سلاحف البحر عادت لتعشّش عند شاطئ المنصوري
غير آبهة بالحرب الدائرة جنوبًا، وهي لا تعلم أيضًا أنّها تدور قريبة من أعشاشها، أطلّت سلاحف البحر النادرة والمهدّدة بالانقراض كما العادة، وإن كان قبل موعدها بقليل، لتضع بيوضها على الشاطئ. لا تُنشد السلاحف أكثر من مساحة آمنة بعيدًا من لهيب الحرب، وبعيدًا كذلك من التعدّيات الشاطئيّة المزروعة كعلب إسمنتيّة، تُزيَّن بأنّها معالم سياحيّة، لكنّها ساهمت بتشويه الشاطئ وتقليص المحيط الحيويّ لسلاحف البحر وتراجع مساحة تعشيشها في موائلها الطبيعيّة.
في حضورها الموسميّ، تؤكّد السلاحف أنّها كائنات مسالمة عادت إلى موطنها الأوّل بفطرتها الأولى في دورة حياة ترقى لملايين السنين. قصدت حمى المنصوري على مسافة صفر من وقع المعارك ودويّ القصف اليوميّ، لم تتخّلف فأطلّت ومعها رسالة حياة وأمل كأنّها منذورة للحبّ والسلام.
حماية الأعشاش
وسط المخاطر المحدقة، يصرّ متطوّعون على مواكبة تعشيش السلاحف، وهم يمثّلون فريق عمل واحد، لم يتخلّف عن المواكبة والحماية، خصوصًا وأنّ الأعشاش تظلّ عرضة للمفترسات (ثعالب وغيرها)، ولا بدّ من حماية هذه الأعشاش وبيوضها.
ويضمّ فريق العمل متطوّعين من المجتمع المدنيّ، يعملون بالتعاون مع “اتّحاد بلديّات صور” و”كشّافة الرسالة” في منطقة المنصوري، وضمن مشروع Blue Tyre المدعوم من “وكالة التنمية الإيطاليّة” وبلديّة تريكازي في جنوب إيطاليا.
تحدي المخاطر
لم يتوانَ فريق العمل عن أداء مهامّه المعتادة، متحدّيًا المخاطر، لأنّ العمل البيئيّ ليس ترفًا، أو عملًا يمكن تأجيله، فهو مسؤولية والتزام، والعمل البيئيّ أيضًا لا ينفصل عن الجهود الجبارة في مواجهة الأوضاع الكارثية، وهو كذلك فعل صمود، ولا نستغرب أن يخاطر المتطوّعون بحياتهم من أجل بيئة سليمة، ومن أجل وطن على مساحة أحلامهم الكبيرة، أفلا تستحقّ بيئة لبنان وجمال شواطئه وبحره ورماله التضحية؟
حمى المنصوري
رسّخت “جمعيّة حماية الطبيعة” SPNL، مفهوم الحمى الطبيعيّة على امتداد الجغرافيا اللبنانيّة، ومنها “حمى المنصوري”، فقبل نحو عقدين، بادرت الناشطة منى خليل لتحمي الشاطئ المقابل لبيتها، وعملت من أجل إعلانه حمى بالتعاون مع SPNL، وسعت لوضعه على خارطة السلاحف البحريّة في المتوسّط.
وسط المخاطر المحدقة، يصرّ متطوّعون على مواكبة تعشيش السلاحف، وهم يمثّلون فريق عمل واحد، لم يتخلّف عن المواكبة والحماية، خصوصًا وأنّ الأعشاش تظلّ عرضة للمفترسات
تبلغ مساحة الحمى ما يقرب من 1,4 كيلومترات، ويتميّز بكون قسم منه شاطئًا للعموم، فيما الباقي نادرًا ما يرتاده الناس، نظرًا لأن مداخله تعتبر أملاكًا خاصّة تغطّيها البساتين، وهذا أمر أبقى بعض المواقع على الشاطئ بعيدة من الضوضاء، بحيث لا تزال السلاحف تؤمّه للتعشيش، ولا سيّما السلحفاة البحريّة ضخمة الرأسCaretta ، والسلحفاة الخضراء، واسمها العلمي Chelonia mydas، وهي كائنات تنأى بطبيعتها عن الأضواء والضجيج.
الموسم بدأ باكرًا
خلافا لمعظم الشواطئ اللبنانيّة التي هجرتها السلاحف بسبب التعدّيات والإضاءة والضجيح، لا تزال حمى المنصوري تمثّل الشاطئ الأهمّ في لبنان لناحية التعشيش. وحتّى اليوم رصد فريق العمل 11 عشًا محميًا ، منها عشرة أعشاش للسلحفاة ضخمة الرأس، وعشًّا واحدًا للسلحفاة الخضراء، وقام بحمايتها، وهذا العدد يعتبر باكورة الموسم الحاليّ، وهو العدد الأكبر لناحية التعشيش قياسًا مع جاراتها (محميّة صور ومحميّة العبّاسيّة)، خصوصًا وأنّ الموسم ما زال في بدايته، وعلى ما يبدو فإنّ الموسم بدأ باكرًا هذا العام، ما يفترض مراقبة التغيّرات على الشاطئ لسنوات عدّة، ومن ثمّ إعداد دراسة تلحظ المتغيّر بيئيًّا، وما إذا كان هذا الأمر على صلة بتغيّر المناخ أو بعوامل أخرى.
في حمى المنصوري، غالبًا ما يراوح عدد الأعشاش في الموسم الواحد بين 35 و60 عشًّا، وهو يبدأ في أواخر أيّار/ مايو من كلّ عام، ويمتد حتّى بداية شهر أيلول/ سبتمبر، ما بين تعشيش وتفقيس.
تنوّع بيولوجيّ
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ أهمية حمى المنصوري لا تقتصر على كونه ملاذًا وموئلًا لسلاحف البحر وحسب، وإنّما يمثّل قيمة بيئيّة لما يحفل به من تنوّع بيولوجي، مع وجود أنواع من النباتات البحريّة، بينها نباتات نادرة، فضلًا عن أنواع مختلفة من الطيور والكائنات البحريّة والحيوانات البرّيّة.
حماية السلاحف
يدأب فريق العمل اليوم من أجل حماية السلاحف، وعمله ضروريّ واستثنائيّ، لأنّه لا بدّ من حماية الأعشاش، ولا بدّ أيضًا من تنظيف الشاطئ وإطلاق حملات التوعية، إلّا أنّ النشاطات لن تكون موسّعة هذه السنة بسبب الحرب، ولذلك يقتصر العمل اليوم على حماية الشاطئ والأعشاش ومواكبة السلاحف، ذلك أنّ الظروف الأمنيّة لا تسمح للمتطوّعين البقاء فترات طويلة على الشاطئ، ولا تسمح كذلك بإقامة أنشطة بيئيّة مواكبة، والمخاطرة بحياة الناس، كما كان الحال عليه في الظروف العاديّة.