زينب فواز العاملية “درة الشرق”.. رائدة في الرواية والدعوة الى المساواة
لم تعد الأديبة والشاعرة والمنافحة عن حقوق المرأة، زينب فواز، ابنة جبل عامل، المولودة في تبنين، وعلى ما يقال بين الأعوام 1845 و1860 (لا يوجد تاريخ دقيق لولادتها)، والمهاجرة الى مصر، أرض الكنانة، مجهولة أو منسيّة، فقد كثرت الدراسات عنها، وحُققت كتبها ونشرت على نطاق واسع. لقبت ﺑ “درة الشرق”، لها مقالات في الأدب والإصلاح الاجتماعي ذات مكانة ثقافية رفيعة، جعلتها في طليعة رائدات التيار النسوي العربي كعائشة التيمورية ومي زيادة. ونؤكد هنا على ريادتها ونضالها كإمرأة مسلمة تحترم التقاليد في مجتمع شرقي في القرن التاسع عشر في مجالي الرواية والمناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة.
الروائية الأولى
لقد بات معلوماً أنها أول روائية عربية مع “حُسن العواقب” (1899)، بعد أن كان الظن أن رواية “زينب” (1913) لمحمد حسين هيكل هي الأولى. ونبدأ، مستعينين بكتاب د. مسعود ضاهر لفهم “هجرة الشوام الى مصر” (1986)، اذ يستند هذا المؤلف الى كم كبير من الوثائق والأرشيف، ويرى سببان لتلك الهجرة إلى مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، إما طلباً للحرية السياسية مثل بعض الكتاب والمثقفين والشعراء والصحافيين، وإما سعياً وراء الرزق، أي لأسباب اقتصادية بحتة، وقد أدوا أدواراً بالغة الأهمية في الحياة الأقتصادية والسياسية لمصر آنذاك. ويقول ضاهر “إن السوريين واللبنانيين أو الشوام في شكل عام عرفوا كيف يختارون موقعهم الطليعي في حركة مجتمع مصري ينمو بسرعة ويتبدل باستمرار على طريق العصرنة. فجمعوا ثروات هائلة من جهة، وكانت لهم منزلة مميزة في هذا المجتمع العربي”، ويبدو أن الإتجاه الى الفن الروائي، وهو ما فعلته زينب فواز، ترافق مع دخول مصر في موجة الحداثة وتوسع المكننة وانتشار المطابع والصحف.
ولا بد من سرد البعض اليسير من سيرتها، وهي سيرة نضال وكفاح لإثبات الذات والتفوق، اذ ولدت زينب بنت علي بن حسين بن عبيد الله بن حسن بن إبراهيم بن محمد بن يوسف فوَّاز في بلدة تبنين، كما أسلفنا القول، وفي يفاعتها خدمت السيدة “فاطمة بنت أسعد الخليل” زوجة حاكم البلدة “علي بك الأسعد”، وقد كانت صاحبة فضل عليها، فعلمتها القراءة والكتابة، ويبدو أنها نهلت ثقافتها من بيئتها، حيث المكتبات والمخطوطات متوافرة في بيوتات العامليين، ولا سيّما الأدباء منهم، فكونت عندها ثقافة اسلامية واسعة ومتعمقة.
لقد بات معلوماً أن زينب فواز هي أول روائية عربية مع “حُسن العواقب” (1899)، بعد أن كان الظن أن رواية “زينب” (1913) لمحمد حسين هيكل هي الأولى.
تزوَّجت زينب مرتين، الأولى من رجل تبنيني زوجتها اياه السيّدة فاطمة الأسعد، هو محمد محمود فواز، كان يعمل في خدمة زوجها الأمير، والمرة الثانية من “أديب نظمي الدمشقي”، بعد مراسلات واعجاب أثناء اقامتها في مصر حين التحقت بأخيها المحامي محمد علي فواز، الذي عاش وتوفي هناك بين عامي 1893 – 1894، غير أن الزيجة لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات قضتها في العاصمة السورية، انقطعت خلالها عن الإنتاج الأدبي، واكتفت بالمجالس الأدبية الأسبوعية التي نظمها زوجها لها، والتي ضمت نخبة من المثقفين والمتعلمين، وتقديراً لها ولنشاطها الأدبي، أطلق اسمها على مدرسة ابتدائية نواحي سوق مدحت باشا غير بعيد من حي الأمين، بالقرب من مكان سكنها الدمشقي.
درست في الإسكندرية الصرف والبيان والعروض على يد “حسن حسني الطويراني” صاحب جريدة “النيل”، كما درست على يد الشيخ “محيي الدين النبهاني” النحو والإنشاء.
تقول السيدة فوزية فواز، كاتبة جزء من سيرة بنت بلدها، ومحققة روايتها(1984)، في طبعة جديدة، إن شخصية هذه الأخيرة الأدبية اكتملت في مصر ونجحت في تناول شتى الموضوعات السياسية والإجتماعية، واتخذت من الصحافة منبراً لإسماع صوتها للناس، وكانت دائمة الحنين الى بلدتها تناجيها وتناجي قلعتها في قصائد مشهورة.
كتبت زينب في أكثر الصحف المصرية الذائعة الصيّت آنذاك، منها: “النيل”، و”لسان الحال”، و”المؤيد”، و”اللواء”، و”الأهالي”، و”الاتحاد المصري”، وفي مجلتَي “الفتاة”، و”أنيس الجليس”. وفيها عبرت عن آرائها في الإصلاح والتعليم، في الطلاق وتعدد الزوجات وفي العمل، وفي الحجاب والحرية والمساواة، والوطنية والصداقة والجوع والمرض، كما عبرت عن آراء سياسية جريئة تدعو الى طرد المحتل وتندد بمساوىء الإستعمار وتستنهض همم الأحرار في المجتمع المصري. وتعدَّدت أعمالها، منها: الروائية ﮐ “حسن العواقب أو “غادة الزاهرة” (1899) و”كورش ملك فارس” (1905)، والمسرحية مثل “الهوى والوفاء” (1893)، والسيرة نظير “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور”(1891)، ومجموعة مقالات بعنوان “الرسائل الزينبية” (1905)، وعدة قصائد، ولها آثار مخطوطة لم تنشر.
من رائدات النسوية العربية
دافعت زينب فواز عن فكرة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وطالبت بالسماح لها بالعمل خارج المنزل، والمشاركة السياسية انتخاباً وترشحاً. وبذلك، عدت النسوية العربية الأكثر راديكالية في القرن التاسع عشر، كما يقول الكاتب، تيسير خلف في مقالته” زينب فواز.. النسوية العربية “الأكثر راديكالية” في القرن التاسع عشر” (2023). ويورد ذاك السجال بينها وبين مواطنتها الكاتبة والناشطة النسوية هنا كوراني (1870- 1898م) حين أبدت هذه الأخيرة معارضتها لعمل المرأة ومشاركتها في العمل السياسي.
دافعت زينب فواز عن فكرة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وطالبت بالسماح لها بالعمل خارج المنزل، والمشاركة السياسية انتخاباً وترشحاً. وبذلك، عدت النسوية العربية الأكثر راديكالية في القرن التاسع عشر
وكانت كوراني قد نشرت عدة مقالات في جريدتي “لسان الحال”، و”لبنان”، مؤداها أن “المرأة لا تقدر على عمل خارجي مع أداء واجبات ما يلزم لخدمة الزوج والأولاد”، وأن “الواجبات المنزلية طبيعة للنساء ولا يجوز لهن أن يتخطينها، لأنها سنة قد سنها الله لهن، ولو تجاوزنها لتغير نظام الكون، وتبدلت نواميس الطبيعة”، بحسب تعبيرها، وأنها ضد دخول النساء معترك السياسة. وأتى رد زينب فواز، فكتبت في جريدة “النيل” القاهرية تحت عنوان “المرأة والسياسة” مدافعة عن حق النساء في العمل خارج المنزل، كما دافعت عن حق المرأة في المشاركة السياسية.
وكتبت: ” قد أجمع السواد الأعظم منهم (من الناس) على أن الرجل والمرأة متساويان بالمنزلة العقلية، وعضوان في جسم الهيئة الاجتماعية لا غنية لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذنْ من اشتراك المرأة في أعمال الرجال، وتعاطيها الأشغال في الدوائر السياسية وغيرها متى كانت جديرة لأنْ تؤديَ ما نُدبت إليه”. وهي ترى أن المرأة لا تبغي مزاحمة الرجل على مكانته، بل تقول في “الرسائل الزينبية” :” انما نحن جنسان مشتركان في هذه الحياة، لا يمكن لأحدنا الإستقلال دون الآخر، ولكل منا ملهى في مرسح الحياة يلهيه عن مزاحمة الآخر. وهكذا نحن شركاء في السراء والضراء”.
ولتؤيد مزاعمها كتبت فواز “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور”، ويُعد من الدراسات النسوية الرائدة التي تُقارب التاريخ من منظور نسوي عربي، حيث استعرضت دور النساء الفاعل في التاريخ الإسلامي، المليء بالنماذج النسوية كــ “أم عمارة” التي وقفت تدافع عن الرسول بعدما تركه الرجال في “غزوة أُحُد”، و”شجرة الدُّر” التي حفظت مُلْك مصر وأدت دوراً تاريخياً مُهمًاً في التصدِّي للحملة الصليبية السابعة على مصر. وغرضها في ذلك، كما تقول في المقدمة، تحقيق كتاب تجمع فيه سيرة “ﻣﻦ اﺷﺘﻬﺮن ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ، وﺗﻨﺰههنّ ﻋﻦ اﻟﺮذاﺋﻞ، ﻣﻊ أنه ﻧﺒﻎ ﻣﻨﻬﻦّ ﺟﻤﻠﺔ ﺳﻴﺪات ﻟﻬﻦّ المؤﻟﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺣﺎﻛين ﺑﻬﺎ أﻋﺎﻇﻢ اﻟﻌﻠﻤﺎء، وﻋﺎرﺿﻦ ﻓﺤﻮل اﻟﺸﻌﺮاء، ﻓﻠﺤﻘﺘﻨﻲ اﻟﺤﻤﻴﺔ والغيرة النوعية على تأليف سفر يسفر عن مُحيّا ﻓﻀﺎﺋﻞ ذوات اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻵﻧﺴﺎت واﻟﻌﻘﺎﺋﻞ، وﺟﻤﻊ ﺷﺘﺎت ﺗﺮاﺟﻤﻬﻦ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻪ اﻹﻣﻜﺎن، وإﻳﺮاد أﺧﺒﺎرﻫﻦ ﻣﻦ ﻛﻞ زﻣﺎن وﻣﻜﺎن”.
كتبت فواز “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور”، ويُعد من الدراسات النسوية الرائدة التي تُقارب التاريخ من منظور نسوي عربي، حيث استعرضت دور النساء الفاعل في التاريخ الإسلامي، المليء بالنماذج النسوية
ونهجت نقدياً ففندت الأسانيد التي تتحدث عن تفضيل الرجل على المرأة. ونادت بتعليم الفتيات، فالمستقبل مرهون بهنّ، وتعليمهنّ يعود بالنفع على الرجال: “وخصوصاً في تربية الأولاد، وتدبير المنزل، ومعاشرة الزوج، فبالنساء تأسيس بناء العائلات، وعليهنّ مدار الكائنات وبهنّ تلتئم القلوب، وتعمر الدور بل الممالك”، وإلى ذلك، كانت منفتحة على عصرها، نادت بتشجيع الفنون ومنها المسرح.
وفاتها
لم يمهل المرض الأديبة العاملية في تحقيق حلمها بالعودة الى تبنين والى قلعتها، فوافتها المنية في 27 كانون الثاني من العام 1914، فنعتها مجلة العرفان، الناطقة بلسان حال العامليين، كالتالي، وكما أوردته، فوزية فواز: “نعت الينا أنباء مصر المرحومة زينب فواز، الكاتبة الشاعرة المؤلفة، وأول امرأة اشتهر اسمها في عالم الأدب والكتابة في الصحف. وقد نالت شهرة بعيدة في حياتها، ونالت حظوة كبيرة عند كبراء مصر وسوريا. (…) هذه هي فقيدة الآداب العربية اليوم، التي لم يعرف لها أهل هذا الجيل حقها. لقد انتقلت الى جوار ربها عن عمر ذرف على الستين، تاركة آثاراً خالدة، وذكرى جميلة. تغمدها الله برحمته، وأسكنها فسيح جناته”.