ذكريات وحكايا مقتنيات لبنانيّة يرويها متحف ميفوق التراثيّ

في أعالي قضاء جبيل، وتحديدًا بلدة ميفوق، ينهض منزل حجريّ عتيق كأنّه صفحة من كتاب التاريخ، يروي فصولًا من حياة اللبنانيّين منذ أكثر من قرن ونصف قرن، حفظت جدرانه عبق الأزمنة القديمة. منزل يملكه رجل الأعمال شربل سلامة، تحوّل إلى مساحة تجمع التراث وتوثّق تفاصيل الحياة القديمة بعيدًا من الصالات الفاخرة والمتاحف التقليديّة.

هو بيت بسيط يطلّ على الجبال والأودية، يفوح منه عبق الماضي، وتهمس جدرانه بصدى المواويل ونكهة العرق اللبنانيّ الأصيل، حاملًا تفاصيل حياة اللبنانيّين أفرادًا ومجتمعًا.

متحف موسميّ

يضمّ متحف سلامة، نحو 1200 قطعة تراثيّة، لكلّ منها قصّتها ووظيفتها وذاكرتها الخاصّة، تروي مشاهد من الحياة اليوميّة في لبنان منذ أكثر من قرن ونصف قرن وصولًا إلى مطلع القرن العشرين، مع نشوء دولة لبنان الكبير. في حديثٍ إلى “مناطق نت” يقول سلامة: “أعرض هذه القطع أمام منزلي وفي محيطي، ريثما تسمح الظروف بتشييد متحف متكامل يليق بهذا الإرث، وفق المعايير التراثيّة والتاريخيّة والسياحيّة المعتمدة عالميًّا”.

في إحدى الزوايا، تنتصب “النمليّة”؛ الخزانة الشبكيّة التي كانت تُستخدم لحفظ الطعام من الحشرات والغبار قبل ظهور البرّاد الكهربائيّ

جمع سلامة هذه القطع بجهده الشخصيّ، بعدما بحث عنها واحدة واحدة واقتناها من ماله الخاصّ. وفي كلّ عام، يعرضها مع بداية موسم الصيف أمام منزله في ميفوق، ثمّ يعيد توضيبها مع اقتراب الخريف.

مع مرور السنوات، أصبحت دارة سلامة وجهة يقصدها الزوّار خلال موسم الاصطياف، من لبنانيّين مقيمين ومغتربين، إضافة إلى السيّاح العرب والأجانب، فيتجوّلون بين هذه المقتنيات مجّانًا، ويستعيدون من خلالها لمحة من الحياة اللبنانيّة القديمة وما حملته من تفاصيل أصيلة.

تفاصيل البيت اللبنانيّ

يقع منزل شربل سلامة إلى جانب الطريق العام في ميفوق، وما إن يدخل الزائر إلى باحته حتّى يستقبله أصحاب الدار بالترحيب، قبل أن تبدأ رحلة العودة إلى تفاصيل الماضي القريب.

آلة كاتبة قديمة في متحف ميفوق التراثي

في إحدى الزوايا، تنتصب “النمليّة”؛ الخزانة الشبكيّة التي كانت تُستخدم لحفظ الطعام من الحشرات والغبار قبل ظهور البرّاد الكهربائيّ. وبحسب سلامة، اسم “النمليّة” مشتقّ من النمل، إذ كانت تحمي الأطعمة منه وتعكس براعة النساء في إيجاد حلول من واقع بيئتهنّ. وبالقرب منها، ثمّة برّاد خشبيّ معدنيّ كان يُملأ بالثلج الطبيعيّ شتاءً أو من “الثلّاجة” التي كانت تخزّن الجليد المقطوع من قمم الجبال. وفي الباحة، تستوقف الزائر “طلمبة مياه”، الأداة التي كانت تُستخدم يدويًّا لاستخراج المياه من الآبار المحفورة بالمعاول والرفوش، وتتطلّب جهدًا عضليًّا كبيرًا، في إشارة إلى اعتماد القرى اللبنانيّة على مواردها الذاتيّة قبل تطوير البنى التحتيّة الحديثة.

وفي ركن آخر، يعرض سلامة جهازًا تلفزيونًا يبثّ بالأبيض والأسود من خمسينيّات القرن الماضي، وإلى جانبه جهاز راديو مع فونوغراف، حيث كان اللبنانيّون يجتمعون للاستماع إلى صوت فيروز وأغاني عبد الحليم حافظ. ذلك الفونوغراف، بإبرته التي تنقش على الأسطوانة، يعيد صوت الموسيقى كما كان يُسمع قديمًا، محمّلًا بخشخشة الحنين.

حفلات من زمن مضى

لا يبتعد عن هذا المشهد، البيانو الخشبيّ العتيق، إلى جانبه آلة القانون وبعض آلات النفخ التي كانت ترافق الأعراس والمواكب، تبشّر بفرح قادم أو تودّع حزنًا مضى. في قسم آخر، تصطف الأدوات المكتبيّة من زمنٍ كان فيه للورق رائحة خاصّة وللرسائل وزن وهيبة. هناك تبرز آلة “الدكتيلو” أو الآلة الكاتبة، “التي طالما سمعت صوتها في مكاتب المحامين والصحافيّين وهي تسطر النصوص الرسميّة والوجدانيّة على حدّ سواء” يقول سلامة.

كاميرا قديمة في متحف شربل سلامة في ميفوق

وبالقرب منها، ماكينات حساب يدويّة استخدمها الصرّافون والباعة لتسجيل الفواتير قبل ظهور الآلات الحاسبة الرقميّة، وإلى جانبها ماكينة طباعة الجرائد التي تستحضر زمن الصحافة الورقيّة، يوم كانت المطبعة قلب الحقيقة.

 من الطب إلى صندوق الفرجة

لا تغيب فنون الطبّ القديم عن متحف سلامة، إذ يضمّ أدوات قديمة لطبيب أسنان، وأخرى لجرّاح القلب، إضافة إلى آلة تخطيط قلب يدويّة كانت تُنقل إلى منازل المرضى. أدوات تحمل خشونة تلك الحقبة، لكنّها تعكس دفء العناية في ذاك الزمن. كذلك يضمّ المختبر القديم الذي كان يُستخدم في صناعة الأدوية والعطور.

وفي ركن آخر، نجد “صندوق الفرجة” الذي كان جزءًا من الأعياد والمناسبات الشعبيّة، حيث كان يجتمع الأطفال لمشاهدة صور متحرّكة على وقع الحكايات؛ شكل بدائيّ من السينما بعيون أطفال لم يعرفوا سوى القصص السحريّة.

وبالقرب منه، حصيرة الكشك المصنوعة من القش، والتي كانت تُستخدم في تحضير المأكولات الشعبيّة مثل الكشك والبرغل، دلالة على الطقوس الجماعّية للمؤونة.

في زاوية صغيرة أخرى، تُعرض مجموعة من النقود اللبنانيّة القديمة، ورقيّة ومعدنيّة، من بينها القرش المقدوح الذي كان يُقدح بالنار لتمييزه عن المزيّف. ويعرض جواز سفر لبنانيّ قديم بغلاف جلديّ، يحمل ذاكرة أشخاص سافروا وبقيت هويّتهم جزءًا من الوطن.

المنزل اللبنانيّ

ركن الحِرَف في المتحف هو الأكثر نشاطًا. يشاهد الزائر منفخ الفحم الحجريّ الذي كان يستخدمه الحدّادون لإذكاء النار في أفرانهم، إلى جانب مخرطة حديديّة، وعدّة بنّائين من معاول وميازين، وأدوات اللحّامين (الجزّارين) والنجّارين. كذلك ثمّة قبانين (جمع قبّان) يدوية وميازين كانت تُعلّق في الأسواق لتحديد الأوزان، وأدوات الشيّ القديمة، وماكينة الفواتير، وسلال القشّ التي كانت تُستخدم لجمع الغلال أو لحفظ المؤونة.

سرير خشبي قديم في متحف ميفوق الأثري

ويضمّ المتحف كذلك معدّات تخصّ المرأة اللبنانيّة، مثل مكاوي البخار، وأباريق العصائر الزجاجيّة، وماكينات للمكسّرات والسحلب، كلّها تعكس نشاط الصناعة المنزليّة في الماضي. وتوجد عدّة طحن البنّ وتحضير القهوة، وماكينة الخياطة الشهيرة “سنجر”، التي شكّلت ثورة في الخياطة والتطريز المنزليّ ولم يكن يخلو منها بيت في ما مضى.

المنزل اللبنانيّ لم يغِب عن متحف سلامة، إذ يضم أسِرّة نوم خشبيّة، وكراسٍ متنوّعة، وأوانٍ نحاسيّة وفخّاريّات، بالإضافة إلى خوابٍ لتخزين المؤونة، وعلب كبريت، وقوالب اللِّبن أو الطوب التي كانت تُستخدم في البناء اليدويّ.

رواية تاريخ لبنان

يقول سلامة: “إنّ الغرض من جمع هذه القطع لا يقتصر على عرضها وحسب، بل يهدف إلى رواية حكاية تاريخ لبنان من منظور الناس وأيديهم”. ويختم: ” أنا مستمرّ في العمل على تأسيس متحف تراثيّ كبير يلتزم بأعلى معايير اليونسكو لحفظ التراث المادّيّ وغير المادّيّ، ليصبح هذا المشروع نموذجًا فريدًا للحفاظ على الهويّة اللبنانيّة”.

عدّة طبيب الأسنان
صندوق الفرجة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى