رحيل زياد الرحباني.. الوطن إذا ما مات

يتباهى الأوروبّيّون بفلاسفةٍ رسموا طريقًا لأوروبّا الحديثة. أمّا شرقنا فكان فلاسفته يلوكون أفكارًا أنتجها أسلافهم الأوروبّيّون، ومع ذلك حارب هذا الشرق فلاسفته، واضطهدهم باسم الدين والمجتمع. ومن ينسى ابن رشد الذي أحرق المنصور أبو يوسف يعقوب كُتبَه مُتّهمًا إيّاه بالكفر والزندقة.

أمّا في لبنان، فكانت فلسفة من نوعٍ آخر. إذ كسر عاصي الرحباني، فلسفة الطرب الأصيل الذي تربّعت على عرشِهِ أمّ كلثوم، وكرّست من خلاله الثقافة السمعيّة، حيث يجتمع الناس في المقاهي حول المذياع، ليطلقوا “الآااه” عند سماعهم الأغاني. لعب عاصي على مدّة الأغنية الطربيّة، ليعلن بأنّ الطرب يمكنه مرافقة الناس خلال عملهم اليوميّ وفي كلّ الأوقات.

وما قاله “زياد” ذات مرّة: “فيروز ليست للصباح فقط، فهي ليست فنجان قهوة”.

معياريّة الطرب

من هنا فإنّ معياريّة الطرب، لا علاقة لها بالمدّة الزمنيّة للأغنية. حيث بإمكان الناس أن تستمع لطربٍ دون الجلوس في المقهى مع “الأرغيلة” وفنجان قهوة. الطرب يرافق آذان الناس أثناء نشاطهم اليوميّ، ولا يدعوهم للتكاسل!

على الرغم من ذلك خلع زياد الرحباني الابن العبقريّ لعاصي وفيروز العباءة الرحبانيّة، ولم يكن رفضُه هذا اعتباطيًّا، فهو ليس الابن العاق الذي يخرج عن طوع والديه. انقلابه الفنّي كان باستخدام لغة فنّيّة راقية، انتقد فيها امبراطوريّة عاصي، وكان ذلك بعمر مبكّر من خلال عمله المسرحيّ الأوّل “سهريّة” الذي عُرض في العام 1973.

لعبِ صديقه جوزيف صقر دورًا أساسًا في هذه الانتفاضة الزياديّة، فجسّد صقر، صاحب الصوت الرخيم، شخصيّة الفنّان الذي يجري مسابقة لاكتشاف الصوت الأجمل، في قهوة نخلة التنّين، لكنّه تصرّف عكس ذلك. فطرد مروان محفوظ عند سماع صوته الجميل الذي اكتشفه، ليبعد منافسًا قويًّا عن العرش الطربيّ. ولم تكن هذه المسرحيّة نتيجة عقدة نقص، بل نقد لشخصيّة والده عاصي الذي حطّم كثيرًا من الأصوات التي بدأت من مسرح الرحابنة، على حساب بناء صوت فيروز.

استشراف فنّيّ

في مسرحيّة “سهريّة” استشرف زياد لما هو مقبل على الفنّ في المستقبل، فكانت المسرحيّة بمثابة نقد للواقع الفنّي الذي بدأ مع برامج تلفزيونيّة في ما بعد (سوبّر ستار وغيره) تستضيف هواة لتغنّي أمام لجنة حكم، غالبًا ما يكون التحكيم فيها خاضعًا لمعياريّة قريبة من المصالح الشخصيّة. بالإضافة إلى أنّ الهواة غالبًا ما كانوا يملكون أصواتًا أجمل من أصوات أعضاء اللجنة.

بعد “سهريّة” انتقل الموسيقيّ العبقريّ الذي لحّن “سألوني الناس” في السابعة عشرة من عمره، إلى تفريغ طاقته الإبداعيّة الموسيقيّة على خشبة المسرح. عمل على إنزال غيمة الوطن الرحبانيّ إلى الشارع، فكانت مسرحيّة “نزل السرور” العام 1974، حيث يجتمع في الفندق نفسه: المدمن الذي يعتمد على المراهنة في سباق الخيل لكسب المال، مع المُثقّف الثوريّ المُنظِّر، والراقصة وأمّها صاحبة النزل، ليدخل عليهم فهد وعبّاس، مستغلّيَن الإضرابات لإعلان الثورة، فإمّا أن يكونوا مع الثورة أو يُقتلون جميعًا..

مسرحية نزل السرور

سخرية زياد عميقة، تعتمد على مقاربة تحليل نفس- اجتماعيّ ليقفز فوق البروبّاغندا الثوريّة التي تستهلكها الأحزاب اليساريّة كشعارات للتغيير، كي يعرّي الثوريّ والمدمن وعامّة الناس، ويعيدهم إلى استسلامهم إلى حاجاتهم الفيزلوجيّة، فينام الثوريّ مع الرقّاصة، ويتزوّجها، وتُصاب الناس بالخوف من فهد وعبّاس ويقتنعون بتأجيل الثورة، ليهرب الجميع من النزل، فيبقى المُدمن وحيدًا حالمًا بمستقبل أفضل لأولاده.

كانت “نزل السرور”، بمثابة التفاتة لواقع سياسيّ مريض. اليسارُ الثوريّ الذي اشتهر بمعارضة أشبه بالجعجعة دون طحين.. إلى الآن.

بالنسبة لبكرا شو؟

بعد موضة الثورة، يذهب زياد إلى الوضع الاقتصاديّ الاجتماعيّ في مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟” حيثُ تضطرّ ثريّا زوجة زكريّا إلى بيع جسدها للزبائن من أثرياء وخليجيّين، فقط لأجل لقمة العيش. تتجلّى قمّة المرارة في الكوميديا السوداء تلك، عندما صارحت ثريّا زكريّا بعد أن كان يطلب منها أن تتوقّف عن هذا الأمر، أنّ أحد الزبائن لا يريدها، بل سألها عنه هو!

شرّح زياد من خلال هذا العمل، الظواهر الاجتماعيّة المغلّفة بالمعاناة الاقتصاديّة، وليس أبلغ من ذلك حين عُرِضَ على زكريّا عقد عمل في الخليج في مطعم “بيبرم”، فسأله لمسيو أنطوان “إلك علم كم برمة بيبرم المطعم بالنهار؟ السؤال أشبه بالطير الذي يُذبح “فيرقص من شدّة الألم”.

قرأ زياد الموسيقيّ سياسةَ لبنان، على الرغم من أنّه موسيقيّ الهوى كما يقول، وهو ليس مسرحيًّا، لكنّ المسرح بالنسبة إليه هو وسيلته التي تحمل موسيقى يودّ إيصالها إلى الناس، فالناس لا تسمع موسيقى دون كلام. وهذا ما يزعجه. لذا لجأ إلى المسرح كغطاء يبدع من خلالها في الموسيقى. وقد استعان بأصوات جميلة مثل جورجيت صايغ وجوزيف صقر وسامي حوّاط ومروان محفوظ وغيرهم.

في عمليه المسرحيين الأخيرين “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، و”لولا فسحة الأمل”، طرح زياد ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، الغائبة التي تظهر حين لا حاجة لها

لو أنّ جنون ارتفاع الدولار بدأ في نهاية السبعينيّات، لدَخل بالتأكيد، كعنصر مساعد كي يوضح فداحة الأزمة التي تنبّأ بها زياد في مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟” سنة 1978، فقد وصلت المعاناة اللبنانيّة في حينه، إلى أن تبيع النساء أجسادها مقابل العيش الذي من المُفترض أن يكون كريمًا.. ولكن!!

فيلم أميركيّ طويل

وكان الفيلم الأميركيّ طويلًا (1980)، حين كانت الطائفيّة عنوانًا للحرب الأهليّة التي بدأت (رسميًّا) في العام 1975، وما زالت مستمرّة. جمع زياد الطوائف “المجنونة”، واختصر كلّ طائفة بشخص يمثّل هواجسها، فالأرمنيّ طلب الهجرة إلى كندا، والمسيحيّ لم يتخطَّ خوفه من محمود، فهو لا يرى الإسلام إلاّ محمودات. وهاني يسير ويتوقّع حدوث أيّ شيء، ولا يمرّ إلاّ إذا أَذِنَ له أحدهم بالمرور كما في الحواجز العسكريّة. ويحاول “نزار” الناشط السياسيّ اليساريّ أن يفتح نقاشًا مع الدكتور الجامعيّ “عبد” الذي يحاول كشف الحقيقة من خلال محادثاته مع الآخرين، وهو ينوي فضح الحقائق في كتاب سيصدره، لكنّ لا يعلم ماذا يكتب فيه!

تبقى المؤامرة أميركيّة، كما أنّها فيلم أميركي طويل، طرح زياد حلّه من خلال نبتة الحشيشة التي يخافها اللبنانيّون حتّى في استخدامها كعنصر مساعد في تركيب الأدوية. “أبو ليلى”، المواطن الذي “يحشّش” حتّى يفقد الوعي عن الحالة الطائفيّة، يقترح على المتنازعين اعتماد الحشيشة كحالة تجمع اللبنانيّين الطائفيّين، ليقول إنّ الحشيشة تجمع الطوائف، كي يكونوا إخوة!!

“شي فاشل”

شي فاشل التي عُرضت العام 1983 اختصر فيها زياد المجتمع اللبنانيّ في مجموعة ممثّلين، يقودهم مخرج “نور” الذي يحاول العمل معهم لإنتاج مسرحيّة تعوّق إنجازها “الطائفيّة” فيكون عمله تحت عنوان “شي فاشل”. والمفارقة التي أُفصح عنها بعد وفاة زياد أنّ الطائفيّة كانت حقيقيّة بين المُمثّلين. كان ابن الغربيّة لا يذهب إلى الشرقيّة والعكس صحيح. الشرقيّة هي الجزء المسيحيّ، والغربيّة للمسلمين! ليقول في نهاية المسرحيّة على لسان “زياد أبوعبسي” إنّ العالم “نبشوا” المرّيخ، “ونحنا عم ننبّش مين لحّن الدلعونا”.

أمّا المسرحيّتان الأخريان، وقد شاهدتهما أكثر من مرّة، ومع ذلك لا أذكر إلاّ مشاهد من الواقع المُعاش. وهذان العملان “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” 1993، و”لولا فسحة الأمل” ،” ربّما لا ينتميان إلى المسرح التقليديّ، ولا أعلم إن كان باستطاعتي أن أقول إن هذا المسرح تجريبي؟ فالمسرح التجريبي مشاهد يربطها واقع واحد، لكن هنا في الواقع اللبنانيّ، فالواقع مُتعدّد، ولا يمكن أن يكون واحدًا.

زياد الذي مات

فكما قال “رشيد” في “فيلم أميركي طويل” عن الطائفيّة: ” 19 واحد، أي هودي مش 19 واحد، هودي واحد وواحد وواحد…” ليقول “أبو ليلى” بعد الحشيشة: تخيّل إنّو 19 طائفة وكلّ طايفة طايفة عالتانية!.

في عمليه المسرحيين الأخيرين “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، و”لولا فسحة الأمل”، طرح زياد ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، الغائبة التي تظهر حين لا حاجة لها. ليختم العملين بمشهد العودة إلى العصر الحجريّ، وهو عبارة عن ناس ترتدي فرو الحيوانات، ليتصرّفوا كالحيوانات تجاه بعضهم البعض.

زياد الذي مات فعلًا، أعلن موت الوطن سريريًّا، بمرض الطائفيّة والفساد والنصب والسرقة. في وقتٍ وُجدَ رئيسان للجمهوريّة والحكومة (بقدرة خارج)، وورقة اعتماد الرئيسين كانت استبدال اسم أحد الشوارع من “الطاغية” حافظ الأسد، إلى زياد الرحباني، أتمنّى أن يكون “شارِع” بكلّ شي، وليس “سكوت وما تْشَارِع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى