سراي بعلبك الحكومي.. عن المنسيِّ والضّائع والمُتكرِّر من التّاريخ
الباحث في تاريخ بعلبك، سيّما الفترة العثمانيّة القريبة نسبيّاً، يلقى ما يلقى من العناء لتأكيد معلومةٍ من هنا وإشارةٍ من هناك، فإضافةً لشحِّ المصادر واقتصارها في بعض المفاصل التاريخيّة الهامّة على العموميّات والإشارات الغامضة، تغلب العشوائيّة ويغيب التبويب المنهجيُّ عن معظم الكتب التي سردت تاريخ بعلبك، ويبدو توجّه الكاتب (الأيديولوجي/الديني) –في بعضٍ منها- مؤثّراً على سردِ الأحداث، فتتضارب الروايات والمعلومات بين مصدرٍ وآخر، ويتركّز تأريخ كلٍّ على قومه أو طائفته أو مجموعته التي ينتمي إليها، فنصبح أمام أكثر من تأريخ لحدثٍ واحد، ما يُنتِج سرديّةً ناقصةً متضاربةً لا يؤخذ منها إلا عموميّاتها، ومرجع هذا كلّه الطابعُ الفرديُّ الذي اتّسمت به معظم جهود المؤرّخين وبعضهم من غير المتخصّصين، في غياب العمل المؤسّساتيِّ المستند على منهجيّة علميّة صرفة.
وليس هذا موضوعنا على أيّ حال، إنّما هي مقدّمةٌ استدعتها رحلة بحثنا الحثيث عن تاريخ المبنى المعروف بـ”سراي بعلبك الحكوميّ”، أحد أشهر الأبنية التاريخيّة في المدينة، والذي لا يزال يقوم بدوره حتّى اليوم، مع تحوّله منذ انتهاء أعمال ترميمه (بتمويل من السفارة الإيطاليّة في لبنان) عام 2021 من “مركز دائرة النفوس” إلى مبنى بلديّة بعلبك أو “قصر بعلبك البلدي”.
بشبابيكه الغائرة وأبوابهِ العاليةِ وواجهتهِ المثلّثة يقفُ مبنى سراي بعلبك أمام ساحةٍ سمّيت باسمهِ في مقابل سوق المدينة، زحمة السيارات والمشاة وقتَ الظّهيرة في السّاحة الضّيقة المحاطة بالمحلّات التّجاريّة شيءٌ ممّا يعلق في الذهن من المكان، أمّا المبنى فيبدو جادّاً ورسميّاً ومختلفاً بهيئته القديمة عن محيطه، كأنّهُ واقفٌ هناك منذ الأزل فيما تنمو حوله الأحياء والأسواق، وهو يتأمّلها بعيونه الغائرة.
وهو ليس موجوداً منذ الأزل طبعاً، لكنّنا لم نجد أيَّ معلومةٍ مؤكّدةٍ تحدّد تاريخ بنائه الفعليّ، ولم تُذكَر هذه الجزئيّة -أو ما يشير إليها- في أيٍّ من الكتب التي بين أيدينا، سوى ملاحظةٍ غامضةٍ ومقتضبة في كتاب ميخائيل ألوف “تاريخ بعلبك” -وهو وثيقة هامّة كتبت في أواخر العصر العثماني- الملاحظة تقول أنَّ “مصطفى حكمت أفندي القناواتي” عُيّن من قبل العثمانيين قائمقام بعلبك في كانون الثاني/يناير من عام 1884 واستُبدِل في تمّوز/يوليو من العام نفسه “وقد بنى في خلال مدّته داراً جديدةً للحكومة”، ولا ندري إن كانت الدارُ المذكورة هي نفسها السراي، ولكن مع طابع البناء العثمانيّ، وتقاطُع هذه المعلومة جزئياً مع التاريخ الشّفاهي (حيث يذكر بعض من سألنا من فعاليات المدينة أنَّ عمر المبنى يزيد بلا شك عن مئة عام) جعلنا نرجّح أنَّه موجود منذ عام 1884، مع الإشارة إلى أنَّ التاريخ الشفاهيَّ يقول أنَّ السراي بنيَ على أنقاض قصرٍ لأحد أمراء آل الحرفوش الذين حكموا بعلبك حتّى أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يطردهم العثمانيون ويستولوا على ممتلكاتهم.
بين الثأر والمشانق والحكومة المؤقتة
أوّل حدثٍ مفصلّيٍّ مؤرَّخ شهدته ساحة السّراي كان في خضمِّ الحرب العالميّة الأولى وتحديداً عام 1916 حيث نُصبت أعواد المشانق للخارجين عن طاعة العثمانيّين إبّان هذه الفترة العصيبة، وتفاصيل القصّة كما يرويها الدكتور حسين نصرالله في كتابه تاريخ بعلبك (مؤسّسة الوفاء – 1984) أنَّ أحد فتيان المنطقة الأعيان ويدعى “رشيد سلطانة دندش” كمَنَ ورجاله بين بلدتَي “رأس بعلبك” و”عرسال” لمفرزةٍ من 17 نفراً من الجند العثمانيّ فأبادوها عن آخرها، ثأراً لشبّان من آل دندش كان قائد الدرك قد أعدمهم، فاعتبرت السلطات هذه العمليّة شرارةَ ثورةٍ ضدَّ العثمانيين تبدأ من بلاد بعلبك، ما دفعها للتعامل بحزم وقسوة، فاعتقلت اكثر من 600 رجل من مخاتير وفعاليات بعض القرى وشكّلت محكمةً عرفيّةً حكمت بإعدامِ بعضهم وسجن آخرين، وعن هذا كتب نصرالله: “في كثيرٍ من الأيّام كان النّاس يستيقظون صباحاً فيشاهدون جثثاً تتدلّى تحت أعواد المشانق أمام سراي بعلبك”.
التاريخ الشفاهيَّ يقول إنَّ السراي بنيَ على أنقاض قصرٍ لأحد أمراء آل الحرفوش الذين حكموا بعلبك حتّى أواخر القرن التاسع عشر
ما لبث العثمانيون أن اندحروا منهزمين مع نهاية الحرب عام 1918 تاركين خلفهم فوضى أفسحت المجال لأعمال سلب ونهب المباني العسكريّة والحكوميّة بما فيها السّراي، وامتدت لتصل إلى بعض بيوت بعلبك، فتداعى وجهاء المدينة وشكّلوا في 3 تشرين الأول/أكتوبر حكومة محليّة مؤقّتة، تضم كلًّا من أسعد حيدر رئيساً وعبد الغني الرفاعي وميخائيل ألوف مستشارَين ومصطفى ملحم حيدر قائداً للدرك وأديب فرحات كاتباً، وخلال 4 أيام -وهي فترة حياتها قبل حلّها من قبل سلطات الانتداب- فتحت الحكومة مستودعات مؤن الجيش التركي لتهدئة الأهالي، وبعد حلّها عيّنت سلطات الانتداب رئيسَها أسعد حيدر قائمقاماً لقضاء بعلبك تابعاً لحكومة دمشق.
ثورات وحرائق متكرّرة
كانت موقعة بعلبك في 19 أيار/مايو من عام 1926 واحدةً من أبرز أحداث الثورة السّوريّة التي خرجت على الانتداب الفرنسي في العام نفسه، حيث هاجم مئات الثوار المسلّحين سراي بعلبك وثكنات الحامية الفرنسيّة فيها، وأحكموا الطوق على بعلبك فانسحبت قوات الدرك من السراي ودخلها الثوار مع بعض الأهالي، وكان أن اندلعت الفوضى في بعلبك بعد هذه الهجمة، فتمَّ في غمرتها إطلاق المساجين وإحراق مبنى السراي بما فيه من وثائق حكوميّة وعقاريّة وسجلّات محاكم ودوائر إجراء، ما يعدُّ نكبةً كبيرةً على المدينة ضاعت فيها حقوقٌ وطمست حقائق، ونُقل على إثرها مركز المحافظة من بعلبك إلى زحلة.
تداعى وجهاء بعلبك وشكّلوا في 3 تشرين الأول عام 1918 حكومة محليّة مؤقّتة، ضمت كلًّا من أسعد حيدر رئيساً وعبد الغني الرفاعي وميخائيل ألوف مستشارَين ومصطفى ملحم حيدر قائداً للدرك وأديب فرحات كاتباً
وكأنَّ مشهد إحراق السراي ومستنداتهِ وأوراقه، علق في ذاكرة المدينة المضمرة فتكرّرَ بشكلٍ عبثيٍّ مرّتين، أولاهما إبان حكم الرئيس كميل شمعون في الحرب الأهليّة المصغّرة المعروفة بأحداث عام 1958، حيث هوجم المبنى في أيار/مايو ونُهبت حتّى أبوابه وشبابيكه وبلاطه ومغاسله وأضرمت النار في مستنداته، والثانية في الحرب الأهليّة الكبرى وتحديداُ في الشهر الأخير من عام 1975.
في كلِّ مرّةٍ كان يعاد ترميم السّراي ليعود إلى عمله وتعود الحياة حوله إلى روتينها، تسقطُ مشانق وتنهارُ سلطنةٌ وينقشع انتدابٌ وتبدأُ حربٌ وتنتهي، تمرُّ سنواتٌ وعقودٌ وأجيال، وسراي بعلبك واقفٌ بأعمدته الداخلية العالية وأدراجه الطويلة يتأمّل بالعيون الغائرة نفسها وجهَ مدينةٍ تاريخها أثقل من أعمدة قلعتها، كأنّها شجرةٌ فروعُها تمتدُّ في شتّى الجهات وجذورها ضاربةٌ في أصل العالم.