سجين مصعد كهربائي.. تسع ساعات من الرعب تحت القصف
هو رجل عادي، في حرب غير عاديّة، قرّر زيارة منزله في أحد شوارع الضاحية الجنوبيّة، التي تتلقّى القصف بوتيرة شبه يوميّة. دافعه الرئيس بسيط جدًّا، إذ عرف أنّ الكهرباء هلَّت على المنطقة التي يقع فيها بيته، فاتّخذ قرارًا سريعًا بأن يمرّ للإطمئنان على الأثاث، ويحمل في طريقه بعض حاجيّات تحتاجها عائلته في مقرّها الذي نزحت إليه، خصوصًا أنّ المبنى معرَّض للاستهداف والسقوط بين يوم وآخر، حاله حال عشرات الأبنية المحيطة به.
هكذا دخل مصطفى ع. مقصورة المصعد الكهربائيّ، وضغط على زرّ الطابق السادس حيث يقع بيته، فانقطعت الكهرباء ما أن بلغ الطابق الأول!
اتصالات بلا جدوى
هكذا توقّف الزمن في ساعة مصطفى الذي لم يكن قد أخطر أحدًا بقراره السريع، فما كان منه إلّا أنّ لجأ إلى هاتفه للاتصال بشقيقه، كي يسعى إلى حلّ المسألة، فالمبنى فارغ من سكّانه بشكل كلّيّ، كما حال المنطقة المقفرة. غير أنّ الشقيق لم يتنبّه إلى اتّصاله الطارئ، كونه قد أراح رأسه بإخفاء الصوت الذي يحمل الأخبار السيّئة من خلال ما يتناقله الأهل والاصحاب في مجموعات الـ”واتس آب” التي تحوّلت بدورها إلى مجموعات تفريغ و”فضفضة”.
اتصل بابنته الكبرى ولم تتنبّه هي الأخرى إلى هاتفها الذي تشحنه في غرفة مجاورة، لينقطع الإرسال في هذه اللحظة عن هاتفه، ربّما لانتهاء خدمة التواصل. جرّب كتابة رسائل عدّة إلى أبنائه، فلَم يصل أيّ منها، عرِف حينها أنه قد وقع في شرك عظيم، صنعه له الحظّ السيّئ، بالتعاون مع قراره المرتجل ذاك.
درجات الفزع
راحت الأفكار تتسارع في رأسه، فهو في مكعّب عزلة معتم بمواجهة أشكال مختلفة من المخاطر والمخاوف. أوّلها الاضطراب الطبيعيّ الذي يتملّك الإنسان في حال مثل هذه الحال، إذ يشعر المرء وكأنّه سيختنق بين تلك الجدران المتقاربة، وهي حال بسيطة نسبة إلى الشكل الثاني من الفزع حيث إنّ مصطفى بات سجين مصعد معطّل في مبنى معرَّض لاحتمال القصف، في توقيت الذروة العنفيّة، إذ كانت غالبية الاستهدافات تتمّ عصرًا، كحال اللحظة التي اتخذ فيها قراره. أمّا الشكل الثالث من الرعب كان في احتماليّة عدم وصول أحد إلى مكانه، فيموت ببطء دون دراية من أحد.
دقائق قليلة لم تفلح فيها محاولات الدماغ في إقناع الذات بأنّ حدثًا جيّدًا سوف يحصل وتنتهي الأمور على خير، على نحو كثير من المآزق التي نقع فيها، فتسعفنا الصدفة وننسى كلّ شيء ما أن نتخطّى الموقف الصعب.
أسدلت الظلال ستائرها على حياته، وبدأت الأفكار تعصف برأسه، تتراقص كأشباحٍ في زوايا عتمة المصعد. كلّ نبضة قلب كانت تجسّد صرخات الخوف، بينما كان يتنفس بعمقٍ محاولًا طرد مشاعر الفزع. في هذه العزلة القاسية، يقع الوعي في فخّ الافكار الجنونيّة، والحلول الأكثر تطرّفًا، لكنه لم يفلح سوى في إطلاق بعض الصرخات التي لم تبلغ مسامع أحد.
بحث بلا إجابات
بعد انقضاء ساعة أو أكثر، حاول الشقيق والابنة الاتّصال به فلم تنجح المحاولات، فراحو يهاتفون بمن يفترض أنّهم شاهدوه لآخر مرّة قبيل انقطاعه عن العالم. لا شيء يذكر، ولا أحد يعلم أيّ معلومة ربّما تفيد في عمليّة البحث، فانتقلت العائلة إلى مرحلة الهلع، وبدأت الإجراءات الميدانيّة، للبحث في المحلّ الذي يضع فيه بضائعه التي كان قد هرّبها من محلّه في شارع “المعمورة”، بينما تكفّلت ابنة شقيقه بمهمّة الاتصال بمستشفيات العاصمة، وهناك من تواصَل مع المخافر والجهات الأمنيّة.
مصطفى بات سجين مصعد معطّل في مبنى معرَّض لاحتمال القصف، في توقيت الذروة العنفيّة، إذ كانت غالبية الاستهدافات تتمّ عصرًا، كحال اللحظة التي اتخذ فيها قراره
ساعات قليلة انقضت من دون إجابات شافية. أمّا شقيقه فقد التفَت إلى احتماليّة زيارته منزله، فقصد المنطقة ليجد صدًّا من الشبّان المولجين بحماية الأبنية من السرقات، فسألوه عن هويّته ومراده وراجعو هاتفه، ليقرّروا أن سلامته هي الأهمّ، وأنّ المنطقة في دائرة الخطر، ولذلك طلبو إليه العودة من حيث أتى. كان الظلام قد خيّم، بينما وصلت إحدى بناته التي كانت هاربة صوب البقاع إلى بيروت للمساهمة في عمليات التفتيش، كما حال شقيقه الذي نزل من الجنوب للسبب عينه.
سيناريوهات الموت
اجتمعت العائلة في غرفة الانتظار، تتناقل الأخبار والأفكار، كلّ واحد منهم يحاول أن يتمسّك ببصيص أمل. وبينما كانوا يتبادلون الأحاديث، كان القلق يتزايد في قلوبهم كأنّما يتمدّد كدوّامة لا نهاية لها.
مرّت ساعات ببطء. سقطت الأضواء من عيونهم، وشعروا وكأنّهم في كابوسٍ طويل. كان التوتّر يتصاعد، وبدأت الأصوات تنمو في أذهانهم، تلك الأصوات التي تحمل ذكرى الأوقات السعيدة، والأحاديث المتبادلة، واللحظات التي جمعتهم سويًّا. سيناريوهات الموت أصبحت أكثر جدّيّة، بعد تلك الاسئلة التي لم تفز بإجابة واحدة.
رسالة تضيء في هاتف
في الواحدة بعد منتصف الليل، أيّ بعد انقضاء ما يقارب التسع ساعات انطلقت رسالة من هاتفه لتضيء في هاتف ابنته. تمّ تكليف ابنه للوصول إليه وانقاذه، فقصد أحد معارفه لاستعارة مفتاح مخصّص لأبواب المصاعد، ثمّ وصل إلى المبنى بالتنسيق مع شبّان الحراسة، وتمّ اخراجه قبل أن تدقّ الساعة على الرقم اثنين. خرج من ظلام إلى ظلام، سوى من نور بسيط متسلّل من هاتف الابن. لا شيء في وجهه يدلّ على الحياة، بينما قواه مستنفذة وأعصابه خائرة. مشهد لم نعهده سوى في أفلام “زومبي” حيث البشريّ يتحرّك بنصفيه الحيّ والميّت.
غادرا بواسطة سيارة مركونة عند أوّل الشارع. عبرا الأبنية المهدّمة، والرماد الذي يكسو جميع الأسطح. في بيت النزوح، الجميع يحضنونه ويهنئونه، بينما كانت عيناه جاحظتين، لا يرى أحدًا. تحوَّلت حدقتاه إلى نقطتي ذهول وصدمة. تناول لقيمات قليلة، وشرب ماءً كثيرًا، ونام حاضنًا ذاته التي تفسَّخَت في ذلك المصعد المعدنيّ.
كان المشهد سينمائيًّا بكلّ تفاصيله، كما لو أنّه تمّ تجسيده في لقطة قريبة تُظهر ملامح وجهه المتجمّدة بين الدهشة والرعب. لقد انقطعت الكهرباء فجأة، وعاد الزمن إلى نقطة الصفر، تاركًا إيّاه محاصرًا في قلب هذه الآلة الصامتة، التي بدت وكأنّها أصبحت سجنًا بلا أبواب.