روحي المتناثرة كحقيبة سفر

من يستطيع أن يشرح هذا الاضطراب الداخليّ، خوفي من الفرح، غصة ودمعة عندما أرى شيئًا جميلًا، وكأنّ الخوف يعتصر معدتي؟ شيء ما لا أستطيع وصفه أو التعبير عنه بالكلام، حتّى بالصمت، لا يمكن الصمت…

لطالما جلتُ وسافرتُ واكتشفتُ أماكن جديدة، لكنّ لبنان كان دومًا بالنسبة لي أكثر من مجرّد وطن. كان أمّي وأبي، أختي وأخي، جدّتي وعمّتي وخالتي، كان الصديق وكلّ من أعرفهم وعرفتهم.

كلما ابتعدت عنه عدت مشتاقة، كأنّ روحي متجذّرة فيه، وكلّما غادرته كان شعوري بالتحليق فوق الغيوم وكأنّي أقصد الجنّة. ومن فوق المساحات المترامية على حافّة جناح الطائرة، كانت الأفكار تروادني، كم نحن صغارًا في هذا الكوكب، ولكنّنا في بلدنا كبار جدًّا، عمالقة، كلّ واحد منّا عملاق، يرى الحياة تدور حوله، ومنه وإليه تشرق الشمس وتغرب.

ذاكرة التبغ

لست من طبقة ارستقراطيّة، بل أهلي وأحبابي يتحدّرون من عائلات فلّاحة تمرمر طعامهم بمذاق شتلة التبغ، وانتظروا موسمًا كاملًا كي يبلغوا مآلاتهم، وبين دورة الزراعة والقطاف والشك والتجفيف و”التدنيك”، كنت أرى جدّتي، النبيّة، مع أنّني أعرف ألّا نبيّات، فقط ثمّة أنبياء، لكنّها نبيّتي، امرأة شقّت رداء الفجر كي تلتحفه، ولبست ثيابها المدبّقة نحو حقول التبغ، كانت توقظني وأختي لنساعدها في القطاف، وكنت كسولة جدًّا، أشكو من التعب وأتمنّى أن ينتهي هذا العقاب، لكنّني لم ما عرفت حينها أنّ ما أنا عليه اليوم هو من صناعة وقت الذهاب إلى القطاف.

أمشي في شوارع أنقرة ولفحات البرد تنعش قلبي وتبرّد مدمعي، أبكي حرقة بلدي، وأبكي ألمًا أحبائي، أنظر إلى وجوه الناس، أحدّق بها، إنّها ليست كوجوهنا. وجوهنا تفيض بلون الدم، أهلنا يروون الأرض بالدم، ولكنّ أرضنا لا تشبع، لا ترتوي.
في بلدتي، حيث يشق نهر الليطانيّ الأرض ويقسمها، كانت مشاتل التبغ خضراء، خضراء.

هو لون بين طيّات الحياة يعكس نعومة ورقّة هذه الشتلة التي سرعان ما تكبر وتتحوّل الى نبتة داكنة قاسية مُرّة، لا يمكن إزالة آثارها عن الأيادي التي اهتمّت بها ورعتها، وفي النهاية، تغدو هذه الشتلة داءً يتنشّقه زارعوها، كأنّهم يبحثون عن الراحة وسط دخانٍ بات يخفي عبء السنين والأيّام.

حقيبة شبه فارغة

هل لبنان هو داؤنا؟ وجعنا؟ أشعر بالألم عندما أتكلّم عنه، أنا اليافعة التي لطّخت كتاب التاريخ بلون التراب، وكانت تجتهد حتى لا تزرع التبغ عندما تكبر.

أنا التي جبتُ شوارع باريس وبرلين، زرت دبي والقاهرة واسطنبول، أبحثُ عن سرٍّ لا أعرف كنهه، لكنّني أشعر بأنّه يختبئ هناك، في مكان ما بين زوايا المدن ووجوه الغرباء. أسافر بحقيبة شبه فارغة، وأعمل طوال العام كي أعيش لحظات أحرّر فيها روحي.

لكن في الصيف الماضي والصيف الذي قبله، كانت القصّة مختلفة. أثقلتني الحرب على غزّة، وصورها، كانت تلاحقني كظلٍّ لا ينفكّ عنّي، حتّى حين أغمض عينيّ.

أنا التي جبتُ شوارع باريس وبرلين، زرت دبي والقاهرة واسطنبول، أبحثُ عن سرٍّ لا أعرف كنهه، لكنّني أشعر بأنّه يختبئ هناك، في مكان ما بين زوايا المدن ووجوه الغرباء. أسافر بحقيبة شبه فارغة، وأعمل طوال العام كي أعيش لحظات أحرّر فيها روحي.

الأيّام التي لم أستطع فيها تناول الطعام كانت تتبعها أخرى أفرغ فيها حزني بالنهم، وكأنّ قلبي يترنّح بين قسوة الواقع ومرارة العجز. أصوات “الدرون” على شاشات الأخبار كانت تحاصرني، تفقدني هدوئي، وتمحو السلام من حولي.
طيف الحرب من جديد

كنت بحاجة إلى مهرب، طلبت السفر مرارًا لكن؟ زوجي كان يقول: “ما منعرف شو بصير”. ولأنّ القلق كان ينهكني، كنت أذعن وأقول في نفسي: “ربّما نحتاج هذا المال لشيء طارئ، ربّما”.

في تلك الأمسية، عندما بدأت أصوات الغارات تُسمع في بلدتنا، شعرتُ أنّ طيف الحرب يحلّق فوق قلوبنا، ثقيلًا كأنفاسنا. في السهرات مع الجيران كان السؤال يتكرر، وكأنّ الجميع يحاولون أن يجدوا طريقًا للهروب أو طريقة للصمود: “شو رح تعملوا؟”.
جوابي كان ثابتًا: “لا أريد أن أعيش أهوال حرب 2006 مرّة أخرى، ليست لدي الطاقة كي أعيد ما أصبح جزءًا مرعبًا من ذاكرتي، ولا أريد لأولادي أن يحملوا هذا العبء المؤلم، هذا الإرث القاسي.

حقيبة السفر

تساءلتُ في داخلي: “هل لي الحقّ في اتّخاذ هذا القرار؟ الهروب؟ أم أنّ عليّ القبول بالمصير؟ أن أتعاطف مع وطني رغم آلامه؟ وطني، لبنان، هو من يُعذّبني، لكّنه أيضًا كلّ الحياة، هو الجرح وهو الشفاء، هو صراع لا ينتهي بين الحبّ والألم.

جمعت بعضًا من ملابسي وملابس زوجي وأطفالي، حقيبة مدرسيّة وضعتها قرب مدخل البيت، وفي حقيبة أخرى صغيرة وضعت الأدوية التي ربّما نحتاجها، الأوراق الثبوتيّة، الشهادات، وكلّ ما أدّخرته من مال ليكون ملاذًا لنا إن اضطررنا إلى السفر.
وكنت كلّما خرجت أو دخلت إلى البيت، أتحسّر عندما أرى حقيبة الهروب من الموت، من الخطر، من كابوس الحرب.

لماذا لا تكون هذه الحقيبة للسفر؟…
وضعت الحقيبة في السيارة وتركتها للأيام، لا أريد أن أراها كلّ يوم، وأنقلها من زواية إلى أخرى، كانت ثقيلة جدًّا، فيها خبّأتُ حياتي كي أغادر مسرعة من قدرٍ محتومٍ مكتوبٍ لنا.

انقضت الأشهر والفصول وصار من اللازم تبديل الملابس الصيفيّة إلى شتويّة وبعدها من شتويّة إلى صيفيّة، وفي كلّ مرّة أفرغ الحقيبة وأملؤها، أقول: “أيمتى بدو يريحنا؟”.

رحلة النزوح

في المرّة الأخيرة من زيارتنا إلى الجنوب تربّص بنا الموت، حملت نفسي وأولادي، بالكاد كنت أستطيع المشي، ولكن للحياة قوّة هائلة كي نحافظ عليها، هي نعمة من الله، نتمسّك بها بكلّ ما أوتينا من عزيمة.

عندما هربنا، وتنقّلنا في بلدنا، من مكان الى آخر، من بيت إلى فندق، إلى بيت، كانت تلك الحقيبة وجعي الأكبر. كنت أتشاءم منها، أكره رؤيتها وأكره حملها؛ كأنّها ثقل يشدّني نزولًا نحو القبر، نحو الأرض، في حين روحي تطيب في السماء.
استقرّت بنا الرحلة في أنقرة، بعد مسار طويل قطعناه بخطوات مضنية. وفي كلّ خطوة كان الباب مفتوحًا، ندخل وننتقل إلى المرحلة التالية، وأجرّ الحقيبة معي، كأنّها شاهدة صامتة على كلّ ما مررت به، بين ألم الوداع وأمل الاستقرار.

اليوم، أفرغت الحقيبة ووضعتها في مكان لا أراه، لكنّ ثقلها لم يفارقني. فيها همّ لبنان، هموم وهواجس ووساوس، أفكار لا أستطيع الهروب منها سوى إلى الشوارع.

نغادره ولا يغادرنا

أترك أطفالي يلعبون في إحدى الحدائق القريبة من بيتنا الموقّت، وأنظر إليهم يحملون الحياة في ضحكاتهم، يتنفسّونها كما لو أنّها أسمى من كلّ شيء. أسأل نفسي: “هل كان قرار المغادرة رأفة بهم؟ أم أنّ الموت سوف يطالنا حتّى لو كنّا في بروج مشيّدة؟

أنظر إلى الربيع حولي، على الرغم من أننا في خريف السنة، لكنّ عقلي لا ينفكّ يقارن بين هنا ولبنان، بين رائحة البارود التي تخنق أنفاسي وبين رائحة التراب والخشب. أقارن بين جدّتي وعجوز تراقب سيل المياه في الحديقة وفي يدها سبّحة.

يتقطّع قلبي على جدّتي التي لم تعد تبصر والتي كانت تأبى الخروج من بيتها، لأنّها حفظت أركانه وتتنقّل فيه كن دون مساعدة أحد، هي المرأة الجنوبيّة القويّة، هي صاحبة البيت والكلمة، هي اليوم نازحة، تجلس في زواية حزينة، تستغفر الله لنا ولها، وتدعوه كي يلطف بعباده.

لم أستطع أن أكلّمها على الهاتف، رجفة صوتها ستفتح فوّهة بركان كامن في أعماقي. أشعر بألم في كلّ كياني، تيّار كهربائيّ يصعقني كلّما حاولت أن أضحك، وأنا أفكّر بأبناء أخوتي، بأجزاء روحي التي أصبحت متناثرة، ولم أستطع حملها كحقيبتي لمّا غادرت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى