رغم الحملات الأمنيّة تستمر المعابر غير الشرعيّة “خمس نجوم”

منذ شهر نيسان (إبريل) الماضي، تاريخ اغتيال القياديّ في القوّات اللبنانيّة باسكال مشعلاني، ارتفعت حملات التحريض ضدّ اللاجئين السوريّين بشكل غير مسبوق، وعلى الرغم من أنّها ترتفع حينًا وتنخفض أحيانًا أخرى، إلّا أنّها ثابتة في سرديّتها لناحية خطاب الكراهيّة الذي يحمّل السوريّين مسؤوليّة الأزمات الأمنيّة والاقتصاديّة المتلاحقة.

لكن بموازاة ذلك لا تزال السلطة اللبنانيّة حتّى الآن، تتعامل مع ملف اللجوء بكثير من الضبابيّة، وسط غياب أيّ خطّة فعليّة، تسعى إلى تنظيم هذا اللجوء، الذي يُستخدم في معظم الأحيان كشمّاعة “غبّ الطلب” لتبرير الفشل في سياسات لا علاقة للاجئين بها.

ولعلّ أبرز التحدّيات التي تواجه هذا الملف وتزيده تعقيدًا، تتمثّل بالمعابر غير الشرعيّة بين لبنان وسوريّا، ويبلغ عددها 140 معبرًا وفق مسؤولين أمنيّين وسياسيّين عبّروا عن ذلك أكثر من مرّة، لكن من دون تحديد أيّ مناطق تقع فيها هذه المعابر، وما هي المعوّقات التي تحول دون إقفالها.

معابر غير شرعية في منطقة عكار (الصورةAFP)

يتمّ من خلال هذه المعابر ليس تهريب الأشخاص وإدخالهم بطرق غير شرعيّة بما يرقى إلى الإتجار بالبشر فحسب، بل يتعدّاه إلى تهريب البضائع والممنوعات على جانبيّ الحدود، وهي لا تقتصر على منطقة محدّدة بذاتها بل إنّها عابرة للمناطق والطوائف، إذ تشمل البقاع الشماليّ بأكمله ووادي خالد في عكّار شمال لبنان، إضافةً إلى “تهريب شرعيّ” مدعوم من جهاتٍ سياسيّةٍ نافذةٍ .

تهريب على قدم وساق

تؤكّد مصادر مطّلعة لِـ”مناطق نت” أنّ عمليات التهريب تجري يوميًّا على قدمٍ وساقٍ، وبوتيرةٍ طبيعيّةٍ، وهي معروفة من قبل “جهات معنيّة” تتجاهلها عمدًا كونها لا تريد معالجة هذه القضيّة، “وإن كانت بين حينٍ وآخر تطالب بتسليم داتا أعداد اللاجئين من الأمم المتّحدة إلى الجهات الرسميّة، وهو أمر يمكن إنجازه بسهولةٍ وسرعةٍ من خلال تكليف البلديات ومراكز الأمن العام هذه المهمّة دون الحاجة إلى أحدٍ و توسّل جهاتٍ دوليّةٍ” على حدّ المصادر.

ترسم المصادر عينها خارطة لعدد المعابر وأماكنها، وتقول “إنّها تتوزّع من بلدة القاع في البقاع الشماليّ، مرورًا ببلدتي حوش السدّ علي والقصر وصولًا إلى الشمال مع المعابر التي تتوزّع في الكويخات وبلدات وادي خالد”.

عمليات التهريب تجري يوميًّا على قدمٍ وساقٍ، وبوتيرةٍ طبيعيّةٍ، وهي معروفة من قبل “جهات معنيّة” تتجاهلها عمدًا كونها لا تريد معالجة هذه القضيّة

وتوضح المصادر أنّ بدل التهريب على تلك المعابر ليس واحدًا، “فهو يتنوّع بحسب الطلب والطريقة، ويراوح بين 20 و50 دولارًا للشخص الواحد”. وتشير المصادر إلى أنّ هناك خطوطًا تعرف بالـ”عسكريّة” وتسعيرتها أعلى بكثير، “إذ تبلغ نحو 150 دولارًا للشخص الواحد المهرّب من مدينة حمص السوريّة إلى بعلبك، أو من منطقة تلّ كلخ إلى مدينة طرابلس، في حين ترتفع أكثر إذا كانت إلى جونية، إذ تصل إلى حدود 250 دولارًا”.

شرعيّة وغير شرعيّة

وتلفت المصادر إلى أنّ المقصود بالخطّ العسكريّ هو الانتقال بسيّاراتٍ حزبيّةٍ نافذةٍ من داخل الأراضي السوريّة إلى الأراضي اللبنانيّة عبر معابر شرعيّة، أيّ عبر الحدود بين البلديْن ولكن من دون تفتيش أو تفييش وتختيم للشّخص المهرَّب.

وتوضح أنّ الفروق المادّيّة في كُلف التهريب خاضعة للمسافة الفاصلة بين منطقتيْ الحدود وبُعد المنطقة المقصودة من المهرَّب و”حجم التعب”. مؤكّدةً دخول أو إدخال حوالى 400 شخص إلى لبنان كمعدّلٍ وسطيّ يوميًّا، من خلال المعابر المذكورة آنفًا.

من أجل الفارق الإيجابيّ

يؤشّر التدفق الكبير للاجئين السوريّين للبنان، على الرغم من المخاطر الجسيمة التي تعترضه، إلى أنّ جحيمًا هناك يفرّ منه هؤلاء، إلى جحيمِ ربّما يكون أقلّ قسوة. يقول محمد (اسم مستعار) إنّه دخل إلى لبنان تهريبًا منذ نحو أسبوع عن طريق أحد المعابر غير الشرعيّة في منطقة الهرمل، وهو آتٍ من الرّقّة في سوريّا بعد أن ضاقت به سبل العيش هناك، تاركًا عائلةً من ثلاثة أبناء وزوجة. يؤكّد لِـ”مناطق نت” أنّ كلفة دخوله إلى لبنان بلغت 50 دولارًا “لأنّ اتفاقي مع المهرِّبين كان الوصول إلى أوّل الأراضي اللبنانيّة ومن بعدها أدبّر نفسي، إذ إنّ همّي الأوّل كان الخروج من سوريّا، وفي لبنان يفرجها الله.”

وعن سبب مغادرته سوريّا إلى لبنان المنكوب في أزماته الاقتصاديّة والمعيشيّة يقول: “صحيح أنّ لبنان وسوريّا متساويان في الأزمات، إلّا أنّني في لبنان يمكن أن أجد فرصة عمل،ٍ ففي سوريّا كلفة العيش مرتفعة جدًّا مع أعمالٍ برواتب زهيدةٍ، في حين أنّ رواتب الأعمال الشهريّة أو اليوميّة في لبنان مقبولة وهنا يكمن الفارق الإيجابيّ الذي أتيت من أجله.”

تهريب البشر بطرق غير شرعية ناشط جدًا عبر المعابر غير الشرعية

ويضيف: “إنّ أجرة العامل في سوريّا بالعملة السوريّة صارت في الحضيض بينما تدفع في لبنان بالدولار، ما يمنحني فرصةً أكبر للعيش مع توفير بعض المال لعائلتي التي تحتاج إلى ستّة ملايين ليرةٍ سوريّةٍ كي تعيش بحالٍ متوسّطةٍ دون احتساب الضروريّات التي غالبًا ما تنقصنا لعدم قدرتنا على شرائها.”

ويتفاءل محمّد بحتميّة إيجاده عملًا في لبنان يستطيع من خلاله تحقيق الهدف الذي جاء لأجله، وتكبّد العناء والمخاطرة في ذلك “لأنّه ما من سوريّ دخل إلى لبنان بهدف تأمين لقمة العيش إلّا ووفّقه الله. وأنا لديّ أصدقاء دخلوا إلى لبنان قَبلي بأيّامٍ وهم اليوم يعملون بأجر مقبول ولا يحتاجون أحدًا.”

“دخلت لأعيّش أطفالي”

وتروي مريم (اسم مستعار) لِـ “مناطق نت” حكاية دخولها إلى لبنان مع أولادها الثلاثة منذ 10 أيام “عن طريق أحد معابر الشّمال في وادي خالد، بعد أن دفعت للمهرّبين 80 دولارًا (20 دولارًا للشخص الواحد) واستقرّينا في عكّار إلى جانب بعض أقاربي ممّن شجّعوني على المجيء إلى لبنان والعمل فيه لتأمين حياة أبنائي، بعدما طلّقني زوجي في سوريّا لأسبابٍ مادّيّة وترك لي الأولاد كي أعتني بهم، إذ عجز عن تأمين احتياجاتهم، كون أجره اليوميّ لا يتخطّى الـ20 ألف ليرةٍ سوريّةٍ لا تكفي ثمن خبزٍ.”

تضيف: “لو كنت لوحدي ما أتيت إلى لبنان، إنّما أولادي كسروا ظهري وهم سبب مجيئي لتأمين معيشتهم ليس أكثر. ففي بلدي تنعدم سبل الحياة، خصوصًا إذا كان عمل ربّ العائلة باليوميّة، فالأجرة لا تكفي ثمن تنقّلٍ، فكيف بتأمين متطلّبات العائلة والمنزل؟”.

تروي مريم (اسم مستعار) حكاية دخولها إلى لبنان مع أولادها الثلاثة منذ عشرين يومًا عن طريق أحد معابر الشّمال في وادي خالد، بعد أن دفعت للمهرّبين 80 دولارًا (20 دولارًا للشخص الواحد)

وعن طبيعة العمل الذي ستمارسه في لبنان تقول: “أنا لست متعالية على أيٍّ عملٍّ، فكلّ الأعمال شريفة طالما أنّ الإنسان يعمل لستر الحال وعدم استجداء أحدٍ. وبما أنّني أجيد مهنة الخياطة فسأسعى لأعمل في مهنتي، وهناك أناس أخيار وعدوني بتأمين محلّ ومستلزماته، وبهذا سأكون جاهزةً للعمل طالبةً من الله التوفيق لأجل أبنائي الذين لا يزالون صغارًا ويحتاجون إلى من يرعاهم ويهتمّ بهم بعد أن ظلمهم القدر”.

وترى مريم “أنّ هجرة الوطن قسرًا ليست أمرًا سهلًا، فالوطن حياتنا وأعمارنا وملجأنا ومسقط رؤوسنا، لكن الوطن الذي لا يحمل أبناءه ولا يستطيع تأمين حياتهم يصبح تركه خيارًا واجبًا، ليس للتخلّي عنه بل لتأمين الحياة المتبقّية لنا قبل أن نموت بغير آجالنا”.

“أسعى لإحضار أبي”

أمّا فؤاد (اسم مستعار) القادم من مدينة حماه السوريّة عبر معبر حوش السّيد علي في منطقة البقاع الشّمالي فيقول لِـ”مناطق نت” إنّه دخل إلى لبنان بعد إنتظارٍ دام شهريْن “حتّى تأمّن لديّ مبلغ الـ50 دولارًا كلفة تهريبي ووصولي آمنًا إلى داخل الأراضي اللبنانيّة، إذ كنت متّفقًا مع شبابٍ من منطقتي كانوا قد سبقوني إلى لبنان على أن يؤمّنوا لي عملًا مقبولًا في مدينة بعلبكّ التي تتوافر فيها فرص عملٍ أكثر من أيٍّ مكانٍ آخر، كما أكّدوا لي.”

ويضيف: “عمري 22 عامًا وكنت عاطلًا من العمل في سوريّا لإنّني تركت المدرسة منذ بداية الحرب، وبسبب التهجير من منطقةٍ إلى أخرى لم أستطع إكمال دراستي، فعاونت والدي في العمل بدكّانٍ لبيع السّمانة، لكنّ ذلك لم يستمرّ طويلًا إذ أقفل أبي الدكّان لأنه لم يعد يطعم خبزًا، وبقيت أنا تائهًا في الحياة إلى أن أتاني من شجّعني على المجيء إلى لبنان، كون كلفة ذلك أسهل من السّفر إلى الخارج، فاقتنعت وها أنا قد أصبحت في لبنان.”

طرق وعرة تستعمل كمعابر للتهريب

ويؤكّد أنّه سيعمل بكلّ جهدٍ “حتّى لو تطلّب الأمر عمليْن في اليوم” كي يساعد أهله في سوريّا “الذين يعانون الأمرّيْن لتأمين قوت يومهم، المفقود أصلًا حيث يعيشون، لأنّ الحياة هناك مريرة ولا يستطيع مواصلتها إلّا من يتاجر تجارةً كبيرةً أو من يأتيه الدولار من الخارج، أمّا من لديهم تجارة صغيرة فإنتاجهم اليومي محدود في ظلّ غلاءٍ جنونيٍّ في أسعار السلع اليوميّة الضروريّة.”

ويؤكّد فؤاد أنّه لو وجد في لبنان فرصةً عمل لوالده لن يتأخر في إحضاره إلى لبنان ،”لأنّ عمل اثنيْن أفضل من واحدٍ “فالعائلة الواحدة في ظلّ هذه الظروف تحتاج إلى جهد جميع أفرادها كي تؤمّن احتياجاتها المعيشيّة، وأنا أسعى لهذا الأمر.”

تهريب خمس نجوم

ويفيد ياسر (إسم مستعار) إنّه أتى إلى لبنان بعد أن حجز مكان إقامته وأمّن عمله مسبقًا “لأنّني لن أغامر بشيء غير مضمون حتّى لا أخسر ما جمعته في سوريّا كي أدخل إلى لبنان وأعمل بضمانةٍ مؤكّدة”. ويؤكّد لِـ”مناطق نت” أنّه دفع مبلغ 250 دولارًا كلفة وصوله إلى مدينة جونية في بيروت، “فأنا من سوريّا اخترت جونية لأقيم فيها، لأنّ ما دفعته كي أصل إليها تساوي كلفة نزولي في فندق خمس نجوم”.

وعن سبب إختياره جونيه كمكان للإقامة يقول: “بالنسبة لي فإنّ المنطقة التي سأعيش وأعمل فيها تشكّل عنصرًا أساسًا لراحتي، وقد يكون هذا الأمر خاضعًا للإنسجام مع أهلها وسكّانها كوني غريبًا وأحتاج لمن يقدّم لي الراحة النفسيّة والعمليّة. لأنّ العامل الطائفيّ والمذهبيّ لا يزال موجودًا في عقول بعض المجتمعات اللبنانيّة.”

ويضيف: “إنّ الأجواء الشعبيّة العامّة وما رافقها من حملات تحريض ضدّ السوريّين في لبنان واتّهامهم بالتسبّب في المشكلات الأمنيّة والاقتصاديّة فيه أثّرت بعض الشيء في مزاج بعض من يفكّرون بالمجيء إليه، لكنّها بقيت محدودةً وليست ذات قيمةٍ عمليّةٍ، لأنّ الحاجة اللبنانيّة العامّة للنازحين ما زالت موجودةً بدليل أنّ هناك من يساعد السوريّين من جهاتٍ سياسيّةٍ وحزبيّةٍ ورسميّةٍ في الدخول بشكلٍّ يوميٍّ.”

ويرى ياسر أنّ “وجودنا في لبنان يساهم في دورته الاقتصاديّة ويؤمّن احتياجات كثيرين من اللبنانيّين، لا سيّما في المهن الحرّة كأعمال البناء على مختلف تفاصيلها، وأعمال الزراعة وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلى اليد العاملة”. ويختم مطالبًا الدولة اللبنانيّة بالسماح للسوريّين في الدخول إلى لبنان بطرق شرعيّة مع فرض شروطٍ قانونيّةٍ على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى