دياب القرصيفي رحيل حارس أسرار بعلبك الدفينة

لم يكن من قبيل المصادفة أن تضجّ مواقع التواصل الاجتماعيّ، والـ “فايسبوك” بخاصّة، كما تلك الصفحات الخاصّة بالبعلبكيّين تحديدًا أكثر من سواهم، بخبر رحيل دياب القرصيفي. لقد ترك الرجل أثرًا يتعلّق في بعلبك بالذات، من خلال أفعال متنوّعة وتحقيقات وكتابات وصور تتعلّق بالمدينة التي عرفها أكثر من سواه، وخبر بعضًا من أسرارها الدفينة.

رحل دياب القرصيفي بعد عمر لا يمكن اعتباره مديدًا، قياسًا إلى أعمارٍ كان حظّ أصحابها أفضل من حظّه. “سوء الحظ” هذا، ربّما كان بدأ لحظة الولادة، بعدما تبيّن أنّ ثمّة نقصًا فيزيولوجيًّا في إحدى قدميه، لم يمنعه من السير في شكل شبه طبيعيّ، لكنه لم يساعده على الركض مثلًا، لو شاء المحاولة. على أنّ هذا “العطب” الذي كان من شأنه أن يتسبّب في مشكلة لشخص سواه، نفسيًّا على الأقلّ، لم يقف يومًا حاجزًا أمام طموح دياب ونشاطاته المتنوّعة، بل ربما شكلّ دافعًا لديه نحو مزيد من المثابرة والإصرار من أجل تحقيق غاية ما، ذات فائدة، في هذه الحياة المتقلّبة.

هجرة متأخّرة

في الحديث عن دياب القرصيفي، لا مناص من أن يمتزج الشخصيّ بالحزبيّ والعامّ، وبذكريات مشتركة تعود إلى ما يقرب من نصف قرن. نصف قرن تخلّلته حوادث لا تخطر في بال، إذا ما اعتبرنا أنّ هذه الفترة من الزمن، لو كانت مرّت أيّامها في بلد عاديّ، لما تضمّنت هذا الكمّ من المتغيّرات، التي لم تفضِ، في نهاية الأمر إلى نتائج جيّدة، بل على العكس من ذلك، هذه “اللخبطة” دفعت بدياب إلى الهجرة، لا إلى القارّة الأميركيّة أو الاستراليّة، كما هي حال مهاجرين كثر خلال العقود الماضية، بل إلى إنكلترّا.

الصحافي والمصوّر الفوتوغرافي دياب القرصيفي

لكنّ هجرتها هذه أتت في وقت متأخر نسبيًّا من عمره، إذ لم يكن دياب، المولود في العام 1951، في عزّ شبابه حينما قرّر ترك البلد. وقبل تلك الهجرة عاش دياب ردحًا مهمًّا من حياته في بعلبك. انتسب إلى الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ حين كان في بداية عشرينيّاته، وعمل مصوّرًا لصحيفة “النداء”، إضافة إلى صوغه بعض الرسائل أو الموضوعات الصغيرة التي زوّد الصحيفة بها.

رحيلٌ متناقض

تعرفّتُ إلى دياب قبل بداية الحرب الأهليّة بقليل، وصرنا نزوره في منزله الواقع في حيّ غفرة، شمال مدينة بعلبك. البيت، الذي يقع في نهاية طريق، أو كما يُقال بالفرنسيّة impasse، هو عبارة عن غرفتين ضمّتا كلّ أفراد العائلة المؤلّفة من أمّ وخمسة أولاد. أمّا والد دياب خليل، الذي كان عاملًا يكسب قوت كلّ يوم بيومه، فقد توفّي في وقت مبكر، ولم أره قبل وفاته سوى مرّة أو مرّتين في بعض المناسبات، وكنت حينذاك طفلًا يرافق جدّه إلى مناسبات اجتماعيّة. وقد شاء القدر أن ينتقل أشقّاء دياب جميعًا إلى العالم الآخر، بعد وفاة الأمّ، واحدًا تلو الآخر، بدءًا من الأصغر حتّى الأكبر سنًّا، أي دياب، وذلك على عكس ما يقتضيه المنطق الحياتيّ العاديّ. هذا الأمر دفع بدياب إلى نشر صورة على صفحته “الفايسبوكيّة”، يبدو فيها أفراد عائلته الراحلون، مذيّلة بتعليق: “ما بقى في الميدان إلاّ حديدان”.

غرفة بمثابة منتدى

أمّا أكثر ما ترسخ في ذهني، وفي أذهان أصدقاء دياب وهم كثر، حين يتعلّق الأمر بالبيت القديم، فهي تلك الغرفة الصغيرة، قليلة الارتفاع، التي يفضي إليها درج يقع قرب المدخل. لم تتعدَّ مقاسات الغرفة مترين مربّعين. لكنّها اتّسعت للزائرين حتّى التخمة، ودارت في رحابها الضيّق نقاشات في الفنّ والسياسة والصحافة والتصوير الفوتوغرافيّ. ونوقشت قرارات “سرّيّة” تتعلّق بالعمل الحزبيّ.

لم ينحصر اهتمام دياب بالتصوير الفوتوغرافيّ الصحفيّ، بل تعدّاه إلى كلّ ما كانت تقع عليه عيناه: مناسبات اجتماعيّة، أفراد من بعلبك، مناطق أثريّة، عائلات منسيّة..

بعد عقود من منتصف سبعينيّات القرن الماضي، وحين أتى دياب في زيارة مع عائلته إلى لبنان، قادمًا من إنكلترا، حازت تلك الغرفة إعجاب أولاده الشباب، ذكورًا وإناثًا، وشاء كلّ منهم الإستئثار بها، ولو بالكلام قبل أن يكون ذلك بالفعل، فكان أن أعادوا لنا ذكريات ماضية، صارت أشبه بخيالات تعود إلى زمن بعيد، لم يبقَ منها سوى بعض الصور لصحن الدار في المنزل، المقابل للغرفتين، الذي استوعب “طزر” بسيطًا وبعض الكراسي، وكلمات والدة دياب، المشغولة غالبًا بالأعمال المنزليّة، مع ابتسامتها المريحة.

لم ينحصر اهتمام دياب بالتصوير الفوتوغرافيّ الصحفيّ، بل تعدّاه إلى كلّ ما كانت تقع عليه عيناه: مناسبات اجتماعيّة، أفراد من بعلبك، مناطق أثريّة، عائلات منسيّة، بيوت تراثيّة، إضافة إلى محاولته تكوين أرشيف يتعلّق بالمدينة. بعد سفره إلى إنكلترا، عمل على تنظيم أرشيفه، مستعينًا بصور تعود إليه، وأخرى أقلّ عددًا التقطها آخرون، ليقيم معرضًا في العاصمة البريطانيّة ضم مجموعتة الكبيرة.

“أرشيف لبناني”

كذلك أصدر في لندن، كتابًا تضمّن جزءًا كبيرًا من تلك المجموعه تحت عنوان A Lebanese Archive. هذا، وقد زارت معرضه شخصيّات بريطانيّة بارزة كالأمير تشارلز مثلًا، قبل أن يصبح ملكًا لإنكلترّا. ومن ثمّ أصدر كتابًا آخر تحت عنوان “يوم في حياة امرأة بعلبكيّة”، الذي تضمّن سردًا لحوادث شهدتها مدينة بعلبك، بعضها ذات طابع عام، وبعضها الآخر ذو طابع خاص. إلى ذلك إشتغل دياب، في السنوات الأخيرة، على تحقيقات نشرها على صفحته “فيسبوك”، تتعلّق بدورها في مدينته، وبما شهدته من حوادث، أو من مرور أفراد عرّفهم إليها، لم ينسهم خلال سنوات غربته.

“A Lebanese Archive” كتاب لدياب القرصيفي

كنا نتبادل المعلومات التي تتعلّق بالمدينة وتاريخها الاجتماعيّ في غالب الأحيان، بعدما سار دياب شوطًا لا بأس به في تدوين بعض مفاصل ذلك التاريخ، موثّقًا حوادث ومجريات، وذلك على الرغم من عدم حصوله على درجة أكّاديميّة في هذا المجال، بل من خلال العمل الدائم على النفس، التي بنى صرحها بنفسه.

في آخر اتّصال هاتفيّ معه، منذ مدّة، أتاني صوته متهدّجًا. أفادني بأنّه في المستشفى، ويخضع إلى بعض الفحوص. لم أشعر بالقلق الشديد، فقد كان دياب، واستنادًا إلى قوّة إرادته وروحه المثابرة، يخرج من المحن الصحّيّة، التي وقع في براثنها مرارًا. ولكن، لم يمرّ وقت طويل على تلك المحادثة القصيرة حتّى استسلم الجسد المتعب، الذي صارت مقاومة أعراض أمراضه الصعبة والمتراكمة أمرًا مستحيلًا.

شو بدّي قلّك؟

كتبت زوجته إعتدال القرصيفي، المرأة الخلوقة والوفيّة إلى أبعد الحدود لزوجها وعائلتها: “دياب، يا أبو خليل، الصحافيّ الكاتب المحبّ الخلوق، لقد كنت رفيق العمر خلال ٤١ سنة، رفيقي عالحلوة وعالمرّة، لقد غادرتنا بعدما اختطفك الموت منّي، بالأمس لفظت أنفاسك الأخيرة بين يديّ. شو بدّي قلّك لساني مربوط، وقف الكلام عندي لمّا وقف قلبك الطيّب والكبير، يلّي بدّي قول قالتو كلّ الناس عنّي، وكلّ لي بيحبّوك، يا صاحب الذكرى الطيّبة والسمعة الشريفة. رحم الله روحك الطاهرة واسكنك الله فسيح جنانه”.

هذه الكلمات، التي جاءت في موقعها المناسب، إنّما تلخّص سيرة إنسان أراد أن يصنع شيئًا في حياته يذكره من خلاله أصدقاؤه ومحبّوه وكلّ من عرفه، وقد ترك الرجل أثرًا، خلال حياة لم تذهب أيّامها وسنواتها سدى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى