“رمضان” يكشف بؤس السوريّين في مخيّمات اللجوء
لرمضان شهر الخير والقرآن والإيمان، طقوس وعادات وتقاليد خصوصًا في سوريا، تزدان شوارع المدن والقرى، تنتعش الأسواق التجاريّة، تنتشر الخيم الرمضانيّة، تقام العراضات الشعبيّة والموالد، تتزين الموائد بالمأكولات والحلويّات الخاصّة بالشهر “الفضيل”، تصدح مآذن الجامع الأموي بالأذان الجماعيّ في جو روحاني عابق، وقد قال قائل: “رمضان شهر الشام”.
حكايات أفراح ومباهج شهر الخير في سوريّا، تسمعها بحسرة من السوريّ في مخيّمات البؤس واللجوء، يسردها كذكريات جميلة، يغالب دمعة في عينيه خشيّة انكشاف شوقه وحنينه الى الأرض والوطن ومرتع الصبا، فما بين رمضان في حمص وحلب وحماه ودمشق ودرعا، ورمضان مخيّمات البؤس والتشرّد، حكايات شعب يجرجر آلامه على درب جلجلة طويل.
نحن ضيوف مؤقّتين
يقول الناشط سامر عامر، منسّق مخيّمات اللاجئين ولجنة التنسيق والمتابعة في عرسال لـ”مناطق نت”: “عندما كنّا في سوريا نشأنا على عرف أنّ رمضان له مكانة خاصّة، اجتماعيًّا وإيمانيًّا وثقافيًّا وحتّى تجاريًّا، فالكلّ ينتظر قدوم شهر رمضان، الصائمون وغير الصائمين، وليالي رمضان عامرة بالأفراح والمسرّات والمودّة والتراحم، لم نكن ننام في رمضان، خصوصًا في الليالي العشر الأخيرة، رزق الله عهيديك الأيّام”.
يتابع عامر: “اليوم نحن هنا، نعيش في مخيّمات تفتقد إلى أدنى معايير العيش الإنسانيّ، ورمضان هذا العام أتى كارثيًّا على الناس جميعهم، السوريّ واللبنانيّ. وقد فاقم الأزمة فصل آلاف العائلات السوريّة من رعاية منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين. كذلك تعاني المنظّمات الدوليّة والمحلّيّة من شحّ كبير في الدعم والموارد بسبب الحروب المتنقّلة”.
ويردف: “هي مشكورة بالطبع، لكنّ واقع الناس مزريّ، فلا عمل ولا دعم ولا عودة، هناك عائلات بالكاد تستطيع تأمين طعام الإفطار والسحور، طبعًا لا أتحدّث عن أطعمة رمضانية فاخرة بل أبسطها، الله يستر”.
حول تدبر الناس أحوالها يقول عامر: “نحاول مع كلّ المنظّمات التي تمدّ يد المساعدة أن تشمل أكبر عدد من المخيّمات، يوجد في عرسال لوحدها 143 مخيّمًا للاجئين، يستحيل على أيّ جهة تغطيتها لوحدها، لذلك نحاول قدر المستطاع العمل على عدالة التوزيع، لكن ذلك متعذر”.
ويتحدث عامر متوجّها إلى أبناء بلده: “نحن السورييّن ضيوف مؤقّتون في بلدة عرسال، لقد تحمّل أهلها أعباءً كبيرة معنا، لكن واجبنا كسوريين تجاه بعضنا البعض، خصوصًا في أيّام رمضان التراحم والتكاتف والتعاضد، يجب أن نرحم أنفسنا بأنفسنا، لن نبقى هنا دائمًا، حتّى لو بدت الحلول معدومة، وحالما تتوافر شروط العودة الآمنة سنعود إلى بلدنا الحبيب سوريا”.
سامر عامر: نحن السورييّن ضيوف مؤقّتون في بلدة عرسال، لقد تحمّل أهلها أعباءً كبيرة معنا، لكن واجبنا كسوريين تجاه بعضنا البعض، خصوصًا في أيّام رمضان التراحم والتكاتف والتعاضد
ويختم: “أكرّر نحن ضيوف مؤقّتون هنا، نرفض البقاء الدائم خارج بلدنا، في لبنان أو في غيره، نحن نعيش في لبنان تحت القانون اللبنانيّ، نلتزم به كاملًا، وأيّ فرد يقوم بمخالفة القانون فهو يمثّل نفسه فقط، ومحاسبته ضروريّة لأنّه يسيء إلينا جميعًا، على أمل أن نصوم شهر رمضان المقبل في بلدنا وبيوتنا وبين أهلنا”.
شحّ في التمويل
منذ بداية الأحداث السوريّة سارعت عديد من الجهات الإغاثيّة دوليًّا ومحلّيًّا إلى مساعدة اللاجئ السوريّ، بعضها من منطلق إنساني صافٍ، وبعضها الآخر لأهداف ضمنيّة وسياسيّة مضمرة، لكن ما يجمعها كلّها اليوم ضعف التمويل بعد حروب عديدة وكوارث طبيعيّة.
يشرح خالد السلطان “أبو عمر” وهو ممثّل الهيئة الإسلاميّة للرعاية لـ”مناطق نت” دور الجمعيّة فيقول: “جمعيّتنا هي جمعيّة إسلاميّة تعمل على إغاثة الأخوة السوريّين، أكثر من عشر سنوات ونحن ننشط في هذا المجال، مبدأنا أنّ المسلم أخو المسلم، والإنسان أخو الإنسان، نحاول قدر الإمكان تأمين ما يسدّ رمق اللاجئين ويساعدهم على البقاء ريثما يعودون إلى بلدهم”.
يتابع السلطان: “أتى رمضان هذا العام مأسويًّا كارثيًّا في المخيّمات، أقولها بصدق، هيئتنا من أكبر الداعمين للاجئين، لكن منذ بداية رمضان استطعنا فقط تأمين ثلاثة آلاف حصّة إغاثيّة للسوريّين و600 لأبناء عرسال، بينما في سنوات سابقة كانت الأعداد أضعافًا مضاعفة، نتلقّى يوميًّا مئات الاتصالات لكن للأسف العين بصيرة واليد قصيرة”.
يختم السلطان: ” شكّل العدوان الإسرائيلي ضربة كبيرة جدًّا لنا. لقد بدأ ضعف الدعم والتمويل منذ حرب روسيّا وأوكرانيا إضافة إلى الزلازل التي ضربت تركيّا وسوريّا والمغرب وسيول ليبيا، لكن منذ حرب غزّة نعاني صعوبات جمّة في تأمين الدعم، طبعًا، طال شحّ التمويل كلّ النواحي الإغاثيّة صحيًّا وتربويًّا، في المياه والصرف الصحّيّ وغيره، لذلك كانت المعاناة في هذا الشهر الفضيل مضاعفة وكبيرة، ونتمنّى الفرج من الله”.
مأساة فوق مأساة
خلف جدران الخيم تختبئ قصص إنسانيّة قاسية محزنة، تعجز الأقلام عن نقل مرارتها، نظنّها أنّها فقط في المسلسلات والروايات، لكنّها موجودة بالفعل.
ف. ز. (تتحفّظ عن ذكر اسمها وكنيتها) أمّ لطفلتين، إحداهما مصابة بمرض نقص الأوكسيجين الدماغيّ. تعيش معهما في خيمة قرب خيمة والديها المسنّين بعد فقدانها زوجها في سوريّا، تقول لـ”مناطق نت”: “يضاعف رمضان في المخيّمات المأساة، تزداد المصاريف والاحتياجات، فالصائم بحاجة إلى ما يعينه على الصيام، بينما المدخول ذاته”.
وتضيف: “أنا أقتات مع بناتي من كرت الأمم، أقوم بتدريس عدد من الأطفال في خيمتي، لكنّني أحصّل على سبعة أطفال فقط 40 دولارًا شهريًّا، فكيف يمكن لأسرة من أمّ وطفلتين صغيرتين أن تعيش فقط بـ110 دولارات؟ بعض العائلات تشتهي صحن فتوش وكوب جلّاب، لكن ليس بمقدورها”. تتنهّد حزينة، ثمّ تكمل: “المنظّمات مشكورة، تساعد على رغم الشحّ هذه السنة، لكنّ مساعداتها تتمّ وفق رؤيتها هي وليس وفق بحث علميّ واقعيّ قائم على إحصاء حاجات اللاجئين”.
خلف جدران الخيم تختبئ قصص إنسانيّة قاسية محزنة، تعجز الأقلام عن نقل مرارتها، نظنّها أنّها فقط في المسلسلات والروايات، لكنّها موجودة بالفعل
تتابع فاطمة: “لا أحلام لديّ ولا طموحات، كلّها ماتت، إذا عدنا إلى سوريّا أين سنذهب؟ بناتي ليس لديهنّ أوراق ثبوتّية سوريّة ولا أب، أين سأعيش معهما؟ ماذا أعمل؟ هل يقبل أحد بتوظيفي بشهادتي من دون إبتزاز؟ أتجاهل كلّ شيء كي أنسى سواد الحياة التي نعيشها”.
طفولة بعيون حزينة
كثيرون من الناس يحملون في ذاكرتهم ندوبًا ومآس منذ طفولتهم، ترافقهم آلامها طوال أعمارهم، بعضها القليل يتحوّل إلى حوافز للنجاح والتطوّر، وبعضها الآخر يقود إلى الضياع وعالم الانحراف، المخدّرات والعنف والجريمة، بسبب غياب الناصحين المرشدين.
أمجد القيسي طفل عمره 11 عامًا، مثل كثيرين من الأطفال مّمن ولدوا في خيم المخيّمات، يحلم بالعودة إلى وطنه الذي لا يعرفه. يقول في دردشة بريئة مع “مناطق نت”: “لا أعرف شيئًا عن رمضان في سوريّا، عندما تخبرنا جدّتي عن رمضان حمص، نحسّ بالفرح والسعادة وكأنّ مسلسل باب الحارة أمام أعيننا (مبتسما)”.
ويتابع: “تخبرنا جدتي، أنهم كانوا يقيمون إفطاراهم جماعة، يتبادلون الطعام مع جيرانهم، يسهرون مع بعضهم أيضًا. هنا نعيش في المخيّم، نسمع أهلنا يتحدّثون عن صعوبات الحياة، يحاولون تأمين الأكل والشراب والمدرسة، أحلم بالعودة إلى سوريّا، ورؤية بيت أهلي هناك، وبستاننا والذهاب إلى حمص في رمضان”. يختم الطفل البريء.
“البؤساء” ليست مجرّد رواية شهيرة للأديب والشاعر الفرنسيّ الكبير فيكتور هوغو، بل تجسيد لواقع أناس نلامسهم، نحادثهم، نراهم في يوميّاتنا وربما بتنا منهم. البؤس بات الصفة المشتركة بين غالبية ساكني مشرقنا العربيّ، الواقع مرير، باب الأمل مقفل بإحكام، ربّما لم يبقَ لنا سوى ترداد دعاء سوريّين كثيرين: “ما لنا غيرك يا الله”.