راشانا تعويذة النحت في الهواء الطلق
منذ أواخر تسعينيّات القرن الماضي، كنتُ أواظب على زيارة راشانا، لتغطية فعاليّاتها النحتيّة، حيث يلتقي في كلّ عام، ما يقارب عشرة نحّاتين من لبنان والعالم، لإنجاز منحوتاتهم بالأزاميل والمطارق و”الصواريخ” الكهربائيّة (الجلخ)، لقصّ الكتل الضخمة من الصخور والرخام. كانت تمرّ بضعة أيام كي تظهر علامات المنحوتات النهائيّة، تهيئة ليوم الافتتاح، الذي غالبًا ما يكون برعاية رئيس الجمهوريّة.
كان ألفريد بصبوص يتابع تفاصيل النحّاتين، ممّن يحضرون إلى لبنان بتغطية كاملة من إدارة المعرض، حيث تكون الرعاية من وزارة الثقافة وأحد المصارف. كلّ هذا لمراكمة المنحوتات التي خصّص لها مكان مشرف في البلدة، بحيث يستمتع الناظر بما يراه عن قرب، وعن بعد، خصوصًا في وقت الغروب، حيث تعيد الشمس الأفقية رسم ملامح التماثيل وظلالها. مشهد يوميّ مهيب لأعمال فنّيّة صنعها نحّاتون من القارّات الخمس، يتجاورون بإبداعاتهم وهي غالبًا ما تكون تجريديّة، بأسماء محرّضة للمخيّلة.
في حينه، كنتُ أحاور ألفريد بصبوص، سائلًا عن بداياته، ليخبرني بأنّه ولد مرّتين: الأولى من بطن أمّه، والثانية “على زيزقة الخيزران”؛ فوالده كان كاهنًا وخطّاطًا، فينصت الطفل ألفريد إلى ذلك الصوت المتولّد من صرير القصبة وهي تنساب بحبرها على الورق.
البيت الأبيض
كان ميشال (1921 – 1981) أوّل مداميك الثلاثي بصبوص، فتمرّس عند النحّات يوسف الحويّك، متشرّبًا فنون الإزميل، ومتناقضًا معه في طريقة تعامله مع فنّه، فالحويّك تعمّد حجب منحوتاته عن عيون الآخرين، بينما قام ميشال وألفريد ويوسف بصبوص، بعرض منحوتاتهم في الهواء الطلق، لتستقبلك تلك الإبداعات من مدخل الضيعة حتّى أطرافها، فتخال أنّها قرية منحوتة بالعجائب. هنا البيوت أيضًا مدهشة، خصوصًا “البيت الأبيض” الذي حلم به ميشال ذات يوم فاشتغله بيديه ليكون تحفة هندسيّة ذات روحيّة دائريّة، وكأنّ البيت أسطوريّ في “قرية السنافر”.
كان من حظّي أنّني دخلت إلى ذلك البيت، ولمست جدرانه من الداخل، مثل جنين يركل بطن أمّه. آنذاك تذكّرت عمارة المهندس المصريّ حسن فتحي، وشعرتُ بأنّها امتداد فلسفيّ لمشروعه.
ميشال الأخ الأكبر
في مطلع سنيّ مراهقته، اشتغل ميشال كعامل متدرّب في مطبعة المعرض، متعرّفًا إلى عمليّة مزج الألوان، ومعدًّا للإعلانات السينمائيّة، بإشراف فنّان إيطاليّ. أمّا دراسته فكانت في أكّاديميّة “لاغراند شوميير” حيث تتلمذ على يدي أوسيب زاد كين (فنّان بيلاروسي- فرنسيّ، بارز في مدرسة باريس) ثمّ عاد إلى لبنان ليدرّس في دائرة الفنون الجميلة في الجامعة الأميركيّة. وقد دعته جمعيّة الفنّانين اليابانيّين للمشاركة في أحد معارضها في المتحف الملكيّ في العاصمة طوكيو، وكان ذلك في العام 1973، لتكون منحوتاته معرضًا جوّالًا في أميركا على مدى ثلاث سنوات، من 1973 حتّى 1975.
ألفريد ويوسف
استكمل ألفريد ويوسف مسيرة شقيقهما الأكبر، الذي وضعهما على سكّة النحت، حين كان ينجز نموذجًا مصغّرًا من تمثاله، ثمّ يشتغلان على تنفيذة بالحجر. كانت فرصة ليجد كلّ منهما هويّته، وهكذا أخذ كلّ واحد منهما طريقه الفنّيّ، ولو التقى الثلاثة في القالب التجريديّ.
لكنّ يوسف تفرّد بروحه الفطريّة التي انتجت فنًّا نحتيًّا مغايرًا، كونه لم يمرّ على أيّ أكّاديميّة، فأعطى الحجر بساطته. وأذكر أنّه تجنّب الحديث معي أمام الكاميرا، فلا يريد أن ينظّر عن الفن، ولا أن يشرح ما يشتغله، فهو “وجه الغريزة النقيّ” كما يصفه النقّاد.
هكذا شاءت الأقدار ان تحصل انزياحات بسيطة، ودؤوبة في ازميل المعمرجي، ومطرقته، لتبلغ أعلى مراتب الحداثة، حيث عرضت أعماله في بلدان عديدة، بل في احدى المرات كان “بروشور” المعرض يشير إلى صالتين، احداهما لأعمال يوسف، والثانية لأعمال بيكاسو، الفنان الاسباني الأشهر.
نحت الأبناء
لم ينتهِ المشروع النحتيّ في راشانا برحيل فرسان النحت الثلاثة، بل انتقلت شعلة الإزميل إلى الأبناء: أناشار ونبيل وسمير وموهوبين كثر في العائلة. فاليوم يتميّز أناشار بأسلوبه الخاص، بحيث أنّ الأشكال الدائريّة المتّصلة، المشغولة بالحجر أو الخشب أو المعدن مهمّة صعبة لخلق مساحة بين تجارب الأهل والأبناء، لكنّ ابن ميشال والشاعرة تيريز عوّاد بصبوص، عرف كيف يسلك طريقه وينسج فلسفته، هو الذي يحمل اسم بلدته راشانا مقلوبًا، فيكون النحت حاضرًا في الحرف أيضًا.
درس أناشار بصبوص هندسة البناء في لبنان، ثمّ ذهب إلى باريس كي يتعرّف إلى الموزاييك والفريسك والحفر على الخشب. كما أدخل الألوان على منحوتاته الأولى قبل أن تأخذ أعماله شكلها الحاليّ. يقول: “والدي انتقل من النحت إلى الهندسة بينما انتقلت أنا من الهندسة إلى النحت”.
بالنسبة لنبيل ابن يوسف، النحت يأخذ مسارات عديدة، تجريديّة أو كلاسيكيّة عندما تقتضي الحاجة. ذات مرّة زرت راشانا ووجدته يشتغل على نحت رأس رجل سبعينيّ، ليتبيّن أنّه أحد وكلاء السيّارات في لبنان، وكانت هذه المنحوتة في مقابل سيّارة لنبيل، الذي لا يفضّل هذا النوع من الأعمال، لكنه يندرج ضمن المهارة والقوّة التقنيّة.
عودة إلى التوهّج
بالنسبة إلى راشانا البلدة، هي تتبع قضاء البترون (محافظة الشمال)، بلدة صغيرة بسكّان لا يتجاوز عديدهم عشرات قليلة، بتفاوت بين الشتاء والصيف، بينما لا يتجاوز عدد منازلها الـ60، أمّا تجارتها فتقتصر على عدد قليل من الدكاكين الصغيرة ومعصرة زيتون ومزرعة دواجن، في حين تستقطب مدرستها تلامذة من البلدات المجاورة. تبعد راشانا عن بيروت 49 كيلومترًا، وترتفع عن سطح البحر 380 مترًا. تشرف على البحر القريب، فتجمع الروح الجبليّة والبحريّة في هواء واحد.
لقد استمرّ سمبوزيوم راشانا على مدى أحد عشر عامًا، لتكون حصيلته أكثر من مئة منحوتة معروضة في الهواء الطلق، بينما يتفاوت الاهتمام بها وبمحيطها الذي يتطلّب أكلافًا ليست قليلة.
لذلك يطمح الأبناء: أناشار وسمير ونبيل، إلى استكمال ذلك المهرجان النحتيّ وضخّ الروح فيه، وفي البلدة التي كانت تستضيف أيضًا أعمالًا مسرحيّة وأمسيات شعريّة في زمن التوهّج الثقافيّ والتمرّد الاجتماعيّ الذي دام سنوات، قبل أن تأتي الحرب اللبنانيّة وتلجم مئات المشاريع النهضويّة المشابهة.