ذاكرة الحرب هل تُداوى بالنسيان؟
أدركتُ من خلال بعض الروايات الشفويّة، أنّ فتح بوّابة جحيم ذاكرة الحرب لم يكن حدثًا جديدًا بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، والتي تسبّبت في نزوح جماعيّ لأهالي الجنوب والبقاع وسكّان الضاحية الجنوبيّة في بيروت. من بين الروايات أنّه خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي استمرّت 15 عامًا، قُتل شاب من البقاع كان يعمل في الجنوب على يد شخص غريب وأمام أنظار والده. هذا المشهد دفع الوالد إلى الثأر لمقتل ابنه، إلّا أنّه أثناء عودته إلى منطقته نجا من حادث سير تسبّب فيه انقلاب سيارة على طريق ضهر البيدر، ليعود ويفلت من العقاب عند صدور قانون العفو العام.
قمع الذاكرة
يقول لويس هايد في كتابه أدب النسيان “إنّ جذور شجرة الذاكرة في الدم”، وهذا ما تنطوي عليه الذاكرة اللبنانيّة التي تمتدّ عروقها إلى هناك حيث الدم. وعلى الرغم من أنّ ذكريات الحرب الأهليّة خبت وابتعدت، إلّا أنّ اللبنانيّين/ات لم يجدوا فرصة للتعبير عنها إلّا نادرًا.
تُستحضر هذه الذكريات غالبًا كمثير للنعرات الطائفيّة في سياق الأزمات السياسيّة، ليعود الجميع إلى تجاهلها سريعًا. لكنّها تطفو أحيانًا في بعض المذكّرات الشخصيّة والكتب الأدبيّة القليلة، وفي مطالب أهالي المخطوفين والمفقودين.
هذا التجاهل ليس تعبيرًا عن رغبة في تجاوز الماضي والمضيّ قدمًا، بل نتيجة خوف دفين من العنف الكامن في الذاكرة. ومع ذلك، فإنّ محاولة قمع تلك الذكريات، المتوغّلة في أعماق كلّ طائفة، بعثت الموتى من جديد، فجعلت الخوف من الحرب الأهلّية حقيقة واقعة، تتأجّج مع الصدمات المتكرّرة، ومع إعادة الاختلاط في البيئات الحاضنة للنزوح.
محاولة قمع تلك الذكريات، المتوغّلة في أعماق كلّ طائفة، بعثت الموتى من جديد، فجعلت الخوف من الحرب الأهلّية حقيقة واقعة، تتأجّج مع الصدمات المتكرّرة
هوية وطنيّة جامعة
لقد عجز اللبنانيّون/ات قبل الحرب الإسرائيليّة الأخيرة عن بناء هويّة وطنيّة جامعة، فكان من تأثيرات هذه الحرب أن جعلت كلّ فرد يعيش في “لبنانه” الخاصّ أو “لا لبنانه”. أصبحت الهويّات الطائفيّة المحرّك الأساس لدى الأفراد، سواء بالعودة إلى حضنها أو الهرب منها.
يقول ميلان كونديرا في كتابه الضحك والنسيان إنّ “النضال ضدّ السلطة هو نضال الذاكرة ضدّ النسيان”. فالسلطة تعمل على تشكيل الذاكرة الشعبيّة وإعادة صياغتها وفق مصالحها. على سبيل المثال، بعد انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020، تمّ تنظيف ودهن الجدران المقابلة لإهراءات بيروت بهدف محو الأثر. وهذا ما حدث أيضًا في عديد من المباني التراثيّة التي كانت تستخدم كمراكز استخبارات، مثل مركز استخبارات الجيش السوريّ سابقًا في بعلبك، حيث تمّ استغلال العدوان الإسرائيليّ لهدمه خلال تلك الفترة، طامسين مرحلة تاريخيّة مهمّة عن التواجد السوريّ في لبنان وآثاره على المواطنين.
هذه الحاجة “للتطهير” التي تتذرّع بها السلطة بحجّة ردع العنف، ليست سوى قناع يخفي خلفه مظاهر اللاإنسانيّة، وإلغاء إرث الحرب والتجربة الجماعيّة التي عاشها وعانت منها النسائج الاجتماعيّة، والهدف منها هو إعادة ترتيب المشهد السياسيّ، بما يضمن بقاء جميع المتورّطين في الجرائم على مقاعدهم في مائدة الدولة.
بيئات غير متعافية
بالعودة إلى الرجل البقاعيّ، وأمثاله كثيرون من اللبنانيّين قاموا بعمليّات فرديّة لدوافع ثأريّة أو ميليشيويّة -ثأر الكلّ ضدّ الكل- يذكر عدنان حبّ الله في كتابه جرثومة العنف أنّ الحرب خلقت شرخًا في البنية الاجتماعيّة، واستباحة للقانون وشرعنة للقتل.
يصبح موضوع الثأر قابلًا للتشريح، فهو كفعل بحدّ ذاته يعبّر عن غايته في استعادة ما سُلب. إلّا أنّ ما سُلب فعليًّا في الحرب الأهليّة هو الشعور بالكرامة الإنسانيّة، وهو ما يولّد نوعًا من الشعور بالإهانة. وبالمقارنة، فإنّ الشعور بانتهاك الكرامة كان في ذروته أثناء الحرب الإسرائيليّة، خصوصًا مع الاختلاط ببيئات “تشكّل قلقًا طائفيًّا” لدى عديد من الأفراد. ويعود ذلك إلى العلاقة غير المتعافية التي نشأت بعد خوض الحرب الأهليّة وتعقيداتها الطائفيّة.
كذلك فإنّ الشعور بالإهانة خلال الحرب الأهليّة ولّد حالًا من الغضب، وبالتالي أدّى إلى حالات من الثأر المتواصل والمضادّ. ومع ذلك، فإنّ التفكير في الثأر على صعيد الجماعة لا يكون بالضرورة لتحقيق العدالة للقتيل، بقدر ما يكون لتحقيق العدالة في مواجهة الشعور بالإهانة. غير أنّه في دائرة العنف المفرط، يصبح الفرد أكثر قابليّة لتلقّي الإهانة كذريعة لتبرير ارتكاب فعل الشر.
العفو العام
وهذا ما يحيلنا إلى القانون “المفصل”، عندما قرّرت الدولة اللبنانيّة العفو عن كلّ جرائم القتل التي ارتُكبت أثناء الحرب، وهي بذلك فرضت سلطتها على الذاكرة وألغت شرعيّة الحقّ بالتذكّر وتحقيق العدالة.
بعبارة أخرى، ظلّ اللبنانيّون يجرّون الجثث، على رغم حال الاتّفاق المعلنة. ولم يمثل أيّ مجرم حرب أمام أيّ هيئة قضائيّة، حتّى مع ظهورهم على شاشات التلفزة والإدلاء باعترافاتهم، ولم تؤخذ العدالة الانتقاليّة في تلك المرحلة على محمل الجدّ.
هذا يشبه، من حيث الجوهر، ما حدث بعد الحرب الأهليّة الإسبانيّة، حيث دخلت البلاد في مرحلة “ميثاق النسيان”، وظهرت ثلاث روايات متناقضة عن الأحداث: الأولى ترى أنّ الجيش الرجعيّ أطاح بحكومة ديمقراطيّة، والثانية ترى أنّ الجيش النظاميّ أنقذ البلاد من الفوضى، والثالثة تعتبر الطرفين متطرّفين ارتكبا فظائع، لذا كان الأفضل نسيان الماضي. هذه الرواية الأخيرة، التي انتشرت خلال مرحلة العفو، استفادت من قانون يمنح الحصانة للمتّهمين إذا اعتُبروا فاقدي العقل، ممّا دفع البعض للقول إنّ “إسبانيا كلهّا فقدت عقلها”.
النسيان طريقًا للحقيقة
يعتبر لويس هايد “أنّ بعض المجتمعات الشفويّة تحافظ على توازنها من خلال التخلّص من الذكريات التي لم تعد لها أهمّيّة بنسيانها”، أو بعبارة أخرى بدفنها. وهنالك بحسب وجهة نظره نوعان من الدفن في أحدهما يُخفى الشيء لأنّنا لا نطيق التفكير فيه؛ وفي الآخر، يُدفن لأنّه قد فقد أهمّيّته، بعد أن كشفنا عنه وتفحصناه.
ظلّ اللبنانيّون يجرّون الجثث، على رغم حال الاتّفاق المعلنة. ولم يمثل أيّ مجرم حرب أمام أيّ هيئة قضائيّة، حتّى مع ظهورهم على شاشات التلفزة والإدلاء باعترافاتهم
ويتمّ استكشاف مفهوم النسيان من خلال تحليل أصل كلمة “ينسى” في اللغة الإنجليزيّة، التي تعود جذورها إلى اللغة الألمانيّة القديمة. تشير الكلمة for إلى الإهمال، بينما يعني getan التمسّك بالشيء. النسيان، إذن، هو ترك الأشياء تغادر وعينا، سواء كانت ذكريات مؤلمة أو أفكار خاطئة. في المقابل، في اللغة اليونانيّة، يرتبط النسيان بكلمة “ليثي” التي تعني التخفّي أو التستّر، وهي عكس “أليثي” التي تعني الحقيقة، حيث أنّ الحقيقة تمثّل ما يتمّ الكشف عنه أو إخراجه من مخبئه.
لذا حاجتنا اليوم أكثر ممّا مضى هو استعادة النسيان كمكوّن من مكوّنات الحقيقة، تسهّل علينا رؤية إلى أيّ مدى أصبح الماضي جزءًا من تاريخنا الجماعيّ والشخصيّ، فيكون العفو العام بعد الشفاء من الندوب ومعاينتها وليس قبلها.
ولكي لا تُدمّر الذاكرة قدرتنا على الاستمرار، يقول خورخي بورخيس “إنّه يجب علينا دمج هذين العنصرين: الذاكرة والنسيان، التوثيق والمحو، من أجل استعادة القدرة على تخيّل المستقبل”. فلا يمكن ذلك إلّا من خلال سرد القصّة نفسها بشكل كامل، على رغم الاختلافات عند كلّ راوٍ لها، حتّى يعود الزمن للتدفّق.
مراجع:
– “جرثومة العنف، الحرب الأهليّة في صميم كلّ منّا”، عدنان حب الله.
– “أدب النسيان”، لويس هايد
– “عن الثأر”، ماري- فرانس هازيروك.
– “الضحك والنسيان”، ميلان كونديرا