ساحة النبطيّة في أدبيّات أهلها ومعايشهم وثقافتهم وانتفاضاتهم

لم تكن النبطيّة، عاصمة جبل عامل، يومًا منفصلة عن ساحتها، بل إنّ تاريخ الساحة يرتبط بعمر المدينة التي كانت في الأصل قرية ملتمّة، ثمّ تنامت وتوسّعت لتشكّل أهمّ حلقة وصل بين مناطق جنوب لبنان، إذ تكاد تقع على مسافات شبه متساوية من أهمّ المدن الجنوبيّة: صيدا وصور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيّا وجزّين.

وشكّلت الساحة الملتصقة بأقدم أحياء النبطيّة، حي السراي، أهمّ نقطة التقاء بين أهلها وسكّانها أوّلًا، وبينهم وبين جيرانهم في قرى الجوار والقضاء، إلى الوافدين إليهم وإليها من كلّ حدب وصوب، للمشاركة في أكبر أسواق لبنان وأقدمها “سوق الإثنين” التي كانت تقام فيها ولمّا تزل حتّى يومنا هذا، وللتبادل التجاريّ والاقتصاديّ، فضلًا عن أنّها كانت محطّة نقل أو وسيطة مواصلات من الدرجة الأولى ليس إلى المناطق اللبنانيّة وحسب، بل إلى فلسطين قبل احتلالها وكذلك إلى سوريا، وطبعًا إلى العاصمة بيروت وعاصمة الشمال طرابلس.

يشرق صباح النبطيّة من ساحتها، إذ منها تولد نهارات الحياة ودورتها بمختلف ألوانها، من سائقي السيّارات المتسرّبين إليها بدءًا من ساعات الفجر، يجتمعون فيها بالعشرات فيشكّلون شبكة نقل توصل الليل في النهار، ومعهم يفوح عطر البنّ، القهوة المرّة، يعدّها “قهوجيّون” محترفون، فتطيب مع لفائف سجائر “الشوفيريّة” وتتسرّب إلى البيوت القريبة لتعلن أنّ الصباح قام؛ إلى التجّار المشرّعين أبواب دكاكينهم والرزق باكرًا.

أسواق الساحة وأجنحتها

فيها كانت تقوم سوق الإثنين مطلع كلّ أسبوع، وكذلك كانت بحدّ ذاتها ساحة تجاريّة ثابتة، تتكوّن من الدكاكين والأسواق القديمة الرديفة قبل تلاشي معظمها: سوق الحدّادين والنحّاسين، سوق الغلّة (سوق الحبوب والإنتاج الزراعي) سوق الأحذية أو الكندرجيّة (الإسكاف) ومستلزماتها (سوق الكرستا)، سوق القصّابين (اللحّامين والجزّارين) والحلّاقين والأقمشة والحُصر (البوريّة)، إلى عديد من الأسواق كسوق الماشية المقامة على البيدر تلازمًا مع سوق الإثنين، وأسواق كانت تتوالد بحسب الحاجة إليها وتضمحلّ أو تتراجع مع نموّ أسواق حديثة وتبدّل أدوات الناس ومتطلّباتهم واحتياجاتهم.

صورة لساحة النبطية أربعينيات القرن الماضي (تصوير الراحل ماهر علي جواد غندور)

تتوسّط الساحة مجموعة منحدرات وتلال تشكّل أحياء المدينة وأجنحتها، من حيّ الميدان الأقرب إليها من جهتها الشماليّة الشرقيّة، إلى حيّ الصالحيّة والرويس من جنوبها حيث تقع أعلى تلال النبطيّة، وحيّ البياض من الغرب (المحافر)، فحيّ خلّة الهوا وتلّة العسكر من الشمال، إلى تلال خلفيّة تحوطها من جهات كفررمّان والنبطيّة الفوقا وزبدين والكفور وحبّوش. أمّا الساحة فكناية عن سهلة متواضعة ينتشر مداها من حيّ السراي نحو الشمال أو من السراي باتّجاه الشرق، ومن سفوح حيّ الميدان باتّجاه البيّاض مرورًا ببيدر النبطيّة الملاصق للسّاحة قبل انتشار العمران بينهما.

لذلك يعرفها كبار السنّ والسائقون تحديدًا باسم “السهلة”، وهي التسمية المتداولة وغير الرسميّة لساحة النبطيّة. أمّا محطيها القريب فكان مجموعة من البساتين والحقول الزراعيّة، لا سيّما تلك الحقول القريبة من منابع المياه وبخاصّة في الجهة الجنوبيّة والجنوبيّة الغربيّة أسفل حيّ السراي في “بئر القنديل”.

سهلة الـ “شوفيريّة”

قبل دخول السيارات إلى سهلة النبطيّة، كانت عربات النقل تتجمّع فيها وتنطلق نحو مناطق عدّة، وبشكل خاصّ نحو صيدا أو بنت جبيل، ثمّ قبل أواسط الثلاثينيّات بدأت تتسرّب إليها السيّارات الميكانيكيّة الواحدة تلو الأخرى، ثم أخذت تتعدّد حتّى تجاوزت العشرين قبل حلول الخمسينيّات. في هذا الوقت التحقت بها البوسطات (الأوتوبيسات) من واحدة إلى اثنتين حتّى وصلت إلى تسع حافلات أو عشر، قبل أن تحتلّ الباصات الصغيرة والسيّارات الحديثة الساحة قبل سيادة الڤانات. واليوم تحاول درّاجات النقل المعروفة بالـ “توك توك” ذات العجلات الثلاث، السيطرة على حركة النقل في الساحة والمدينة إن لم تكن قد أحكمت سيطرتها فعلًا.

كانت لسهلة النبطيّة زمنها الذهبيّ في مهنة القيادة وتعداد السائقين وسيّاراتهم، وكانت تزدحم بهم بل وبالمدينة بأكملها، إذ شكّلوا منها عصب المواصلات نحو أحيائها

كانت لسهلة النبطيّة زمنها الذهبيّ في مهنة القيادة وتعداد السائقين وسيّاراتهم، وكانت تزدحم بهم بل وبالمدينة بأكملها، إذ شكّلوا منها عصب المواصلات نحو أحيائها، وكذلك نحو القرى المجاورة والبعيدة، التي لم تكن فيها سيّارة أجرة واحدة حتّى مطلع السبعينيّات من القرن الماضي.

إلى حلقة الوصل التي شكّلتها ساحة النبطيّة الملاصقة لسكن أبنائها في حيّ السراي قبل انتشار السكن على الروابي والمنحدرات، سعى أبناء النبطيّة ومستثمرون منهم ولجوا حياة الاغتراب باكرًا وعادوا، كي يحوّلوا ساحتهم إلى سوق تجاريّة دائمة، استيحاءً من أسواق البلدان التي سافروا إليها للعمل وجني المال، فرفدوها بمجموعة أبنية تجاريّة، بدأت في القرن التاسع عشر، وهي كناية عن سلسلة أبنية متلاصقة متشابهة في قلب السهلة أو حولها وامتدادًا نحو حي السراي، أو باتّجاه الشرق أو الشمال.

ساحة بعمارة تقليديّة

بنيت عمارات الساحة التجاريّة على النمط التقليديّ السائد في حينه، نمط العمارة اللبنانيّة المطعّمة بألوان إيطاليّة وفي طليعتها القرميد، ومن سقوف قائمة على مجموعة “خانات”، أيّ غرف سقوفها منحنية من أعلى نحو الجدران، معقودة، من عقد واحد أو اثنين أو أكثر، كانت تستخدم متلاصقة لأسواق متلائمة، عدّدناها سلفًا، أو كمشاغل لحرف متنوّعة، وفي تخزين الحبوب، وكذلك في مبيت الزوّار والتجّار القادمين من مسافات بعيدة، أو كزرائب لخيولهم وجِمالهم ودوابهم. تطلّ على الساحة من أبواب خشبيّة ضخمة تعلوها مناور عريضة من حديد معقود مشغول يدويًّا، جرى استبدالها في العصور الحديثة بأبواب جرّارة أو من حديد ملحّم.

كانت للسهلة أبنيتها المميّزة وكانت شبه موحّدة من طبقة واحدة، تراثيّة بامتياز، قبل أن تتعرّض المدينة للقصف والاعتداءات الإسرائيليّة منذ العام 1974، ما خرّب كثيرًا من الدكاكين القائمة ومن نمطها المعماريّ العتيق، إذ كان يجري ترميمها سريعًا أو إعادة تعمير ما تخرّب بأسلوب العمارة الحديثة وموادّها الإسمنتيّة بامتياز، حتّى خسرت السوق القديمة كثيرًا من أبنيتها، وكان أشدّها إيلامًا وخسارة ما تعرّضت له الساحة من تدمير منهجي ليل الـ 12 من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2024 إذ أغارت الطائرات الحربيّة بقنابل زلزاليّة ثقيلة على عدد من مربّعاتها ودمّرتها بشكل تامّ، فيما أصابت أبنية أخرى بأضرار جسيمة، تضاف هذه الخسائر إلى خسائر أخرى تعرّضت لها الساحة في عدوان تمّوز (يوليو) 2006.

فندق زهرة الجنوب (أرشيف حمزة الحسيني)
الساحة أيّام مجدها

كان لقرب المدارس من ساحة النبطيّة، دور بارز في تعزيز الحياة فيها وفي انتشار المكتبات والمطاعم على رغم ضآلتها وحتّى المقاهي ومتاجر الألبسة والأحذية المستوردة لاحقًا، إلى عديد من المصارف ومحطّات الوقود، في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي مع تمدّد السوق بمسافة طويلة نحو الشمال على طول الشارع المعروف بشارع حسن كامل الصبّاح، وشرقًا نحو طريق “مرجعيون” انطلاقًا من ساحة المدينة التي بقيت المحور الأساس، ولمّا تزل حتّى اليوم مع انتشار متاجر الذهب فيها ومحال الألبسة والأجهزة التكنولوجيّة، والهواتف الخلويّة، ناهيك بالمطاعم ومتاجر اللحوم والأفران والمأكولات السريعة ودكاكين الفلافل.

وعلى سيرة الأفران، فإنّ الأفران الأولى في النبطيّة التي كانت تعمل على الحطب، نشأت في ساحتها وكانت تعدّ الخبز و”السفيحة” (اللحم بعجين) التي تشتهر بصناعتها مدينة النبطيّة، إلى “مشاطيح” رمضان في شهر الصيام والمناقيش و”كعك العيد” كذلك متاجر الحلويّات وكانت أشهرها “حلويّات الديماسي” و”حلويّات السيّد” (بدر الدين) عند مدخل حي السراي.

ساحة ليالي السينما ونهاراتها

لم تكن السهلة الساحة لتستكين في نشاطها الفنّيّ، ففي “حماها” قامت دور سينما عديدة، أحيت الساحة والمدينة في ليلها وكذلك في النهار، في المناسبات والأعياد، ومعها تفتح المطاعم والمقاهي إلى أوقات متأخرة، وكانت السهلة متلألئة في يوميّاتها وأفلامها.

النبطية في العام 1979 (أرشيف حمزة الحسيني)

كانت السينما تستقدم موسميًّا إلى النبطيّة، قبل الثلاثينيّات وفي الأربعينيّات، وتعرض في الهواء الطلق على سطح مبنى علي حسين صبّاح، إلى أن حلّ العام 1943، حين نشأت السينما الأولى في النبطيّة باسم “روكسي”، في خان سعيد محمّد نحلة. بعد عام، توقفت “روكسي” لتقوم مكانها سينما “أمبير” (1944)، وكان موقعها في الخان عينه، لكنّها لم تعش طويلًا، إذ أقفلت سنة 1952. بعدها أنشأ علي حسين صبّاح مع شركاء آخرين، دار سينما “كابّيتول” في العام 1957، من 420 مقعدًا. ثمّ قامت في العام ذاته، دار أخرى عُرِفت باسم “سينما أبو أمين” نسبةً إلى كنية صاحبها، لم تدم سوى أشهر قليلة. وبتاريخ الـ 13 من كانون الثاني (يناير) 1960، دشّن الراحلان عادل صبّاح ويوسف خضرا سينما “ريفولي”، ومقاعدها 523 بين صالة وبلكون. وظهرت في مطلع الثمانينيّات سينما “ستارز” ولم يطل أمرها.

لعلّ العدوان الإسرائيليّ الذي بدأت تتعرّض له النبطيّة منذ العام 1974 لعب دورًا سلبيًّا في إقفال مرابعها السينمائيّة التي تعدّدت في فترة الستينيّات، واستقرّت على اثنتين في مطلع السبعينيّات، ثمّ واحدة هي ريفولي لصاحبها عادل صبّاح قبل الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في العام 1982. ولم تفلح محاولات قامت هنا وهناك وفي أوقات متفاوتة، في إعادة الروح إلى سينما النبطيّة، بعد أن لعبت التكنولوجيا وعصرها الذهبيّ، من تنامي التلفزيونات ومحطّات البثّ العالميّة وتعدّدها، إلى أجهزة الفيديو، ثمّ الإنترنت، فالأجهزة الخلويّة المتطوّرة، في تراجعها وإقفالها.

ساحة للتظاهر والتضامن

توضح عشرات الصور من أرشيف ابن المدينة الفوتوغرافيّ اللامع الراحل ماهر علي جواد غندور النشاط الحزبيّ والثوريّ اليساريّ الذي شهدت عليه ساحة النبطيّة منذ أواسط الأربعينيّات وحتّى مطلع السبعينيّات، إذ بدأت عدسات جميل حنقير ورامز حوماني وحسن طفيلي وأحمد فرحات وغيرهم توثّق مع عدسات إعلاميّين لتظاهرات مزراعي التبغ وانتفاضتهم ضدّ احكتار الريجي، وأهمّها التظاهرة الشهيرة التي ضمّت في صفوفها عشرات الآلاف من المتظاهرين بين مزارعين وعمّال وموظّفين وقيادييّن من الحركات المطلبيّة وأحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، التي انطلقت من الساحة صبّاح الـ 24 من كانون الثاني (يناير) 1973 وتوجّهت بمسافة كيلومترين اثنين نحو مبنى “الريجي” عند المدخل الشمالي للنبطيّة (المثلّث)، حيث تعّرضت هناك إلى إطلاق نار من قبل القوى الأمنيّة اللبنانيّة فسقط بنتيجته شهيدان هما: نعيم نعمة درويش من حبّوش وحسن أحمد حايك من كفرتبنيت وعشرات الجرحى.

تظاهرة مزارعي التبغ في النبطية العام 1973

وثقت عدسة غندور عشرات التظاهرات في ساحة النبطيّة، حيث كانت تقام سوق الإثنين الأسبوعيّة، في المساحة المعروفة اليوم باسم “المنشيّة” لتناصر فلسطين وقضيّة شعبها واحتلالها منذ 1948، وتؤيّد الثورة الجزائريّة بين 1954 و1962؛ واحتجاجًا على حلف بغداد وغاياته الاستعماريّة التوسّعيّة العام 1955، ومع الثورة الكوبيّة بين 1950 و1955 وإلى جانب مصر والرئيس جمال عبد الناصر في “أزمة السويس” و”تأميم القنال” وضدّ “مؤتمر لندن” بين 1954 و1956. إلى قضايا الأساتذة والمعلمين وضد الغلاء والاحتكار، واستنكارًا لمحاولة اغتيال الرئيس رياض الصلح الأولى في آذار (مارس) 1950 واضراب المعلّمين ربيع العام 1953.

والثورة…

لم يطل الأمر، ومع اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة العام 1975، غصّت ساحة النبطيّة بمظاهرات عدّة ضدّ هذه الحرب وافتعالها واستنكار التعرّض للفلسطينيّين في مخيّمات بيروت وغيرها وتهجيرهم، إلى مظاهرات ضدّ العدوان الإسرائيليّ على لبنان وفلسطين.

وكانت الساحة قد ثارت بعد اعتقال رجالات الاستقلال في الـ 11 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1943 ضدّ الفرنسيين وانتدابهم على لبنان. وهاجم الثوّار من أبناء المدينة مقرّ الأمن العام الفرنسيّ وسط ساحة النبطيّة وأزالوا علم الانتداب وأحرقوه، ما أدّى لاحقاً إلى اعتقال عدد من أبناء النبطيّة، بينهم عادل صبّاح الذي اتّهم بتمزيق العلم وحرقه.

في هذه الساحة قاد ابن النبطيّة المناضل عادل صبّاح (1924- 2008) عشرات التظاهرات والتجمّعات الشعبيّة المؤيّدة لـ “ثورة 1958” المناهضة لحكم الرئيس كميل شمعون واستعانته بالقوّات الأميركيّة التي نزلت في بيروت دعماً له. تسلّم عادل صبّاح قيادة المقاومة الشعبيّة في النبطيّة، إلى جانب حبيب صادق ومهدي صادق والدكتور إبراهيم المعلّم ومحي الدين محي الدين وحسين سرحان؛ ليتحوّل بعدها إلى قائد للمظاهرات وكانت أضخم تظاهرة بعد سقوط النظام العراقيّ، نظام نور السعيد في الـ 14 من تمّوز (يوليو) 1958، ثمّ مع “الوحدة” مع العلم أنّها كانت ضدّ رغبة الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه صبّاح.

الساحة عينها كانت ساحة عمليّات المقاومة الوطنيّة ضدّ الاحتلال وسهولة اختباء المقاومين في أزقّة حيّ السراي الضيّقة والمتشعّبة

ساحة المقاومة والمقاومين

وثّقت عدسات الصحافيّين أحمد منتش وحمزة الحسينيّ وشوقي فحص وأدمون شديد وغيرهم أحداث الساحة التي تعرّضت مع أنحاء المدينة إلى القصف الإسرائيليّ المعادي منذ العام 1974 وللانتشار الفلسطينيّ فيها من خلال مكاتب حزبيّة وسياسيّة توزّعت في أرجاء الساحة وامتداداتها، وانتشار الآليّات التي تحمل مضادّات للطائرات في شوارعها، قبل وقوع الاحتلال الإسرائيليّ المباشر العام 1982 الذي وصل إلى العاصمة بيروت. الساحة عينها كانت ساحة عمليّات المقاومة الوطنيّة ضدّ الاحتلال وسهولة اختباء المقاومين في أزقّة حيّ السراي الضيّقة والمتشعّبة، فأصابت قواه العسكريّة والأمنيّة والمتعاملين معه في الصميم وبخاصّة في أرجاء الساحّة، وأوقعت في صفوف جنود العدوّ وضبّاطه خسائر فادحة وجسيمة.

ولا ينسى أبناء النبطيّة وروّاد سوق الإثنين القصف المدفعيّ الإسرائيليّ الذي تعرّضت له الساحة يوم الإثنين في الـ 24 من آذار 1986 بعد نحو عام على انسحابهم من النبطيّة تحت ضربات المقاومين، وتمركزهم على التلال المشرفة، وأدّى إلى سقوط شهيدين و32 جريحًا.

الساحة والتحوّلات العمرانيّة

أدخلت بلديّات مدينة النبطيّة المتعاقبة منذ العهد العثمانيّ ثمّ في عهد الانتداب الفرنسيّ، إلى بلديّات ما بعد الاستقلال، تعديلات عدّة على الساحة ونمطها التراثيّ. وتؤكّد مصادر عديدة أنّ ساحة النبطيّة وقبل دخول الإسمنت ومن ثمّ الأسفلت كانت مرصوفة بحجارة “سلطانيّة” عثمانيّة عريضة (حجارة كانت تستخدم في بناء القلاع والتحصينات والمساجد والقصور والطرقات والساحات إبّان الحكم العثماني) مثلها مثل حيّ السراي الأقرب إليها. لكنّها رُدمت لاحقاً واستُعيض عنها بطرقات معبّدة بالزفت.

من الصور النادرة التي بقيت من أرشيف ماهر غندور، ولا إثبات أو علم إذا ما صورها غندور بنفسه أو احتفظ بها عن غيره، هي لقطة للنبطيّة من زمن الحكم العثمانيّ أو بعده بعقد أو اثنين، تمثّل سوق الإثنين في المساحة التي تعرف اليوم بالمنشيّة. وما يلفت في هذه الصورة، أنّ أرض السوق كانت مرصوفة ببلاط صخريّ سلطانيّ عريض يمتدّ من دارة آل الفضل (القصر الجميل والكبير الذي هدم العام 1972) من أعلى الساحة إلى أسفلها، وكان ينتشر في كلّ امتداد وسط النبطيّة وصولًا إلى داخل حيّ السراي.

لكن أهمّ ما في الصورة هذه، هو وجود سبيل ماء “حميديّ” إلى الجانب الجنوبيّ من وسط ساحة “المنشيّة”، ويظهر جليًّا في الصورة. وإذا كان السلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني قد بنى سنة 1900 سبيل ماء في ساحة “السور” ببيروت، فثمّة خبر نقلته صحيفة “لسان الحال” العدد 10- 22 تشرين الأوّل  (أكتوبر) سنة 1888، أيّ بعد ثلاث سنوات من بناء السرايا العثمانيّة في النبطيّة، يفيد بما يأتي:

“اهتمّ حضرة قائمقامنا عزّتلو (صاحب العزّة) حسن بكّ بتصليح الطرق العموميّة، بين القرى ليسهّل على المسافر السير فيها آمنًا من الهلاك. وقد شرع بجلب عين ماء إلى ساحة سوق النبطيّة الذي يجتمع إليه عدد وافر من الباعة والمشترين في يوميّ الأحد والإثنين من كلّ أسبوع، حيث لا يوجد ماء لإرواء الظمآن، والشغل جار فيها بهمّة”.

لم نقع على معلومات تشير إلى تاريخ إزالة عين الماء هذه، أيّ السبيل، بعد انتهاء الحكم العثمانيّ عن لبنان في نهاية الحرب العالميّة الأولى سنة 1918، ومن هنا يُعتقد أنّ الفوتوغرافيّ الراحل ماهر غندور (1920- 1983) ربّما صوّرها وكان السبيل لمّا يزل موجودًا مع البلاط الصخريّ في أواسط الأربعينيّات من القرن العشرين، أيّ في بداية احترافه التصوير الفوتوغرافيّ.

“زهرة الجنوب” آخر فنادق الساحة

في ساحة النبطيّة دمّرت الجرّافات نحو العام 1982 أقدم فنادق المدينة “فندق زهرة الجنوب” الذي يطل على أركان الساحة من وسطها، بعدما أصيب بأضرار جسيمة بسبب القصف الإسرائيليّ على النبطيّة في العام 1979. ثمّ تحوّل الفندق هذا إلى تجمّع تجاريّ يضمّ باعة وخيّاطين وحرفيّين، بنى لاحقاً ذاكرته الجديدة التي تنامت سنة تلو سنة على الدرج القديم من أرث الفندق، وبقي صامداً على رغم غارات الـ 12 من تشرين الأول 2024 التي دكّت الوسط التجاريّ بأكمله، مُعلَّقاً بأثواب الحجارة المربّعة والمشذّبة والعتبات الطويلة، التي لو أتيح لها أن تشهد على الذاكرة لقالت كثيراً وكثيراً.

هذا الفندق بناه الراحل الحاج كامل وهبي في الأرجح، مثلما بنى عديداً من دكاكين السوق، منها على نفقته وباعها لاحقاً، ومنها لمصلحة مالكين من أبناء النبطيّة. كان حيدر حسن جابر من النبطيّة صاحب الملك الذي تقع تحته مجموعة من الخانات الضخمة ودمّرتها الغارات الأخيرة. وكانت هذه الخانات تستخدم في مبيت الخيول والدواب، أمّا أعلاها فكناية عن فندق قديم يعتمره القرميد الأحمر، كان يبيت فيه تجّار وزبائن قادمون من مناطق بعيدة عشيّة سوق الإثنين في النبطية

ولساحة النبطيّة قصص ووقفات وتبدّلات لا تنتهي ولا تعدّ.

محل للحدادة العربية في ساحة النبطية عام 1989 (تصوير كامل جابر)
مظاهرة في ساحة النبطية تضامنًا مع مصر وضد الحلف الثلاثي 16 آب 1956
تظاهرة في ساحة النبطية تضامنًا مع ثورة الجزائر 1956

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى