رسالة إلى زينب… من قتَلَ زينب زعيتر؟
في قصته القصيرة : “الشيء الآخر، أو من قتل ليلى الحايك؟” يُرسل “غسان كنفاني”، أو المحامي “صالح” كما هو مذكورٌ في السيناريو، رسالة إلى زوجته “ديما” يتناول فيها الوقائع التي سبقت وتلت الجريمة التي حُكم فيها على صالح بالإعدام بتهمة قتل حبيبته “ليلى”، ويحكي فيها عن علاقته بـ “ليلى” وكيف أن القاتل أكبر منه، هو تسلسل أحداث غير منطقي أنهى حياة ليلى دون ذنب منها، وبذنب من الجميع.
حين قرأت الكتاب للمرة الأولى، حاصرني السؤال لأيام عديدة، فأعدت قراءته مرةً أخرى، علني أجد بين السطور تلميحًا لهوية القاتل، أو دافعٍ منطقي لقتل امرأة لا ذنب لها سوى أنها أرادت من الحياة أكثر مما أعطتها، لكنني وللأسف، خرجت من محاولتي هذه خالية الوفاض، وأكثر حيرة ربما.
على عكس صالح البريء من دم ليلى، في الـ 24 من آذار الماضي، أقدم المدعو “حسن موسى زعيتر” على قتل زوجته “زينب زعيتر”، البالغة من العمر 28 عامًا بعشر رصاصات أطلقها مباشرة على رأسها وجسدها، أمام أعين أطفالها الثلاثة، وفرّ إلى جهة مجهولة، تاركًا الضحية جثة هامدة في غرفتها. أما الأسباب، فلا معنى ولا قيمة لها أمام هذه الجريمة المروّعة، خصوصًا أننا في مجتمع بات فريسة للشائعات والأخبار الزائفة على مدار الساعة.
عقب الجريمة، انتشر مقطعان مصوّران لشقيق الضحية، الأول وهو يبكي منهارًا على قبرها، متوّعدًا بالثأر لموتها، والثاني بعد ساعات عدة، وهو يفتح المقهى الخاص بالقاتل ويؤكد على طيب العلاقات بينهما، وبأنه كان سيقوم بالمثل لولا أن القاتل سبقه إلى ذلك، وبأن “عار العائلة” قد غُسل، في ظل مباركات وتهليلات من الحاضرين.
خرجت بعض الأقاويل التي تدّعي أن المقطع الثاني إنما هو حيلة للإيقاع بالقاتل واستدارجه للعودة إلى المنطقة الخارجة بمعظمعها عن سلطة الدولة، والانتقام منه، لكن من معرفتي العميقة ببعض الأعراف العشائرية، وما سمعته عن جرائم قتل كانت ضحيتها الأولى فتاة أو امرأة، وضعت – بقصد أو غير قصد – إصبعها على الذكورية المتأصلة في بعض الذكورية المتأصلة في بعض بيئاتنا الاجتماعية وفجرتها، فتحولت إلى رصاصة إستقرت في صدرها. لا يمكنني القول بأن هذا المقطع حقيقةً كان أو فخًا، بعيدٌ أيما بُعد عن الثقافة السائدة لدى بعض شرائح محددة في البقاع، وأيضاً في مناطق أخرى في لبنان وعالمنا العربي.
قبل انتشار المقطع الثاني، كان المجرم واحدًا. بعد انتشاره صار المجرمون كُثراً وقد أكون بطريقة أو بأخرى واحدة منهم. لذا على غرار السؤال الذي لم أجد له جوابًا بعد، سأطرح على الجميع سؤالًا لا بد من الإجابة عليه، عاجلًا لا أجلًا، لأن نصف الحل في العثور على الأجوبة، والنصف الآخر بالقتال من أجله.
سأطرح على الجميع سؤالًا لا بد من الإجابة عليه، عاجلًا لا أجلًا، لأن نصف الحل في العثور على الأجوبة، والنصف الآخر بالقتال من أجله
من قتل زينب زعيتر؟
وقد يجوز في هذه المرة، احترامًا للدم الذي سال ظلمًا، أن نسأل الضحية نفسها، من الذي قتل “زينب”؟
أهو زوجك الذي تعاهدتما على إكمال العمر سويًا، فقتلك وفرّ هاربًا من دمك على الجدران، أم شقيقك الذي بكاكِ ساعة وهلّل لموتك ساعات؟ أم الجموع التي وقفت فوق رحيلك مباركةً لغسل العار الذي اخترعوه وقولبوه وشكّلوه على أهوائهم، ليدفنوا بحجته النساء ويكتموا على أنفاسهن، أم قتلتك أعراف بالية عفنة تحلل سفك الدماء المأنّثة متى ما مسّت ماء رجل من غير حِلّها، أكان بنظرة أو صورة أو قبلة لا فرق. أم بلادك بقوانينها وعتادها الذي يعجز عن القبض على قتلة النساء ومعاقبتهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم، ويلتمسون لهم ألف عذر.
في الثالثة عشرة من عمرك، حينما كنتِ طفلة تلعبين، وحملوكِ إلى منزله زوجةً صالحة، ومربّية تغسل المواعين وشعر دميتها بالمسحوق ذاته، هل فكرتِ لثانية أنك ستشعرين بحرارة رصاصاته، قبل أن تدركي أكان المسدس في يده حقيقة أم لعبة؟ هل تهيّأ لكِ أنك ستُحملين في نعش ومِن حولك شقيقكِ، وجاركم الذي تلقِين عليه التحيّة كل يوم، وفلان الذي عرفتيه صديقًا للعائلة، وعشرة رجال آخرون يتباركون على قتلك ويتباهون بواحد منهم، تزوجّك طفلة وقتلك أم لثلاثة أطفال. ويتبادلون الفخر بالموت والوحشية والثأر.
من تلومين؟ تقاليد وأعراف لم تدوّنها الكتب والدّساتير، لكنها كُتبت بدماء النساء منذ سنين طويلة، وعجزت كلّ معالم الحضارة الّتي غزت البلاد، عن إلغائها في هذه البقعة المنسية من الأرض، أم دولتك التي حذفت مصطلح “جريمة الشرف” من قوانينها وأحكامها وتركتها أعذاراً مخفّفة، وتركت أيضاً أجزاءً من أرضها في الظل، سمّوا عاصمتها بمدينة الشمس، وحرموها النور، حرموا أبناءها خيراتهم، أباحوا دمهم على الحواجز، على الطرقات. كان لا بد لهم أن يبذلوا الكثير في سبيل ان يتلقفوا العلم، كان عليهم أن يثأروا لأنفسهم فتلوّثوا بالدم، وقست قلوبهم. أم تلوميننا جميعًا، لأننا صمتنا سنوات طويلة، ولم نرفع الصوت بما فيه الكفاية، لأننا لم نثر بوجه التقاليد والأعراف الوحشية، لأننا لم نمت معك بالرصاصة ذاتها.
من تلومين؟ تقاليد وأعراف لم تدوّنها الكتب والدّساتير، أم دولتك التي حذفت مصطلح “جريمة الشرف” من قوانينها وأحكامها وتركتها أعذاراً مخفّفة، أم تلوميننا جميعًا، لأننا صمتنا سنوات طويلة، ولم نرفع الصوت بما فيه الكفاية، لأننا لم نثر بوجه التقاليد والأعراف الوحشية، لأننا لم نمت معك بالرصاصة ذاتها
من تلومين؟ سمِّ من شئت وما شئت، فربما يجدر بنا أن نحمل على أعناقنا هذا الدم الذي عجزنا عن حفظه، ربما نستحق أن نُتَّهم بالقتل لنستيقظ من صمتنا، لنقول كلامًا يليق بحجم خساراتنا، خساراتنا التي امتدّت منذ الأزل، خساراتنا التي ظلت طيّ الكتمان، وتداولَها الناس بصوتٍ خافت، بتلميحات، وتأويلات، و”هكذا قيل وهكذا سمعنا”، خوفًا من الترهيب، من الألسن التي ستمتدّ إلينا، من البنادق التي قد تقتلنا إن صرخنا أو غضبنا.
من القاتل يا زينب؟ ومن الضحايا المؤجلون؟ هل بات علينا أن نخاف أكثر، أم نقف بصلابة أكبر أمام الخناجر المرفوعة على رقابنا وأجسادنا ومشاعرنا وهواتفنا؟ كيف نُعاقب نحن ونحاسب لأجلكِ، لأجل من سبقكِ، وقد يأتي بعدك، دون أن نشابه قاتلك، دون أن نصبح لفرط غضبنا، وما نحمله من حقد مستحق، مجرمين.
على عكس “صالح” الذي تمنّى على لسانه أن يخرس في رحلته نحو الموت، أتمنى اليوم أن لا نصمت، أن لا نتوقف عن كتابة رحلة النساء القاسية نحو الظلم والموت والحرمان، كي لا يصير اعتياديًا، أو حدثًا عابرًا ننساه في زحمة همومنا اليومية. وعلى عكس حَيرتي الأولى والثانية مع موت ليلى، أجد اليوم أنّ الكلّ متّهم بقتل زينب، وأنني أحتاج إلى أكثر من أصابعي العشرة وحدها، لأوجهها إلى الجناة واحدًا واحدًا، لكنني سأكتفي بها، وسأترك واحدًا لنفسي، لأنني ربما لم أقل من قبل، أن الهواء، حتّى الهواء، مشبّعٌ بالموت في هذه البلاد.