زلفا حميّة وحكاية عمرها مع التنّور
“وعيت على الحياة وأنا آكل من خبز التنّور وأرفض خبز الفرن الفرنجي لأنّ نفسي لا تتقبّله، فهي معتادة على الخبز العربيّ الذي بدأت بتصنيعه مع أمّي، منذ أن بلغت التاسعة من عمري”. تقولها الحاجّة زلفا حميّة بابتسامةٍ تملأ وجهها المشرق كجمر تنّورها الذي رافقتْه أكثر من سبعين عامًا، عاجنةً وخابزةً أشهى الأرغفة المحمّرة، وأطيب الفطائر “البلديّة” من زيتونٍ وزعترٍ وكشكٍ وخضراواتٍ ورقيّةٍ متنوّعةٍ، داعيةً إلى نهارات التنّور ولياليه المقمِرة، الجيران والأهل والأصحاب.
“كم من الأيّام قضيناها على التنّور الذي ذاع صيته على نطاقٍ واسعٍ وصار عنوانًا لاسمي وللخبز العربيّ المرقوق، ومحجًّا لكلّ من يريد أن يأكل من خبز بلادي غير “المفرنج” أو الملوّث بمكوّنات لا يعلم إلّا الله ضررها على الناس، فأنا أؤمن بالمثل القائل: “زوان بلادي ولا قمح الصليبي” وبالفعل طبّقت هذا المثل وما زلت، لأنّ الخير والصحّة في ما تنتجه بلادي وأرض أهلي وأجدادي.”
حكاية التنّور
لتنّور الحاجّة زلفا ألف حكايةٍ وحكايةٍ لدى أهالي بلدتها طاريّا البقاعيّة، فهو ملتقى لجميع سكّان البلدة، منذ عشرات السنين، إذ يبقى “حاميًا” على مدار اليوم والجمر فيه “متأهّبًا” لاستقبال من كان قد “حسَبَ دور” (حجز) قبل يومٍ أو يومين لأنّه التنّور الوحيد الذي يَخبز عليه أهالي البلدة، كونهم يعشقون الخبز العربيّ ونكهته وحلاوة مذاقه.
تروي الحاجّة زلفا قصّتها مع التنّور وخبزه لـ”مناطق نت” بالقول: “لقد ورثت التنّور والخبز عليه عن والدتي التي رافقتها منذ صغري حتّى وفاتها، فاستلمت أنا العمل وأصبحت خبيرةً بالخبز”، يقصدني الناس ويقصدون تنّوري من جميع أنحاء البلدة وحتّى من الجوار”. وتضيف “الهجمة الكبيرة على التنّور بسبب قِدَمِه الذي يعود إلى أكثر من مئة سنةٍ، فهو التنّور الوحيد في البلدة. لقد كانت نهاراتنا موصولةً بليالينا، فالضغط على الخبز كبير والتنّور لا تنطفئ ناره، فمن لا تستطيع الخَبز في النهار يكون دورها في الليل. ومع كل خَبزةٍ ودورٍ تدور الأحاديث بين النّسوة اللواتي كنّ يعشنَ الفرح والسرور في أثناء انتظارهنّ وخَبزهنّ”.
أدوات خبز تنّور الحاجة زلفا وعدّته بسيطة وسهلة التصنيع فهي: خشبة صغيرة مستطيلة لرقّ العجينة للرّقّاقة، وخشبة أخرى لمساعِدتها والكارة التي توضع عليها العجينة بعد رقّها وهلّها ثم لصقها بجدار التنّور.
أمّا في ما خصّ العجين “فهو من طحين القمح البلديّ مخلوطًا بقليلٍ من الطحين الأجنبيّ من دون إضافة عناصر أخرى عليه كالسكّر وغيرها. وهنا تكمن قيمة الخبز الصحّيّة السليمة الخالية من مكوّنات عجين وخبز الأفران الإفرنجيّة، اليوم، التي تضرّ بالصحة وتقصّر الأعمار..”.
أدوات خبز تنّور الحاجة زلفا وعدّته بسيطة وسهلة التصنيع فهي: خشبة صغيرة مستطيلة لرقّ العجينة للرّقّاقة، وخشبة أخرى لمساعِدتها والكارة التي توضع عليها العجينة بعد رقّها وهلّها ثم لصقها بجدار التنّور.
صناعة التنانير
عشق الحاجة زلفا لتنّورها وخبزه دفعها لأن تقوم بإنشاء تنانير للطالبين على امتداد بلدتها، موزّعةً في أحيائها، فهي في عملها هذا لا تريد أجرًا ولا شكورًا “كلّ التنانير التي بنيتها كانت في سبيل الله لإنّني أريد الخير لأبناء بلدتي وأجري منهم أن يدعوا لي بطول العمر.”
وعن كيفية بناء التنانير تقول: “عملية بناء التنّور تحتاج إلى ثلاثة عناصر: تراب، أحجار وشعور ماعز. ففي ما خصّ التراب يجب أن يكون ترابًا من بقايا الأحجار من أجل التماسك وهو غير متوافرٍ في بلدتنا ونأتي به من الجرد. أمّا الأحجار فيجب أن تكون مرقّقةً وصلبةً لتتحمّل قوّة النيران. وشعور الماعز هي لزيادة قوّة التماسك ومنع تفكّك الخلطة”.
تتمّ عملية البناء وفق الخطوات التالية: رصف طبقة من الأحجار المرقّقة على شكل دائريّ لتشكيل جدران التنّور، ثم طليها بطبقةٍ من التراب المخلوط بشعور الماعز. و”نبقى نكرّر ذلك للحصول على ثلاث أو أربع طبقات تكون كافيةً لتحمّل الحرارة وقوة نيران الحطب المشتعلة في قعر التنّور”.
ثم تأتي المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة التدخين أو التبخير، التي تجري بإحضار كمّيّةٍ من روْث الأبقار وإشعالها في داخل التنّور وتغطيته من الأعلى حتى يبخّر دخان الروْث جدران التنّور المطلية من طين التراب وشعور الماعز. هذه العمليّة تساعد على عدم تشقّق الجدران وإبقائها شبه ملساء حتّى يلصق به الرغيف ويسهل نزعه.
وتضيف: “بنتيجة التنانير التي بنيتها في بلدتي ذاع صيتي في البلدات المجاورة، فراح بعض أهالي المنطقة يقصدونني لبناء تنانير خاصّة بهم، فاستجبت لهم على أن يأتوا إليّ بالمواد المخصّصة لذلك، لندرة توافرها عندنا. وأجري في عملي وتعبي على الله، لأنني لا أمتهن هذا العمل للعيش، بل ما أريده فقط هو توفير ما يرغب به أبناء منطقتي التي أنا منهم وهم مني”.
خسارة مساعِدتها
فقدت الحاجّة زلفا حميّة التي تجاوزت الثمانين من عمرها، منذ ستّة أشهر مساعِدتها أو يدها اليمنى كما تسمّيها، وهي ابنتها زينب، نتجية أزمةٍ قلبيّةٍ مفاجئةٍ، فتأثّرت لموتها كثيرًا، “هي رفيقتي وملازمتي، منذ عشرات السنين في الخَبز على التنّور، حيث كانت تتقن عمليّة العجن والرقّ والهلّ والخَبز بمهارةٍ عاليةٍ. وكنت أعتمد عليها كثيرًا. ومنذ يوم وفاتها، وأنا أشعر بالغربة والفقد، وكأنّ شيئًا أو جزءًا منّي قد ذهب على رغم أنّ اختها فاطمة، هي الأخرى، تقوم مقامها، فأنا علّمت جميع بناتي كيفيّة الخَبز على التنّور”.
تحكي “الحاجة” على خسارتها ابنتها ومساعدتها والدمع يترقرق في عينيها، داعيةً الله أن يبقي لها بناتها الثلاث الأخريات وأبناءها الأربعة “فلقد ضحّيت وبذلت الكثير لتربيتهم “.
قبل أن تنهي “الحاجّة” حديثها معنا تهدينا عددًا من الأرغفة والفطائر الساخنة الطازجة، ولسان حالها يقول: “كلو وادعولي وخبّرو عن خبزي وتنّوري”.