دييغو أبو جهجه وحكاية صندوق العجائب من حانين إلى الأرجنتين

لم يكن دييغو قد تجاوز السادسة من عمره، حين قدَّمَت له خالته كراميلّا صندوقًا قابضًا على لهفات عتيقة، وأصوات عابرة للقارّات، وتنهّدات أشواق الأهل، الذين لا يعرفون عن بعضهم سوى نتف قليلة، لكنّها كافية لتدعيم رابط محاك من لحم ودم وأرض.

في العام 1994، بدا الموقف مهيبًا لجميع من حضر من أفراد العائلة في منزل كراميلّا. كلّهم يعلمون ما يحتويه الصندوق: رسائل قديمة، صورًا بالأسود والأبيض، أشرطة كاسيت، هي حصاد ما كان يُرسَل من طرف آل أبو جهجه في حانين، إلى القسم البعيد من عائلتهم في الأرجنتين.

لم يقع الاختيار على دييغو اعتباطيًّا، اتُّخذ القرار بإجماع كبار العائلة ممّن استشعروا شغف هذا الطفل بأخبار الجذور، وأسئلته التي لا تنتهي عن حانين، القرية الصغيرة في جنوب لبنان، قضاء بنت جبيل. لقد توفّي معظم الأشقّاء، وآن أوان نقل الأمانة إلى جيل الأحفاد.

الهروب من سفر برلك

بدأت الحكاية عندما قرّر ابن السابعة عشرة، كريّم خليل أبو جهجه، مغادرة قريته النائية حانين في الباخرة، نحو أيّ شاطئ آخر، ربّما يحمل إليه فرصة بحياة أفضل، هربًا من التجنيد الاجباريّ في الجيش التركيّ، حيث يُدَسّ المقاتلون في حروب لا تعنيهم، وفي الغالب لا يفهمون أسبابها، فبعد اشتعال الحرب العالميّة الأولى في شهر تموز (يوليو) 1914، بدأ تطبيق “سفر برلك” أو النفير العام الذي أطلقه السلطان العثمانيّ محمّد رشاد في الثالث من شهر آب (أغسطس) من العام نفسه، كإجراء يدعّم الجيش، بعناصر لبنانيّة وسوريّة وكرديّة. في تلك الأيام كانت سبل العيش منعدمة، وتزداد المصائب بِلَّة مع قدوم الجراد رفقة الحصار في العام الذي تلاه.

كريّم أبو جهجه
جنوبيّ في “سان خوسيه”

اعتلى كريّم تلك الباخرة مثل كثيرين من أبناء جيله، ممّن سجّلهم التاريخ من أوائل المهاجرين إلى القارّة اللاتينيّة. كانت الأرجنتين وجهة معروفة للحالمين بفرص أفضل، مِن أوروبّيّين وعرب.

في الفترة الممتدّة من نهايات القرن التاسع عشر وحتّى الحرب العالميّة الأولى، هيّأت الحكومة الأرجنتينيّة خططًا اقتصاديّة مبنيّة على الاستثمارات الزراعيّة، وهي بحاجة لأيدٍ عاملة وخبيرة، ويا حبّذا لو كانت قادمة من أوروبّا الشماليّة، وهي رغبة لم تتحقَّق، لذلك دعمت الدولة سياسات تشجيع الهجرة.

هكذا بلغ “الحانينيّ” الشاب مرفأ بوينس آيرس، ليقطع مسافات صوب قرية سان خوسيه (دي لا إيسكينا)، التي لا تقلّ فقرًا عن حانين، تقطنها أكثريّة من الإسبان والإيطاليّين، وقلّة قليلة من العرب، ممّن أُطلق عليهم تسمية “توركو”، إذ جاء الجميع من البلاد التي يحكمها الأتراك، قبيل اتّفاقية سايكس- بيكو التي أحالت البلاد إلى دول كما نعرفها اليوم.

الأرجح أنّ كريّم قصد تلك البلدة لمعرفته المسبقة بتواجد اللبنانيّ الآخر محمّد خزعل الذي سبقه إليها في العام 1905، وفتح متجرًا صغيرًا. كان خزعل مع 14 شابًّا آخرين، قصدوا الأرجنتين، ليصبح مجيئهم حدثًا تاريخيًّا مدوّنًا في سجلّات تلك البلاد.

اسم بدلالتين

على رغم الضائقة المعيشيّة، سرعان ما تزوّج كريّم أبو جهجه من كاتالينا جيلّي، التي يعود أصلها إلى شمال إيطاليا. أنجب الزوجان ستّة أولاد، بعضهم يحمل روح الشبه بأسماء أخوته ووالده في لبنان. هكذا أطلق اسم خوليو على مولوده الأول، ليحمل شبهًا باسم والده خليل، وخاسينتو المشابه لاسم حسن، وألفريدو القريب من اسم فريد، بينما كراميلّا انعكاس لاسم كريمة، وسارة (والدة دييغو) بقيت مثل اسم شقيقته الأصليّ، وهناك ابنة تدعى أنيتا، لم ندرك الموافق العربي لها.

كريّم أبو جهجه وزوجته الإيطالية كاتالينا جيلّي

لكتابة الرسائل إلى أهله في لبنان، اعتمد كريّم على صديقه حنّا بو زيد، وهو لبنانيّ من بلدة حصرون، في قضاء بشرّي، شمال لبنان. كانت هناك رسائل بين الأخوة، بعضها ضلّ طريقه كما تشير إحدى الرسائل التي بعثها الأخ الأصغر ذياب إلى أخيه كريّم، الذي لم يلتقه أبدًا.

صلة وصل أولى

على عكس ما يحصل اليوم، جهد كريّم وقتذاك كي يتكلّم أبناؤه اللغة الارجنتينيّة بإتقان، لأنّ فرصهم الوحيدة ستكون بالاندماج الكلّيّ في البلد وثقافته، فلا يُنظَر إليهم كعرب في الأرجنتين. لذلك لم يعرف الأبناء من العربيّة سوى التحايا والجمل الخفيفة. من بين الأخوة، كانت كراميلّا أكثرهم شغفًا بتاريخ العائلة اللبنانيّ، والثقافة العربيّة بالعموم، ومع ذلك لم تتقن العربيّة أبدًا، بيد أن حوارات الأخوة مع أولادهم كانت تسترجع التاريخ اللبنانيّ للعائلة مثل درس يُحفَظ عن ظهر قلب.

في العام 1975، بينما كان أحد أبناء حانين، ويدعى أحمد سويدان، يقوم بعمله كبائع متجوّل في سوق بنت جبيل، تعرّف على ابراهيم الحاج من بلدة رميش، ليخبره الأخير أنّه قادم منذ فترة قصيرة من الأرجنتين، حيث يعرف أشخاصًا من آل أبو جهجه، لهم أقارب هنا، في بلدة حانين. لعِب سويدان دور الوسيط، ليتمّ اللقاء بين أبناء أبو جهجه وبينه، فطلب منهم تحبير الرسائل، وتسجيل الكاسيتات، وإعداد الصور، ليأخذها معه في زيارته التالية إلى الأرجنتين، فكان ذلك الرجل أوّل صلة وصل بين جزئي العائلة، وقد بقي على دوره كوسيط حتّى كان التهجير المبكر من قرية حانين سنة 1976، فأحرِقَت تلك الرسائل، أو ضاعَت بسبب الابتعاد القسريّ عن المنازل التي تهدّمَت عن بكرة أبيها.

كادت الحكاية أن تنتهي عند هذه النقطة، وقد استمرّ الانقطاع فعليًّا إلى ما يزيد على 27 عامًا، إلى أن اختُرِق الصمت بمراسلة بدأها دييغو أبو جهجه حفيد كريّم وابن سارة بقريبه دياب الذي يعيش في بلجيكا.

رسالة من ذياب أبو جهجه إلى أخيه كريّم سنة 1958
فضائل الشبكة العنكبوتيّة

“كنتُ قد بلغت الخامسة عشرة من عمري، حين دخل الإنترنت إلى قريتنا سنة 2003، فسارعت إلى البحث عن أيّ فرد من أفراد عائلتنا بواسطة محرّك البحث. بداية لم يحالفني الحظّ حيث كنتُ أكتب “أبو جهجه” حسب اللفظ الأرجنتينيّ، فأعدت الكرّة بكتابة الاسم باللغة العربيّة لأجد أنّ مناضلًا سياسيًّا شهيرًا من أقاربي موجود في بلجيكا”، يقول دييغو لـ”مناطق نت”، ويضيف: “عندما أتاني الردّ من دياب لم تسعني الفرحة، شعور يفوق الوصف بأن تتّصل بالجزء المفقود من عائلتك. تقريبًا أخبرته كلّ شيء دفعة واحدة، وأخبرني دياب كثيرًا دفعة واحدة. هكذا بدأَنا مرحلة جديدة في عائلتنا هناك، حيث عدنا إلى عمليّة تبادل الرسائل والصور والأخبار. ما زلت أحفظ ذلك التاريخ بشكل جيّد، أيلول 2003”.

الأمّيّة علّمتني العربيّة

بعد حصوله على الصندوق صغيرًا، أصبح تعلّم العربيّة غاية دييغو الأولى، فالأهل فسّروا له أسباب انقطاعهم عن مراسلة الأقارب في لبنان، بأنهم يمتلكون وثائق عربيّة لا يحسنون قراءتها، بينما العرب ممّن يقطنون القرية غادروها منذ زمن. هكذا قصدَ دييغو الجارة اللبنانيّة التي تدعى إلدا مطر، وهي بالأصل من بلدة عين إبل، جارة حانين، طلَب إليها أن تعلّمه العربيّة، فوافقَت، على أن يتمّ الأمر يومًا بعد يوم، وبشكل شفهيّ، فإلدا لا تحسن قراءة أو كتابة العربيّة.

استمرّ الأمر لسنوات، إذ تابع دييغو تعليم نفسه بواسطة الفيديوهات وسماع الأغنيات، والأهمّ أنّه انتسب إلى “النادي اللبنانيّ” في مدينة روزاريو، التي قصدها لدراسة السياحة في الجامعة، ولم يكن هذا الخيار عفويًّا، ذلك أنّ لبنان بلد سياحيّ بامتياز، لولا الظروف التي تعاكسه. يقول دييغو: “ما زلت ممتنًّا لإلدا مطر، تلك المرأة التي علّمتني العربيّة في وقت مبكر، وها هي اليوم تستكمل حياتها بعمر الرابعة والتسعين”. ويخبرنا أن مكتبة القرية العامّة، تتضمّن كتبًا عديدة عن لبنان، فكانت خير دليل على تاريخ البلد وخصوصيّاته.

دييغو أبو جهجه في بلدته حانين
المهاجرون الأوائل

في “النادي اللبناني” الذي تأسّس سنة 1928، تعرّف دييغو أبو جهجه على عديد من المتحدّرين من أصول لبنانيّة، فانتسب إلى فرقة الدبكة، وراح يستمع إلى جميع الأغاني التراثيّة، “وديع الصافي بشكل أساس، كذلك فيروز بطبيعة الحال” يقول دييغو الذي دبك كثيرًا على أغنية “يا ظريف الطول” (لنصري شمس الدين)، كذلك راح يتذوّق الطعام اللبنانيّ في النادي حيث ثبّتت لوحة في حديقته دوّنت عليها أسماء المهاجرين الأوائل: كريّم خليل أبو جهجه، إبراهيم صادر، إبراهيم حليم الحاج، عفيف نقولا خزامي، أحمد دياب مجير، علي رشيد مطر، علي سعيد شيّا، إميلي أيّوب، أنطوانيت حنّا عيسى، بهيجة عازار، ياسمين سابا وآخرين…

في خلال كلّ تلك المراحل، كان والد دييغو مبارِكًا ومشجّعًا، علمًا أنّه من أصول إسبانيّة، ويدعى أنطونيو فرنانديز. غير أنّ دييغو أخبر والده عن رغبته بتغيير اسمه على بطاقة الهُويّة، ليكون دييغو أبو جهجه فرنانديز، بدلًا من دييغو فرنانديز أبو جهجه. تفصيل بسيط، كان يعني كثيرًا لهذا الشاب المتيّم بحبّ لبنان، ويمتلك رغبة جارفة في الانتماء إلى هذا البلد. تحقّق ما رغب فيه الابن، ليصبح أقرب إلى لبنان، ولو بتغيير موضع كلمة على الورق.

في “النادي اللبناني” الذي تأسس سنة 1928، تعرّف دييغو أبو جهجه على العديد من المتحدّرين من أصول لبنانية، فانتسب إلى فرقة الدبكة، وراح يستمع إلى جميع الأغاني التراثيّة

حلم يتحقّق

في العام 2008، سافر زياد أبو جهجه (شقيق دياب) من مركز عمله في البرازيل إلى الأرجنتين، بغية لقاء أقاربه هناك، فدشّنت تلك اللحظات نقطة وجدانيّة عظيمة في تاريخ العائلة، وحقّق دييغو بعدها بسنوات انتصاره الأكبر على الظروف، فيزور لبنان للمرّة الأولى في العام 2012.

“لقد بكيت في مطار بيروت، حالما سمعت أقاربي وهُم ينادونني بالعربيّة: “دييغو نحنا هون”، وبكيت في المرّة الثانية حينما دخلتُ بلدتي وبلدة جدّي كريّم، حانين. كنتُ في الخامسة والعشرين من عمري، لكنّني أجهشتُ بالبكاء مثل الاطفال”، يقول دييغو متأثرًا.

نسأله عمّا إذا شعر بالخيبة عندما رأى واقع البلد؟ فكان ردّه معاكسًا تمامًا: “بدا لبنان أجمل ممّا اعتقدت، وحلمت. شعوري كان جيّاشًا هنا. حانين حلمي الذي تحقّق”. أعاد دييغو الكرّة في السنة التي تلتها، ومعه حبيبته لوسي هذه المرّة، ولهذه الفتاة جذور لبنانيةّ من ناحية والدتها، فجدّها من آل عتمة من بلدة عين إبل، جارة حانين، وبطبيعة الحال زارا أقاربها في فترة تواجدهما في لبنان.

عرس دييغو ولوسي

في العام 2016، تزوّج دييغو بلوسي، في حضور أبناء العمومة ممّن جاؤوا من لبنان تخصيصًا لحضور العرس. قطع تركي ومحمّد أبو جهجه مسافات كبيرة بالطائرة، ومثلها بالسيارة من العاصمة بيونس آيرس باتجاه روساريو البعيدة عند حدود الأرجنتين مع الأورغواي، وهي ثالث أكثر المدن اكتظاظاً في الأرجنتين، بما يقارب المليون نسمة. من هذه المدينة يتحدّر المناضل تشي غيفارا، ولاعب كرة القدم ليون ميسّي.

عن تلك التجربة، يحكي تركي أبو جهجه لـ”مناطق نت”: “لقد احتفي بنا هناك أيّما احتفاء. الأقارب والجالية اللبنانيّة تصرّفوا بكّل ما يتباهى به العرب من فروسيّة وكرم ضيافة. لقد استمر عرس دييغو ولوسي على مدار أيّام ثلاث. تخلّلها كتب الكتاب على الطريقة الإسلاميّة بواسطة شيخ، ثمّ استكملت الطقوس المسيحيّة في الكنيسة. خلال جولاتنا هناك، زرنا بيت العمّ كريّم خليل أبو جهجه، ذلك المهاجر القديم، الذي توفيّ في العام 1958 من دون أن يستطيع العودة كي يرى حانين مرّة ثانية، بل لم يرَ أخوته الذين ولدوا بعد مغادرته لبنان”.

سرّ حكايات ما قبل النوم

في العام 2023، زار دييغو لبنان للمرّة الثالثة، وهو يؤكّد أنّ زيارات بلده لن تتوقّف. لبنان الذي يصيغه دييغو في مخيّلته بسمات وصفات متجاوزة لأزماتنا وشكوانا اليوميّة، فعينا هذا الشاب الجنوبيّ تنظران إلى الوطن من منابع “رحبانيّة”، هو الذي سأل أهله عن تفسيرهم لتعلّقه بلبنان في عمر مبكر، فصارحوه أنّهم كانوا يقصّون عليه حكايات عن لبنان والعائلة، وهجرة الجدّ بالباخرة، على طريقة حكايات الأطفال قبل النوم.

لقد استطاعوا إدخال تلك المشهديّات إلى عقله الباطن، ليتشبّع بها في وجدانه وإلى الأبد. هكذا يفعل دييغو اليوم مع ولديه، سليم وإسماعيل، اللذين لفّهما بالأرزة اللبنانيّة بُعيد ولادتهما.

“منذ سنوات وأنا أعمل على تدوين تاريخ العائلة” عبارة يزيدها دييغو على سرديات حكاياته، إذ إنّه لن يورث أولاده صندوقًا مغلقًا لنتف منها، بل لحكاية بأكملها، ستنتقل حتمًا إلى جميع أحفاد العائلة.

دييغو مع والدته سارة التي حصلت على جواز السفر اللبناني سنة 2018
ابن دييغو والعلم اللبناني يلفّ جسده عقب ولادته
دييغو باللباس العربي التقليدي مع ولديه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى