رحيل حسن سامي يوسف تاركًا “أشياء تشبهنا”
عن عمر ناهز الـ79 عامًا، غادر الكاتب والسيناريست الفلسطينيّ السوريّ حسن سامي يوسف هذا العالم على غفلة صبيحة الجمعة الفائت، ليوارى الثرى في مقبرة “مخيّم اليرموك الجديدة”، ملتزمًا بوعده الذي قطعه على نفسه، وقطعه علينا، بألّا يكتب أو ينتج أعمالًا تلفزيونيّة لا تشبه واقع هذه البلاد، ولا تعبّر عنها، حتّى لو أصبح عاطلًا من العمل، بعد غياب سنوات طويلة عن الشاشة.
ترك الأستاذ حسن، المولود في قرية “لوبيا” في فلسطين المحتلة، وعاش في سوريّا معظم سنوات حياته، أعمالًا فنّيّة في عالم الروايات والمسلسلات، يمكن لمن لم يسبق له الاطّلاع عليها، العودة إليها الآن، كي يرى بنفسه ما الذي كان يعنيه حسن يوسف بقوله: “أشياء تشبهنا”، وليستشفّ من خلال عينيه الواقع الذي نعيشه، الواقع الذي باتت تظهره على استحياءٍ الأعمال الدراميّة الحديثة، وفي كثيرٍ من الأحيان تنكره، وتنقلنا من بيت العائلة الذي دمّرته الحرب، إلى “كمباوند” (تجمّع) يشتري فيه البشر ويبيعون إخوتهم، ومن الحبّ المقهور بالاستحالة، إلى رومانسيّة هشّة ومصطنعة، وحكايا أقرب منها إلى الخيال.
رحل حسن سامي يوسف محمّلًا بصرخةٍ لم يصرخها بلوعة الطفل الفلسطينيّ المتروك وحيدًا، وبأسى شعبه الذي يتألّم اليوم ألمًا يعرفه، يألفه هو حينما جاع صغيرًا، حينما هُجّر من بيته، حينما عاش بين النيران في بيروت مرّةً، وفي مخيم اليرموك قبل أن يغادره إلى دمشق أثناء الحرب السوريّة، رحل عن عالمٍ لم يكن يزداد إلّا وقاحةً، وعن واقعٍ تمنّاه كذبةً، وعن مشهدٍ يكثر فيه الموت، ويتكثّف، ويأخذ أشكالًا عديدة. رحل بقلبٍ فلسطينيّ سوريّ عربيّ مفطور، من دون أن يتحقّق حلمه برؤية غدٍ أكثر رحمةً وأقلّ قسوة، ودون عملٍ أخير، يشبه واقع بلادنا، نشاهده فنتذكّر، أن كثيرًا ممّا نراه اليوم على الشاشات، لا يشبهنا.
من زرع الخراب وحصده؟
من قلب دمشق، ينظر “عروة” الذي ألبسه حسن يوسف شيئًا من سيرته الذاتيّة في مسلسل “الندم”، المقتبس عن رواية “عتبة الألم” (حسن سامي يوسف 2022) إلى الخراب الذي بات يعمّها، إلى وجوه الناس المتعبة، إلى الفقراء والمتسوّلين، إلى السحب الدخانيّة والأبنية المدمّرة بعد خمس سنوات من الحرب السوريّة ويسأل: “إلى أين وصلنا يا الله، ماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كله؟”.
ما زال هذا السؤال، أو التساؤل الذي طرحه حسن يوسف منذ ثمانية أعوامٍ، يتردّد إلى أذهاننا كلّما نظرنا نحن أيضًا إلى البلاد من حولنا، ورأينا هذا الخراب كلّه، فيأتي من بعده جوابٌ واحد: أيًّا كان ما زرعناه، وأيًّا كان من زرعه، فلا فائدة من الندم، ولا ضرورة له، الحياة ستمضي على رغم كلّ شيء، حتّى في ضياع البلاد، في خسارة الأحبّة، في موت العائلة، لا بدّ من المواصلة فوق كلّ شيء، لأنّ النظر إلى الوراء لن يستجلب إلّا الخيبة.
رحل حسن سامي يوسف محمّلًا بصرخةٍ لم يصرخها بلوعة الطفل الفلسطينيّ المتروك وحيدًا، وبأسى شعبه الذي يتألّم اليوم ألمًا يعرفه، يألفه هو حينما جاع صغيرًا، حينما هُجّر من بيته
خرج ما كتبه حسن يوسف عن حدود الزمان والمكان، على رغم حرصه أن تكون أعماله أسيرة اللحظة والواقع، ليس لأنّه طرح مفاهيم فضفاضة، بل لأنّ بلادنا تبدو كأنّها منذورةٌ دائمًا للحرب والخراب، إن لم يكن هنا فهناك، وإن لم يكن هناك فهنا، ولا بدّ في نهاية الأمر أن نبحث عن زارعيه، وأن نشير إليهم بالإصبع، وأن نعيش حياتنا محاطين به، دون أن نسمح له بأن يتسلّل إلى قلوبنا، وأن يملأها شرًّا، وعلينا قدر ما استطعنا، أن نندفع أكثر نحو إنسانيّتنا، التي ستساعدنا على تجاوزه، واجتثاثه من جذوره المغروسة عميقًا فينا وفيها.
عن الوحوش والمغفرة
قبل “عروة وهناء” والحبّ الذي استدرجه الموت نحو الهاوية، والحرب التي غيرت ملامح البلاد وسكّانها وقصصهم، كتب الأستاذ حسن عن “الحبّ والفراق”، وأخرج الراحل حاتم علي هذه الرواية لتصير “الغفران” في 2011، إذ يحكي عن إرتباطٍ عاطفيّ وروحيّ عاش لسنوات طويلة، انتقل فيها الحبيبان من محطّة إلى محطّة، قريبين ومتباعدين، بحثًا عن تتويجه كقصّة حبّ مكتملة الفصول، لكنّها في النهاية تعثّرت بظروف قاهرة ومستحيلة، وبخيانة مجحفة، حوّلتها إلى حكاية عن الفراق الذي لم يتجاوزه أيّهما، لكنّه كان الحتميّة التي لا مفرّ منها.
في هذا العمل طرح حسن سامي يوسف إشكاليّة كبرى “هل تبرّر ظروف الناس القاسية والسيّئة تحوّلهم إلى وحوش؟” ورد عليها في الوقت نفسه، كلّا، لا تبرّر، ولا تسمح، وإن ساد هذا العرف فحياة معظم الناس في بلادنا قاسية وفجّة، وإنّنا بهذا نشرع في تحوّل مدننا وأحيائنا وشوارعنا إلى غابات متفرّقة، لكلّ وحشٍ فيها فريسته.
على الدرب التي تشبهنا
هذه الظروف الكائنة خارج الحرب أقلّ ضآلة ممّا هي عليه داخلها، جابهها الأستاذ حسن بالإنسانيّة أيضًا، وبالتعقّل في النظر إليها والعفو عمّن لا يجيدون الانسلاخ عنها، العفو السمح الذي لا يعني بالضرورة عودةً إلى ما كان، فأمجد الذي أحبّ عزّة وخانت حبّه، لم يفتح لها ذراعيه لترجع، لكنّه تركها للحياة التي اختارتها بالأصل، وبرّرت بها خيانتها له، وتحطيم جبال الثقة بينهما.
تمسّك حسن سامي يوسف حتّى الأمس القريب بالإنسانيّة في وجه الشرّ، وبالحبّ في وجه الظلم، وبالحياة كنقيضٍ للموت، بكلماته وأعماله وأفعاله، ورحل عن هذا العالم معلّمًا كبيرًا، لتلامذته ممّن يريدون استكمال هذه الدرب التي ما زاح عنها، ولمن يبحثون في الشاشات والكتب والقلوب، عن أشياء تشبهنا.