراح قانون ناظم لهذا القطاع، فالكهرباء وهي أساس كلّ شيء مقطوعة أكثر من 20 ساعة يوميًّا، وهناك ابتزاز للمواطنين، وتشغيل عشوائيّ لقطاع المولّدات الذي فرض نفسه كبديل عن كهرباء الدولة. ويختم: “هذا الموضوع الحيويّ لا بدّ من مقاربته موضوعيًّا نحو إفادة عموم المواطنين بعيدًا من استغلال أهل السلطة وهيئات المجتمع المدنيّ لأوجاع الناس من أجل مراكمة الأموال”.

هكذا، يعاني غالبيّة الناس جرّاء انتشار المولّدات عشوائيًّا، أوضاعًا صحّيّة وبيئيّة ونفسيّة صعبة، ولا يعلمون كلف هذه الانبعاثات القاتلة والملوّثة وهم يشهدون تداعياتها راهنًا، وربّما تفاقمها أكثر في مرحلة مقبلة، بيد أنّهم يقفون عاجزين، إذ وبكلّ بساطة حشروا أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الموت من ملوّثات المولّدات والحصول على الكهرباء، أو العتمة والنجاة بما تبقّى من صحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى