سلوى الشمالي..شاهدة على مجزرة الدفاع المدنيّ في دورس

“حملتُ أشلاء أخوة عشت معهم أكثر من 15 عامًا. فهم ليسوا مجرّد زملاء، بل عِشرة عمرٍ مليئةٍ بالعلاقات الطيّبة والذكريات الجميلة والصعبة حيث “الترويقة سوا” و”فنجان القهوة سوا” لسنين طويلة”. هكذا تصف سلوى الشمالي لـ “مناطق نت”، اللحظات المؤلمة التي عاشتها حين خسرت زملاءها، في الـ 14 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. يومها، استهدفت قوّات الاحتلال الإسرائيليّ بشكلٍ مباشر، مركز الدفاع المدنيّ الإقليميّ في بلدة دورس في قضاء بعلبك، بغارةٍ استُشهِد على إثرها 14 عنصرًا، بينهم رئيس المركز بلال رعد، وأصيب عنصر آخر ونجت هي.

بعد مرور أقلّ من أسبوعين على ذلك اليوم الأسود بالنسبة إلى سلوى، توقّف إطلاق النار، وبدأ اللبنانيّون يحاولون استعادة حياتهم بعد أن أنهكتهم الحرب. سكتت أصوات المدافع والقذائف، لكنّ حكايات الحرب ومآسيها لا تزال تتردّد أصداؤها، وستبقى إلى وقتٍ طويلٍ جدًّا تنزف من تحت الركام. وكلّما استمعنا إلى واحدة، تتدفّق خلفها عشرات، بل مئات القصص التي تحمل في طيّاتها كثيرًا من الأسى، وتنتظر أن تُروى.

تتحدّث الشمالي عن أنّها موظّفة فعليًّا منذ سنة، وقبل ذلك كانت متطوّعة لـ 15 سنة في مركز الدفاع المدنيّ في دورس، وعن “أنّ الجميع منذ بداية الحرب التزم بالدوام المطلوب، وكانوا على جهوزية تامّة لأيّ تطوّر أمنيّ في بعلبك”. وتشير إلى أنّهم “قبل الحادثة الفاجعة تلقوا تهديدًا مباشرًا وطُلب إليهم إخلاء المركز، فانتقلوا لمدّة إلى إحدى ثكنات الجيش اللبنانيّ في المنطقة وشعروا بالاطمئنان، ثمّ عادوا إلى مركزهم بعد فترة لمتابعة عملهم”.

سلوى الشمالي أمام ركام مركز الدفاع المدني في دورس

تمّ تقسيم العناصر أثناء الحرب إلى مجموعات، وكلّ مجموعة تضم ثمانية عناصر، تولّت الشمالي مهمّة الاتّصالات لتيسير كلّ العمليّات فتُوَجِّه عناصر أقرب مركز للدفاع المدنيّ إلى مكان الغارة أو الحريق الناتج عنه.

شاهدة على المأساة

تتذكّر سلوى جيّدًا ذاك اليوم بتفاصيله الموجعة، “على الرغم من أنّ الذاكرة البشريّة تعجز عن احتواء هذا الكمّ الهائل من الألم والقسوة” تقول.

وتروي بنبرةٍ حزينة مليئةٍ بالحسرة أنّه “طوال فترة الحرب لم يملك العناصر وقتًا كافيًا للراحة، وحينما حاولوا أخذ استراحةٍ قصيرة دفعوا حياتهم ثمنًا لها”. فقبل وقوع هذه المجزرة، أغارت الطائرات الإسرائيليّة على حيّ الشعب في بعلبك، حينها كانت سلوى في مكانٍ قريبٍ من الغارة، فانتقلت لملاقاة زملائها وإسعاف المصابين. وبعد انتهائهم من مهامهم، عاد العناصر إلى المركز باحثين عن دقائق قليلة يستريحون خلالها من هول ما رأوه، بينما ذهبت سلوى إلى منزل شقيقتها.

10 دقائق و14 شهيدًا

وبصوتٍ يكاد يختنق تقول “لم تمرّ 10 دقائق حتّى أغارت طائرات الموت الإسرائيليّة على المركز قرابة الثامنة مساءً، فاستشهد 14 عنصرًا من رفاقي، بينهم رئيس المركز بلال رعد وأصيب شخص واحد”. تتابع سلوى بما تسعفها به ذاكرتها، فتشير إلى أنّها توجّهت إلى المركز للبحث بين الأنقاض عن زملائها، لكنّ الليل كان حالكًا ولم يتمكّن أحد من رؤية أيّ شيء. “حاولنا أن نجد أيّ ناجٍ من هذه الغارة تحت الركام إلّا أنّنا عجزنا عن ذلك، فما كان أمامنا سوى انتظار بزوغ الفجر لنباشر عمليّة البحث ومحاولات الإنقاذ”، تضيف سلوى.

الشمالي: لم تمرّ 10 دقائق حتّى أغارت طائرات الموت الإسرائيليّة على المركز قرابة الثامنة مساءً، فاستشهد 14 عنصرًا من رفاقي، بينهم رئيس المركز بلال رعد وأصيب شخص واحد

كانت ساعات انتظار انقشاع الظلام ثقيلةً جدًّا، وهي تعرف أنّ زملاءها تحت الركام؛ وطالت ساعات الليل. تقول سلوى “مع إنّنا في نهاية الصيف، وحين بدأت خيوط الفجر الأولى تتسلّل ببطء، بان حجم المجزرة، وانطلقت أعمال إزالة الأنقاض”.

المركز كومة ركام

صُدمت سلوى بما شاهدته عيناها من هول الدمار وحجم الكارثة، فالمركز الذي خدمت فيه سنوات وسنوات أصبح كومة من ركام، ورفاق الكفاح الذين عاشت معهم أوقاتًا طويلة، وتعرفهم واحدًا واحدًا، تحوّلوا إلى أشلاءٍ متناثرة في مشهدٍ لا تزال تراه كلّما أغمضت عينيها. تقول “جمعت بين يديّ كثيرًا من الأشلاء ولم أعرف كثيرًا منها لمن تعود، وأيضًا أغراضهم الشخصيّة التي لم أميّز من تخصّ”.

على الرغم من كلّ ما عاينته سلوى من أهوال ومن صور قاسية، استمرّت في عملها إلى أن أُصيبت بانهيارٍ عصبيّ “من بشاعة وفظاعة ما رأيت وكنت شاهدةً عليه، فدخلت إلى المستشفى”.

سلوى الشمالي في مركز الدفاع المدني في دورس والذي تحوّل إلى كومة من ركام
أنقاض الحرب وأوجاع الفقد

“كيف أنسى؟ كيف يمكن أن أكمل حياتي وكأنّ شيئًا لم يكن، بعد مروري بتجربةٍ مماثلة؟”، تتساءل سلوى. هي لم تنسَ تفصيلًا واحدًا من تلك الليلة المشؤومة، “لا تزال جميعها مطبوعةً في ذاكرتي ولا يمكنني أن أتخطّاها، خصوصًا مشهد بقايا زملائي التي انتشرت واستقرّت عند أسطح البيوت المجاورة للمركز”.

تروي سلوى أنّها “من هول ما شاهدتُ، لم أصّدق حين أخبروني بأنّ أحد العناصر لا يزال حيًّا ونُقل إلى المستشفى لتلقّي العناية اللازمة، لم أكن أتوقّع أن ينجو أيّ أحد من تحت تلك الأنقاض، وبأن يكون جسده سليمًا”.

على الرغم من الجراح التي أصابت روحها، والوجع الذي تشعر به بشكلٍ مستمرّ، لا تزال سلوى مندفعةً في تأدية خدماتها الإنسانيّة، تكافح يوميًّا لتتمكّن من مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس، وتواجه تحدّياتٍ تكمن في نقص الآليّات وسيّارات الإسعاف، والمعدّات الضروريّة لتأدية المهام على أكمل وجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى