سماء البقاع تفتقد طيورها البلدية وتوازنها البيئي

منذ سنوات، لم تعد سماء منطقة البقاع وتحديدًا منطقة غرب بعلبك تتمتّع، “بعجقة” طيورها التي كانت تزيّن جوّها بأنواعها وتحليقها وتملأ آذان أهل المنطقة زقزقة وتغريدًا كسمفونيّةٍ موسيقيّةٍ تُطرب القلوب والآذان.
فطيور السّنونو والحسّون وأبو الحنّ والكناري والشحرور وسواها من الطيور المحلّيّة ذات الجمال الخاصّ والأصوات الفريدة غابت عن سماء البقاع في السنوات الأخيرة مخلّفةً بغيابها فراغًا جماليًّا ونقصًا بيئيًّا لمكوّنات الطبيعة التي لا يكتمل بناؤها وتشكيلها إلّا بوجودها المتمّم للتوازن البيئيّ.
وبحسب الخبير البيئيّ في عالم الطيور المهندس مصطفى غصن، فإنّه يعيش في لبنان نحو 407 أنواعٍ من الطيور بين مقيمةٍ وزائرةٍ ومهاجرةٍ، عبر ممرّ الحوض الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط. وأبرز هذه الطيور طائر السّنونو والغُراب والغراب السوريّ المعرّض للانقراض. فضلًا عن أنواعٍ أخرى معظمها يعيش في الأماكن الزراعيّة والحقول والبساتين.
طيور غابت عن البقاع
ويؤكّد غصن لِـ “مناطق نت”، أنّ “أبرز الطيور التي غابت منذ سنوات عن المنطقة، طائر الرفراف الأبيض، أو الرفراف ذو الرقبة الطويلة، الذي كان يبيض في لبنان، إلى جانب الحسّون والكناريّ، والطيور الصوتيّة الجميلة الأخرى، التي كانت تؤنس الناس وتأنس بوجودهم، سواء قرب الأشجار والينابيع، أم قرب المنازل والأماكن المأهولة، حيث التناغم اليوميّ طوال النهار بين الطير والإنسان”.
ولوحظ غياب هذه الأنواع خلال السنوات الستّ الأخيرة، وذلك بشكلٍ مطرد، ما دفع كثيرين إلى القلق حول تناقصها دون سابق إنذار، ما ترك جملةً من التساؤلات عن أسباب ذلك، وكيفيّة عودتها أو إعادتها إلى طبيعتنا التي تلازَم وجودها معها منذ القِدَم.

فوائد وجود الطيور
ويشير غصن إلى أنّ “للطيور فوائد جمّةً، ودورًا أساسيًّا في التوازن البيئيّ، لا سيّما في منطقةٍ كالبقاع. ومن أهمّ فوائدها أنّها تكافح الآفات، وبعض الأمراض التي يتعرّض لها الإنسان والتربة والحيوان، وتلعب كذلك دورًا مركزيًّا في التلقيح الذي يجري في عالم الأشجار والنبات والأزهار. وتسهم في نشر البذور، وتدوير النفايات المرميّة في المناطق الزراعيّة والسهول، لذلك فإنّ غيابها ينعكس سلبًا وضررًا على البيئة، وتحديدًا على التربة، وبالتالي على الإنسان كونه ينتمي إلى الأرض في مأكله ومشربه”.
“يضيف “من هنا فإنّ غياب الطيور يُحدث خللًا في دورة التكامل والتفاعل بين العناصر البيئيّة، ما يدفع الإنسان والمزارع تحديدًا، إلى استخدام المبيدات والموادّ الكيميائيّة للقضاء على الحشرات، وهذا ما يعرّض التربة للتسمّم وبالتالي إلى تسمّم الإنسان الملتصق بمنتوجات الأرض وعناصرها الطبيعيّة.”
أسباب غياب الطيور
ويرى الخبير غصن أن ثمّة “أسبابًا رئيسةً وراء الغياب الواضح للطيور عن سمائنا ومناطقنا، منها الصيد الجائر في ظلّ غياب الرقابة والمحاسبة الرسميّة، لمنع قتل هذه العناصر المتمّمة للحياة والطبيعة، إذ يسجَّل سنويًّا قتل 2,6 مليون من الطيور”. وينتقد غصن “ما يجري من ترويج كثيف لظاهرة الصيد على مواقع التواصل الاجتماعيّ ما يشكّل مادةً دعائيّةً تشجّع المواطنين على الصيد حيث لا حسيب ولا رقيب، ولا من يراعي القوانين الملزمة للصيد وأشكاله وأوقاته وعلى هذا النوع من التحريض الدعائيّ”.
غصن: بسبب الصيد الجائر يسجَّل سنويًّا قتل 2,6 مليون من الطيور
من الأسباب أيضًا، “استخدام أسلحة صيد مختلفة تراوح بين خفيفةٍ ومتوسّطةٍ وثقيلةٍ ما يسمح بقتل الطيور الكبيرة. كذلك اعتداء المواطنين على الأحراج والأشجار من خلال قطعها وحرمان الطيور من الملاجىء والأعشاش. وأيضًا كثرة استخدام المزارعين للموادّ والمبيدات القاتلة للحشرات والطيور على حدّ سواء”.
كيف نعيد الطيور؟
يطرح الخبير البيئي غصن عددًا من الإجراءات “من أجل تأمين البيئة الآمنة للطيور، والتي تسهم بدورها في عودتها بعد أن غادرتنا لعدم حصولها على الأمن والأمان. يقول: “إنّ أهمّ هذه الإجراءات الامتناع عن صيد الطيور بأشكالها وأنواعها جميعها، ويتحقّق هذا من خلال الرقابة الرسميّة وتطبيق القانون الخاصّ بهذه الجرائم. وإطلاق حملات توعيةٍ بيئيّةٍ إن في الأنشطة الاجتماعيّة أو عبر استحداث مادّة التربية البيئيّة وتعميمها في المناهج المدرسيّة والتربويّة”.
إلى جانب ذلك “يجب التشجيع على الزراعة العضويّة لمنع استخدام الموادّ الزراعيّة المسمّمة للطيور. ثمّ منع قطع أشجار الغابات وأشجار البساتين والعمل على إطلاق حملة تشجيرٍ تشمل جميع المناطق، مع إيجاد محميّات طبيعيّة وشجريّة، إذ إنّها تشكّل الموطن والفضاء الآمنين للطيور على نحو ما هو حاصل في شمال لبنان وبعض المناطق الأخرى.”
هذه الإجراءت، وبحسب غصن، “ليست من المستحيلات، بل إنّ وجودها من الأمور البديهيّة الخاصّة بالحفاظ على التوازن البيئيّ، والكلّ، من معنيّين ومواطنين، يدركها تمامًا ولكنّه يرفض تطبيقها أو يهملها، علمًا أنّها من أولى أولويّات حياته كونها تتعلّق بوجوده.”
ويختم الخبير البيئيّ مصطفى غصن بإطلاق مناشدةٍ بيئيّةٍ لوزارة الزراعة وللمواطنين في البقاع، “بوجوب إيلاء الجانب البيئيّ الأولويّة القصوى، لا سيّما وأنّ منطقتنا تتّجه نحو التصحّر، وعلامات ذلك بدأت بجفاف بعض مصادر المياه والآبار الارتوازيّة وهجرة عديد من أنواع الطيور البلديّة والمحلّيّة عن المنطقة، وهو مؤشّر ينذر بكارثةٍ حياتيّةٍ إن لم نتداركها كي لا يصبح المواطن البقاعيّ قاتلًا ومقتولًا في آنٍ واحد”.
الصيد أيام زمان
يتذكّر المواطن علي حميّة (67 عامًا) أيّام صغره، كيف كانت الطيور تملأ سماء منطقته في غربيّ بعلبك “حيث كنّا نلاحقها على أشجار الحوْر التي كانت مفضّلةً لدى عصافير الدوري والشحارير وذلك بهدف اصطيادها حيّةً لأنّنا كنّا نتمتّع بحملها واللّعِب معها…”
وبحسب ما يشير حميّة لِـ “مناطق نت” فإنّه مع أقرانه كانوا يرصدون في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) من كلّ عامٍ مرور الطيور المهاجرة عبر سماء البقاع إلى مناطق دافئةٍ فيتمتّعون بجمالها وأشكالها وتشكيلها لوحاتٍ هندسيةً في السماء دون أن يفكّروا بالتعرّض لها “بخلاف ما يحصل اليوم من قتلٍ متعمّد وبمختلف أنواع الأسلحة، لجميع الطيور، ليس بهدف تناولها كوجبة طعامٍ إنّما بنزعةٍ عدائيّةٍ للطبيعة والانتقام من أجمل عنصر فيها.

سلاحنا “أمّ حبّة” والشباك
أقوى سلاحٍ لصيد الطيور، في الماضي، كانت بارودة “أمّ حبّة” التي “بالكاد كانت تقتل عصفورًا، وكنّا نستخدمها لصيد العصافير الصغيرة، لكن بأعدادٍ قليلةٍ جدًّا لأنّ غرضنا من ذلك كان توفير وجبة طعامٍ حين كانت اللحوم الأخرى مرتفعة الثمن، والإمساك ببعض الطيور عن طريق قنصها إذ غالبًا ما كانت تبقى على قيد الحياة.”
ويؤكّد حمية أنّ “نصْب الشّبَاك لصيد الطيور، لا سيّما طير الحجل والحسّون، في الأماكن الغنيّة بالماء كالينابيع الصغيرة والجداول، هو أقصى ما كنّا نتعامل به مع الطيور. فأمّ حبّة والشباك اليدويّ البدائيّ كانا سلاحنا ‘الثقيل‘ نستخدمهما برفقٍ، فغايتنا ليست القتل أو الرغبة بتشويه الطبيعة، بل كانت نوعًا من ألعابنا القديمة التي على براءتها ومحدوديّة أثرها السلبيّ نندم على فعلها ونرفضها اليوم، بعد أن أصبح صيد الطيور فعلًا إجراميًّا من قبل الإنسان الذي من المفترض أن يكون رحيمًا بهذه المخلوقات البريئة التي وهبنا إيّاها الله لتشكّل لنا بيئةً وجوديّةً في حياتنا”.