سجّاد عرسال.. أيقونات تراثية جميلة بأصابع نسائها
غالباً ما ينسحق التراث وكل ما يتعلق به من حرف يدوية جميلة تحت عجلات الحروب والفوضى والانهيار. هذا ما يحدث في بلاد لا تقيم وزناً لحاضر أبنائها ومستقبلهم فكيف يستقيم معها الحال مع ماضيها وتراثها.. من المهن والصناعات الحرفية الجميلة التي كانت مزدهرة في بلدة عرسال الواقعة في البقاع الشمالي حرفة صناعة السجاد. هذه الحرفة التي تشارف على الانقراض والأفول شأنها شأن كل شي جميل في مناطقنا، تعاند من أجل البقاء والإستمرار في ظل غياب تام لأي مبادرة من شأنها المحافظة على هذه الحرفة اليدوية التراثية الجميلة.
صناعة السجاد في بلدة عرسال، تشكل جزءا أساسيًا من التراث الفني والجمالي الغني لهذه البلدة، بما تحتوية من زخرفات ورسوم ونماذج وأشكال تحمل سمات حياة وثقافة أهل تلك المنطقة والتي زيّنت أثاث بيوت كثيرة في لبنان.
التحدّي الأكبر الذي تواجهه هذه الحرفة التراثية، هو البقاء والاستمرار، والصمود بوجه الضغوط الاقتصادية الهائلة من جهة، وسيطرة الآلات الحديثة والتكنولوجيا من جهة ثانية. وما هي الخطوات والاجراءات الواجب على الدولة والقطاع الخاص اتخاذها للحفاظ على هذه الصناعة التراثية الفنية الرائعة وحمايتها من الزوال والاندثار؟
تاريخ صناعة السجاد في عرسال
قديماً كان غالبية أهالي عرسال يملكون قطعاناً من الاغنام، توفر لهم الصوف الجيد لصناعة السجاد، وكانوا يقصدون بلدة الفاكهة المشهورة بجودة صناعتها للسجاد العربي، حاملين معهم ما يجنونه سنويًا من الصوف، إما لبيعه لورش صناعة السجاد هناك أو لتصنيعه كسجاد يفرشون به بيوتهم، خصوصا أن بلدتهم تتميز بشتائها البارد جداً بسبب موقعها الجبلي المرتفع على السفح الغربي من السلسلة الشرقية لجبال لبنان، لذلك كانت حاجتهم كبيرة للسجاد السميك الذي يقيهم البرد والصقيع.
التطور الأبرز في صناعة السجاد في عرسال كان في أوائل ستينيات القرن الماضي، عندما بادرت إحدى فتيات عرسال إلى نقل هذه الحرفة إلى بلدتها بعدما تعلّمت أصولها في الفاكهة المجاورة، الأمر الذي أدى إلى انتشار أنوال الحياكة في البلدة، ومعها نشُط العديد من المشاغل التي وفّرت عشرات فرص العمل أمام نساء البلدة مما ساهم في مداخيل مادية لعدد كبير من العائلات.
في أوائل ستينيات القرن الماضي، بادرت إحدى فتيات عرسال إلى نقل هذه الحرفة إلى بلدتها بعدما تعلّمت أصولها في بلدة الفاكهة المجاورة، الأمر الذي أدى إلى انتشار أنوال الحياكة في عرسال
عملت هذه المشاغل الصغيرة التي يغلب عليها الطابع العائلي، حيث لا يتجاوز عدد عمال الورشة الواحدة خمسة عمال، على إنتاج السجاد من مختلف المقاسات والنقوش والاشكال، من السجاد الكبير بمقاس (خمسة أمتار بأربعة) للصالونات والغرف الكبيرة، إلى الأصغر حجمًا، كالقياسات ذات الشكل المستطيل (ثلاثة أمتار بمتر)، أو المصليات أي السجادة الصغيرة الخاصة بالصلاة، أو سجادة الزينة الصغيرة التي تعلق على الجدران.
عرفت صناعة السجاد في عرسال أوج ازدهارها في مرحلة امتدت من الستينيات حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، حيث كان يباع سجاد عرسال اليدوي في مختلف المناطق اللبنانية، وكان يشكل جزءًا أساسيًا، من جهاز العرائس وكان وجوده في البيت دليل عز وجاه لصاحبه.
على طريق الانقراض
السيدة حليمة الحجيري المسؤولة عن مشغل (حرف وتراث عرسال) والوحيد المتبقي في عرسال (يضم ثماني فتيات) والذي كان مخصصًا لحياكة السجاد وتم تحويله لصناعة البسط، برعاية الجمعية التعاونية للمونة الريفية في عرسال، شرحت لـ “مناطق نت” عن هذه الحرفة في البلدة وما شهدته من نجاحات واخفاقات.
تقول الحجيري “إن صناعة السجاد اليدوي تراجعت بشكل كبير في عرسال، نتيجة أسباب عدة منها، عدم وجود أسواق لبيع هذا النوع من المنتجات نظرًا لسعره المرتفع نسبيًا بسبب كلفته العالية، وهذا ما لمسناه من خلال مشاركتنا في المعارض التسويقية، حيث يفضل سكان السواحل والمدن السجاد خفيف الوزن والسماكة، على ذلك السميك والثقيل الذي نصنعه نحن في عرسال، والسبب في ذلك اعتدال الطقس والشتاء المقبول جداً على السواحل”.
من الأسباب أيضاً عزوف الفتيات عن امتهان هذه الحرفة الصعبة والدقيقة، والتي تتطلب مراسًا وصبرًا كبيرين، وهجرة معظمهن إلى مجالات عمل جديدة أكثر ربحا وأقل جهدًا، في ظل غياب تام لأي دعم رسمي لهذه الحرفة التراثية.
كساد الإنتاج
الخطر الأكبر الذي يواجه صناعة السجاد في عرسال اليوم هو كساد الإنتاج، الأمر الذي ينعكس على هذه الصناعة المهددة بالانقراض كلياً. وما يحول دون انقراضها هو جهود بعض السيدات اللواتي يحافظن عليها بحدها الأدنى حتى لا تندثر. حيث يقمن بتصنيع السجاد بالقطعة وبناءً لطلب مسبق من الزبون، وهذه الطلبات قليلة جدًا.
تشرح الحجيري حول تلبية طلبات الزبائن فتقول إنها تتواصل مع سيدة من بلدة الفاكهة تدعى نهلة دعاس سكرية “أم عمر” والأخيرة لا تزال تحيك السجاد في منزلها وفقط بناء لطلب الزبائن، وهي تصنعه بقياسات مختلفة، وأكثر ما تقوم بصنعه اليوم هو قطع من السجاد بمقاس ذراع واحد والذي يبلغ 67 سنتمترًا مربعًا، بسعر يقارب السبعين إلى المئة دولار للقطعة الواحدة.
التحوّل نحو صناعة البسط
جرّاء كساد الانتاج نتيجة ضعف التسويق، تقول الحجيري إنها تعلمت أصول حرفة صناعة البسط في إحدى الجمعيات في مدينة بعلبك، مشيرة إلى أن البساط كان يتم فرشه فيما مضى تحت السجاد من أجل عزل رطوبة الأرض منعًا للعفونة والتلف. وصناعة البسط تعتبر تاريخيًا أقدم من صناعة السجاد في عرسال وكان يقتصر العمل فيها على الرجال. تضيف الحجيري أنها درّبت مجموعة من الفتيات كنّ يعملن معها في مشغل حياكة السجاد، الذي حوّلته الى صناعة البسط حيث يتم حياكته على نول أصغر حجماً من النول المخصص للسجاد.
الخطر الأكبر الذي يواجه صناعة السجاد في عرسال اليوم هو كساد الإنتاج، الأمر الذي ينعكس على هذه الصناعة المهددة بالانقراض كلياً. وما يحول دون انقراضها هو جهود بعض السيدات اللواتي يحافظن عليها بحدها الأدنى حتى لا تندثر.
عن أنواع البسط تقول الحجيري “هناك نوعان، الأول مصنوع من صوف الغنم وهو المتداول حاليًا، كالسجاد اليدوي لكنه أقل سماكة ويسمى البساط الإحمر (لأن هذا النوع من البسط يصبغ بمعظمه باللون الأحمر)، وهناك ما كان يصنع من فضلات الأقمشة والثياب العتيقة التي يتم تمزيقها على شكل خيوط سميكة، وهذا النوع شبه منقرض حاليًا.
تضيف الحجيري إن التحول إلى صناعة البسط لاقى نجاحًا واقبالاً في المرحلة الأولى، أي منذ أكثر من 15 سنة، لكن عقبات كثيرة أبرزها الحرب السورية وما رافقها من ظروف أمنية وقدوم اللاجئين إلى عرسال أعاق العمل، حيث تعذّر معه الحصول على المواد الأولية لهذه الصناعة. لكن البارز في الموضوع هو أن إحدى الجمعيات قامت بتدريبنا على صناعة الأصبغة النباتية المصدر، وتحديداً من الاعشاب وأوراق الاشجار كواد أولية لصباغة الصوف المستخدم في حياكة البسط، والذي نشتريه من الرعاة فنغسله ونصبغه ونغزله ليصبح جاهزاً للحياكة على النول.
التسويق والأسعار
على صعيد التسويق تقول الحجيري إن هناك من يساعدهم في ذلك، أما على صعيد الأسعار فتوضح أن البساط المصنوع من الصوف يُعرض اليوم بسعر 150 دولار أميركي للمتر المربع الواحد، ومن الممكن أن يرتفع هذا السعر تبعاً للنقوش والزخرفات ونسب خيوط الحرير والقطن التي تدخل في صناعة البساط. تضيف الحجيري أن البساط يلقى رواجاً هذه الأيام نظراً لتعدد استعمالاته، فيمكن أن يوضع تحت السجاد، ويمكن أن يعلق على الحائط، خصوصاً بعد التفنن في صناعته وفي الرسوم والنقوش التي ترسم عليه.
عن ابتكار الرسومات والنقوش واختيارها تقول الحجيري “نحن نتفنن بذلك، كما توجد صفحة على الإنستاغرام تخص مشغلنا وهي “بساط الريح وخيط الزمن”.
بدورها وصفت منى مسلماني كبار، وهي خبيرة في فن حياكة السجاد البلدي بأنه تحفة فنية ثمينة ماديًا ومعنويًا لكل بيت يقتنيه، لافتة إلى أن ما يميز السجاد البلدي متانته وقوة مقاومته للزمن، وأنه غير قابل للاشتعال، خصوصا أنه مصنوع من الصوف الطبيعي مئة في المئة.
عن تفاصيل صناعة هذه الحرفة تقول كبار إن الصوف بعد جزّه يُغسل ويُمشط ويُغزل، حيث يجري كل ذلك يدويًا. بعدها تتم صباغته بالألوان التي يتم استخراجها من الطبيعة مباشرة أي من نباتات طبيعية كقشر الرمان، ورق البصل، الشمندر وقشر الجوز. بعد ذلك يُسدى على النول العربي حتى تتم حياكته بحسب الطلب من حيث الحجم والرسم والألوان، بحيث تكون الرسومات بمعظمها تقليدية تتوافق مع الذوق العربي والشرقي وأبرزها (البوكس، السبع بحرات، كاسات الورد والطرانيبه) ومؤخرا تتم الاستعانة في بعض الاحيان بنماذج رسومات حديثة بواسطة الكومبيوتر.
أهم ما يميز السجاد البلدي بحسب كبار أنه يحمل روح ومشاعر من يحيكه، فقطعة السجاد المصنوعة يدوياً تنساب فيها روح صاحبها. والذي يحيك السجاد تمتزج مشاعره مع كل رسمة وكل خيط يحيكه، بينما السجاد الصناعي والتجاري الذي يملأ الأسواق بأنواعه المختلفة وبأسعاره المغرية مادة بلا روح، حيث تدخل الآلة في صناعته من الألف الى الياء، بدءًا من الأصواف الصناعية الشديدة التأثر بالنار وغير المتينة بمعظمها، إضافة الى ألوانها ونقوشها ورسوماتها المعتمدة على الآلة والتكنولوجيا مما يفقد قطعة السجاد روح الفن والإبداع اليدوي والانساني.
ما يميز السجاد البلدي أنه يحمل روح ومشاعر من يحيكه، فقطعة السجاد المصنوعة يدوياً تنساب فيها روح صاحبها، والذي يحيك السجاد تمتزج مشاعره مع كل رسمة وكل خيط يحيكه
مناشدة الجهات الرسمية
الحجيري ناشدت الوزارات المختصة كوزارة السياحة والثقافة والشؤون الاجتماعية، لحماية هذه الحرفة التراثية من الاندثار وذلك عبر تقديم المساعدة المادية والضمان الصحي للعاملين فيها، وأيضاً المساعدة في التسويق والمشاركة في المعارض للتعريف بها.
بدورها ناشدت كبار الجهات المسؤولة كوزارة الثقافة والاقتصاد والصناعة حماية هذه الحرفة التي تُعتبر مفخرة، وإرثاً فنياً وثقافياً ومورداً إقتصادياً لهذه المنطقة.