“راعي العجّال” يحاكي ذاكرة القرى وحقولها

كثيرون لم يسمعوا بـ”راعي العجّال”، وتحديدًا أبناء المدن، لكن حتى أبناء القرى من الجيل الجديد لم يسمعوا بتلك التسمية أيضًا، باستثناء أولئك الذين عايشوا تلك المرحلة وهم الآن في ستينيّات العمر أو سبعينيّاته، حيث لا تزال صورة العجّال وراعيه راسخة ليس في ذاكرتهم فحسب، بل في براري القرى وحقولها التي كانت مراعٍ لقطيعه المشتمل على معظم مواشي الضيعة.

وعلى الرغم من أنّ شخصيّة راعي العجّال عادة ما تكون مميّزة وطريفة، إلّا أنّ لتلك الشخصية وظيفة ومكانة أفرزتها دورة الحياة الريفيّة ونمط الإنتاج فيها، حيث الزراعة وتربية المواشي عماد الاقتصاد في تلك الأزمنة الغابرة.

قضى التطوّر والحداثة اللذان زحفا إلى كل مفاصل الحياة في القرى على تلك الوظيفة وبالتالي على الشخصيّة، ولم نعد نعثر عليها سوى في الحكايا وطرائفها، تنتقل على الألسن من جيل إلى  جيل.

قطيع أبقار في بلدة سيناي
“راعي العجّال”

“راعي العجّال” أيّ راعي عجول وأبقار القرية بالأجرة، هو من رجال الضيعة، وهذه هي مهنته الوحيدة، فهو لا يعمل بالزراعة أو الفلاحة أو غيرها، ويتولّى رعي أبقار الغير، ممّن ليس لديهم الوقت الكافي لذلك، أو لا يمتلكون القدرة على هذا العمل، لما فيه من مشقّة، وما يحتاجه من خبرة وتفرّغ كلّيّ، وغالبًا ما يكون هؤلاء من مالكي الأبقار، ولكن لديهم أعمالًا أخرى يتفرّغون لها، من زراعة أو حراثة، أو أيّ عمل آخر خصوصًا من يمتلكون بضع بقرات تُعَدّ على الأصابع وبالتالي من غير المجدي التفرّغ لرعيها، وهذه حال معظم أهالي الضيعة، إذ من النادر أن يخلو بيت من بقرة أو اثنتين أو أكثر، أو ماعز أو أغنام، والتي كانت تشكّل حينذاك عماد الحياة وأساسيّاتها.

يتذكّر كبار السنّ في القرى، كيف كان يمرّ راعي العجّال صباحًا ومساءً مع أبقاره، مُحْدِثِين ذلك الضجيج المحبّب، حيث تختلط أصوات وقع قوائمها على الطرقات وخوارها، بصوت راعي العجّال وهو يُخاطبها بأصوات غريبة، وكلمات خاصّة، والعجيب أنّها كانت تستجيب له، فإذا قال لها مثلًا “خلا خلْف”، كانت ترجع إلى  الوراء، واذا قال لها “دِرِّءْ”، كانت تتجه إلى  مكان الشرب، وهكذا.

لم يكن يخلو الأمر من بعض الضرب الخفيف بالعصا، على ظهور البقرات المخالفة أو المعاندة، كما كان يسلّي نفسه بالمواويل والأغاني القرويّة، من دون أن يفوته إلقاء تحيّات الصباح والمساء، على كلّ من يلتقيه من الأهالي والفلّاحين الذاهبين إلى حقولهم، أو الجالسين على المصطبات أمام بيوتهم، فيمازحهم وأحيانًا يتبادل معهم أطراف الحديث، أو يتداولون سريعًا بعض أخبار وحكايات القرية. ولا ننسى أصوات الأجراس المعلّقة في رقاب البقرات ومشهد الخرزات الزرقاء التي كانت تقيها من “صيبة العين” في اعتقادات أناس ذلك الزمن ببراءتهم وبساطتهم.

يتذكّر كبار السنّ في القرى، كيف كان يمرّ راعي العجّال صباحًا ومساءً مع أبقاره، مُحْدِثِين ذلك الضجيج المحبّب، حيث تختلط أصوات وقع قوائمها على الطرقات وخوارها، بصوت راعي العجّال وهو يُخاطبها بأصوات غريبة

“راعي العجّال” قوّة وأمانة

القوّة البدنيّة هي التي كانت تميّز “راعي العجّال”، لكي يستطيع سَوق الأبقار في الأراضي الوعرة، والمنحدرات والجبال، وكان يتّصف أيضًا بالأمانة، لكي يؤمّنه الناس على أبقارهم ويكسب ثقتهم، إضافة إلى احتفاظه بسمعة حسنة على مرّ الأيّام، ناهيك بأن يكون نبيهًا ذكيًّا وصاحب خبرة، كي ينتبه إلى الأبقار ويُراعي متطلّبات مأكلها ومشربها خلال فترة الرعي، فضلًا عن حرصه على حمايتها ورعايتها، وعدم تعريضها للأخطار والأمراض، وهجمات الوحوش ولسعات الأفاعي، وكذلك من السرقة أو أن يضيع بعضها في غفلةٍ منه، أو تختلط مع أبقار الآخرين، لذلك فالمسؤوليّة الملقاة على عاتقه كانت كبيرة.

يروي آخر “راعي عجّال” ورث ذلك عن والده في بلدة دير سريان الجنوبيّة الحاج محمود خليل لوباني لـ”مناطق نت”: “كنت أحفظ في ذاكرتي كلّ بقرة لمن تعود من الأهالي، وفي أيّ يوم استلمتها، وكنت أجمع البقرات والعجول صباحًا من أمام المنازل أو من “الزريبة” أو “الصيرة”، حيث تبيت الأبقار أو يأتي بها أصحابها إلى  ساحة البلدة، أو يُلاقونني بها، حيث أمرّ صباحًا بمحاذاة بيوتهم، فأقوم برعيها ثمّ أعود بها “فتحوِّل” كل بقرة إلى  بيت صاحبها لوحدها، فالمواشي إجمالًا تعرف طريقها إلى  مكان مبيتها لوحدها”. ويردف: “كان بعض مالكي الأبقار ليس لديهم مكان لمبيتها، فهؤلاء كنت أبيّت أبقارهم في “الصيرة” خاصّتي ومع أبقاري، وكان يصل عدد تلك الأبقار في بعض الأحيان إلى  المئات، لأنّ قليلًا مَن من القرويين كان لا يمتلك بقرة أو اثنتين أو أكثر في تلك الأيام”.

أبو علي لوباني آخر راعي عجّال في بلدة دير سريان

يتابع لوباني: “إنّ راعي العجّال عادةً لا يمتلك أبقارًا خاصّةً به، أمّا أنا شخصيًّا فقد كنت أمتلك بعضًا منها، ولكنّني لم أكن أميّز بقراتي عن بقيّة البقرات، وإلّا انطبق عليّ المثل (شربت حنجولة ردّوا العجّال)”؛ و”حنجولة” ترمز إلى البقرة المدلّلة عند راعي العجّال وهي إمّا تكون ملكًا له وإمّا مالكها من متنفّذي القرية أو أغنيائها.

مصاعب وعادات

ويُضيف لوباني أنّه “إذا نفقت إحدى البقرات وهي مع راعي العجّال فعليه أن يُعيدها قبل مغيب الشمس، وإلّا تحمّل دفع ثمنها، ويجب أن يُبيّن السبب. وفي حال أصابها مرض أو وقعت خلال الرعي وصعب شفاؤها، كان أصحابها يذبحونها ويوزّعون لحمها على بقيّة الأهالي، وهؤلاء بدورهم يدفعون ما تيسّر كمساعدة لمالكها وتعويض عن خسارته”.

ويُشير أبو علي إلى أنّ المشاكل التي كانت تواجهه، “هي بعض شكاوى أصحاب الأبقار من مرض إحدى البقرات، أو ضعفها، أو قلّة حليبها”، لذلك كان حريصًا على أن يتفقّد كلّ بقرة قبل استلامها. وإذا ما ولّدت إحدى البقرات عنده أو خلال الرعي فإنّ العجل المولود يكون لصاحبها، وكذلك ليس له حصّة من الحليب، إلّا من تلك الابقار التي تبيت عنده ويحلبها بنفسه، عندها يحقّ له نصف ما تنتجه من حليب.

وعن البدل الذي كان يتقاضاه “راعي العجّال” يقول أبو علي: “إنّه غالبًا ما يكون مقدارًا من القمح أو غيره من الحبوب أو أيّ نوع من أنواع المؤونة كالتين أو العنب وغيره، وفي حالات أخرى يمكن أن تكون ثيابًا أو ما شابه، ونادرًا ما كان يتلقّى راعي العجّال المال.

شكاوى

“من أكثر المشاكل التي كانت تواجه راعي العجّال هي شكاوى بعض أصحاب الحقول المزروعة ممّن كانوا يشتكون إلى المختار أو الناطور بأنّ الأبقار رعت في أرضهم وأتلفت زرعهم”، هذا ما يقوله أبو علي ويتابع: “هذه كانت من أكثر مشاكل الرعي في ذلك الزمن، وكثيرًا ما تطوّرت إلى  شكوى رسميّة في أقرب مخفر، وربّما تصل إلى  القضاء الشرعيّ (أي الدينيّ) أو الرسمي”.

وكم كان يُعاني راعي العجّال إذا شردت منه بقرة، أو هربت خوفًا من شيء ما صادفها، فيلحق بها ويعيدها بعد أن يجري خلفها مسافات في الحقول الوعرة، فتتعبه وتنهكه قبل أن يصل إليها.

كلّ ذلك أصبح من الذكريات بعدما تطوّرت القرى وقلّ اقتناء الأبقار والمواشي عمومًا، ومن بقي لديه بعض الأبقار، صار يرعاها بنفسه وحول منزله، ويعتمد في غذائها على العلف أكثر من الرعي. لقد حلّت المزارع الكبرى الحديثة مكان الزرائب البسيطة التي كانت في الماضي موجودة بجانب كلّ بيت تقريبًا، وبعض البيوت كان أصحابها يتقاسمون الغرف مع تلك الأبقار في نمط حياة بسيط ومتواضع ومتآلف مع البيئة والطبيعة، وكان الفلّاح يمتلك وسائل عيشه وغذائه حتّى قيل “فلّاح مكفي سلطان مخفي”…

ذهبت تلك البساطة أدراج الريح واختفت معالم القرى تدريجًا مع تطوّر الحياة، ومعها اختفى راعي العجّال وصارت قصصه وحكاياته من الذاكرة الغابرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى