سلطة الرقابة على البلديات تقييد لعملها أم حجج واهية؟

مرحلتان من أصل خمس مراحل أُنجزتا من العمليّة الانتخابيّة البلديّة حتّى الآن، إذ بدأت في جبل لبنان ومن ثمّ في الشمال. وبانتظار استكمال بقيّة مراحل العمليّة الانتخابيّة، فإنّ قراءة سريعة للمشهد ونتائجه، تمكّننا من القول إنّنا ما زلنا في الدوّامة ذاتها، أو في المربّع الأوّل، إذ لا جديد تحت شمس الانتخابات، فالدوافع ذاتها والعقليّة أيضًا، وهي مزيج من التحالفات الحزبيّة، ترتدي ثوب العائليّة في مكان، وتخلعه في مكان آخر، حيث تدور رُحى المعارك، وغالبًا ما تكون الضحيّة الأولى فيها التنمية بكلّ أبعادها، ثمّ نعود ونتموضع في المأزق عينه، وننتج بلديّات مشوّهة بعيدة من وظيفتها التي أنشأت من أجلها.

تحدّيات كثيرة تنتظر البلديّات، من بينها الإطار القانونيّ الذي يُحدّد العلاقة ما بين البلديّات وسلطة الوصاية المتمثّلة بالقائمقام والمحافظ ووزارة الداخليّة، وهو ما يتذرّع به كثر من رؤساء البلديّات لتبرير عدم القيام بواجباتهم أو عدم القيام بمشاريع إنمائيّة مُعيّنة، وذلك بحجّة أنّ سلطة الوصاية تُقيّد عمل البلديّات. فهل تُشكّل تلك العلاقة والرقابة عائقًا حقيقيًّا أمام رؤساء البلديّات، أم أنّها مُجرّد ذرائع غير واقعيّة لتبرير العجز في تحقيق الانجازات؟

 بيروقراطيّة تُعرقل العمل

يرى رئيس بلديّة القاع (جارة الهرمل) الواقعة في البقاع الشماليّ عند الحدود مع سوريا، بشير مطر في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “هناك قرارات يمكن للمجلس البلديّ اتّخاذها وتنفيذها فورًا، وهناك نوعًا آخر يحتاج إلى موافقة مسبقة، سواء من القائمقام أو المحافظ أو حتّى وزارة الداخليّة”، مضيفًا أنّ “هناك نوعًا ثالثًا يمرّ بسلسلة طويلة من الروتين الإداريّ على رغم أنّها قرارات ربّما لا تحتاج إلى صرف أموال، مثل تسمية شارع أو تغيير أيّ بند في نظام موظّفي البلديّة”.

مطر: الحلّ يكمن في اللامركزيّة الإداريّة وتوسيع صلاحيّات المجالس البلديّة، سواء على الصعيد الإداريّ أو الماليّ

ويلفت مطر إلى أنّه في حال وجود “خلاف بين رئيس البلديّة وسلطة الوصاية، فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى تعطيل عمل البلديّة، إذ هناك بعض الأمور التي يمكن حلّها باتّصال بين رئيس البلديّة والقائمقام والمحافظ، وإذا أراد الأخير يمكن أن يؤخّرها إلى وقت طويل”. ويوضح مطر أنّ “الحلّ يكمن في اللامركزيّة الإداريّة وتوسيع صلاحيّات المجالس البلديّة، سواء على الصعيد الإداريّ أو الماليّ، فعلى سبيل المثال، في بلدتنا هناك كثير من العقارات التي تعود ملكيّتها إلى الجمهوريّة اللبنانيّة ومن الصعب نقلها إلى اسم البلديّة بسبب الروتين الطويل في هذا المجال”.

الطابع الشخصيّ يحكم العلاقة

من جانبها، ترى رئيسة بلديّة المجدل في قضاء الكورة، والمنتخبة منذ العام 2016، نجاة الزغبي، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “العلاقة بين رئيس البلديّة وسلطة الوصاية تعود إلى شخص القائمقام والمحافظ ودرجة تعاونهما وقربهما من رؤساء البلديّات وإرادتهما بتذليل العقبات”. وتلفت إلى أنّه “في حال وجود علاقة سلبيّة بينهما فربّما يؤدّي ذلك إلى تعطيل الأعمال، فكلّ أمر كبير نودّ القيام به علينا العودة إليهما، وعلى سبيل المثال كان لدى البلديّة مولّد كهربائيّ، وعند تفاقم أزمة المازوت وارتفاع سعر صرف الدولار، قرّرت أن أبيعه نظرًا إلى حجم الخسائر التي يُكبّدها للبلديّة، فأراد المحافظ إلزامي بالقيام في ثلاث مناقصات وفضّ عروض وغيرها من الروتين الإداريّ الذي يحتاج إلى وقت طويل لإنجازه”.

إلى جانب ذلك، تلفت الزغبي إلى أنّ بلديّتها صغيرة، ولا يوجد فيها مؤسّسات ومحالّ تجاريّة ممّا يجعل مواردها محدودة للغاية، وعلى رغم ذلك فـ “ينبغي عليّ أن أرسل جميع القرارت التي تتضمّن صرف الأموال إلى القائمقام لأخذ الموافقة قبل صرفها، ولكنّني لا أقوم بذلك وأقوم بالصرف على مسؤوليّتي الشخصيّة ومن ثمّ أرسل القرارات إلى المقائمقام، فالمبالغ محدودة جدًّا والمرور بهذه الآليّة يحتاج إلى وقت طويل”.

وتطالب الزغبي، مثل مطر من قبلها، بضرورة “تعزيز اللامركزيّة، فرئيس البلديّة يعرف كلّ تفاصيل البلدة ومشاكلها وحاجاتها، وأيّ قرار بلديّ سيخضع إلى مزاجيّة سلطة الوصاية، لذا فالأفضل إعطاء البلديّة صلاحيّات أوسع مع الإبقاء على بعض الضوابط القانونيّة”.

قانون الشراء العام وصلاحيّة البلديّات

في السياق، يرى عديد من رؤساء البلديّات أنّ قانون الشراء العام يزيد من الرقابة على أعمالهم وهذا ما يزيد من سلطة الوصاية عليهم. وفي هذا الصدد، يؤكّد مطر أنّه “من الصعب تقييم هذا القانون بالنسبة إلى بلديّتنا، فمنذ إقراره تقع البلديّات بعجز ماليّ كبير نتيجة الأزمة الاقتصاديّة، وهذا ما يجعل أعمالها تنحصر في الأمور الضروريّة جدًّا مثل دفع الرواتب والأجور، فاختبار قانون الشراء العام بشكل جدّيّ يظهر عندما نقوم بمشاريع كبيرة”.

هذه الرؤية لا تتّفق مع رأي رئيس هيئة الشراء العام، جان العلّيّة، الذي أشار في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “هذا القانون يطبّق على جميع البلديّات بصرف النظر عن حجمها أو عن المبلغ الذي تقوم بصرفه”. ويلفت إلى أنّ “القانون لا يحدّ من صلاحيّة البلديّات كإدارة محلّيّة، خصوصًا أنّ عمله يُعنى بالرقابة اللاحقة”.

ويوضح العلّيّة أنّ “قانون الشراء العام، الذي صدر في العام 2021 ودخل حيّز التنفيذ في العام التالي، لا يتدخّل بالعمل البلديّ، فهو ليس سلطة وصاية ولا سلطة رقابة مسبقة، وإنما يفرض على رؤساء البلديّات أن يقوموا بنشر خطواتهم من شراء بالفاتورة أو إجراء مناقصة أو غيرها من آليّات وطُرق الشراء على الموقع الالكترونيّ للهيئة، وهي تقوم بتدقيق لاحق على إنفاق المال العام”. ويلفت إلى أنّه “قبل هذا القانون كانت البلديّات تخضع لرقابة القائمقام والمحافظ وديوان المحاسبة والتفتيش المركزيّ، وما فعله القانون هو أنّه أضاف هيئة الشراء العام إلى هذه الرقابة”.

عويس: أهمّ إصلاح على المستوى البلديّ هو أن ينتخب المواطنون حيث يقطنون بعد سنة على سكنهم فيها

وحول مدى التزام البلديّات بهذا القانون، يوضح العلّيّة أنّ “الهيئة في صدد إصدار تقرير لتبيان ذلك، ولكن انطباعي الشخصيّ أنّ نسبة التزام البلديّات الصغيرة معقولة، فالبلديّات الصغيرة عادةً ما تحرص على عدم مخالفة القانون”. أمّا في ما يتعلّق بالبلديّات الكبرى فيفضّل العلّيّة انتظار نتائج التقرير.

تعزيز الرقابة اللاحقة

من جانبه، يقرّ مدير “المركز اللبنانيّ للدراسات”، مكرم عويس، في حديث لـ “مناطق نت”، “بوجود رقابة مسبقة على مشاريع البلديّات المموّلة من الدولة في لبنان، أيّ من الصندوق البلديّ المستقلّ، في حين أنّ بقيّة البلدات تُطبّق الرقابة اللاحقة، أيّ بعد تنفيذ المشروع، وهذا الأمر يحدّ من قدرة البلديّة على المبادرة، وهنا تكمن الإشكاليّة التي ينبغي إيجاد حلّ لها”. ويلفت إلى أنّه “يجب تطبيق اللامركزيّة التي لها طابع إداريّ، وفي ما يتعلّق بالشقّ المالي يجب أن يكون هناك رقابة لاحقة ضمن سقوف إنفاق مُعيّنة”.

ويلفت عويس إلى إشكاليّة أخرى مُتعلّقة بالبلديّات تتمثّل في “وجود عدد كبير من المواطنين ممّن يقطنون في نطاق إحدى البلديّات في حين أنّهم يصوّتون في الانتخابات في مكان قيدهم، وهذا يعني أنّ البلديّة بشكل عام لن يكون لديها حافز لتقديم الخدمات لهم، وسيصبّ معظم اهتمامها بأبناء البلدة ممّن ينتخبون فيها”. وأضاف “في المقابل، إنّ هذا الأمر يجعل المواطنين يشعرون بأنّهم غير مرتبطين بالبلدة، كما أنّهم سيصوّتون في بلدتهم حيث قيدهم في حين أنّهم يجهلون مدى فعاليّة البلديّة هناك، وأعتقد أنّ أهمّ إصلاح على المستوى البلديّ هو أن ينتخب المواطنون حيث يقطنون بعد سنة على سكنهم فيها”.

تمّ إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرّيّة التعبير في لبنان”، موّل الاتّحاد الأوروبّيّ هذا التقرير. وتقع المسؤوليّة عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسّسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتّحاد الأوروبّيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى