سنتان من التهجير: ماذا يقول الجنوبيون عن العودة والحياة المعلّقة؟

عامان من النزوح القسريّ، وما زال أبناء القرى الحدوديّة يعيشون انتظارًا طويلًا بين حنين إلى الأرض المدمّرة وواقع التهجير المؤلم. تلك القرى التي غدت أطلالًا صامتة، وحده الركام يروي حكايات أهلها الموزّعين بين البلدات المجاورة والمدن القريبة والبعيدة، يعيشون يوميّاتهم مع ذاكرة الحرب، محمّلين بأسئلة تنتظر كثيرًا من الأجوبة: متى نعود؟ ومن يعيد بناء ما تهدّم؟ وكيف سنكمل حياتنا؟
بين البيوت التي سوّيت بالأرض، والممتلكات التي ضاعت، والقرى التي ما زالت تحت التهديد أو المنع من العودة، تتشكّل حكايات النزوح الطويلة التي لا تشبه نزوحًا آخر، نزوحًا لا يقتصر على الجغرافيا وحسب، بل امتدّ إلى الروح والانتماء وربّما أبعد من ذلك.
أبناء الضهيرة ممنوعون من العودة
“مناطق نت”، وبعد عامين على النزوح استطلعت أحوال عدد من أهالي وسكّان هذه البلدات، ووقفت على معاناتهم، هواجسهم وأحلامهم المؤجّلة.
أبو سمرة: نحنا ولاد الدولة، ولادنا أكترهن عسكر، وما في أحزاب، وخلاصنا بدولة قويّة تحمينا تحت عباءتها
يروي جمال أبو سمرة ابن بلدة الضهيرة التي تعرّضت إلى تدمير كلّيّ ومنع أبناؤها من العودة إليها وإعادة تعميرها “نزحنا قسرًا كبقية أهالي البلدة قبل سنتين، خسرت كلّ شيء، جميع أملاكي”. يتابع أبو سمرة لـ “مناطق نت”: “نعيش في بيت مستأجر ولن أتحدّث عن الاستغلال الحاصل في هذا الأمر، ولكن يعزّ عليّ تسميتنا بالمهجّرين والنازحين والتعامل معنا في الوطن الواحد والقضاء الواحد على أنّنا من كوكب مختلف، بعد أن كنّا نعيش من أراضينا في بلدتنا، باكتفاء ذاتيّ”.
يضيف أبو سمرة بحسرة “الفقير في بلدتي يملك 10 دونمات من الأراضي، واليوم جميعنا ممنوعون من العودة إلى بلدتنا، غالبية الناس استأجروا بيوتًا ويبحثون عن عمل موقّت، وبعض أهالي الضهيرة ما زالوا في مراكز إيواء قضاء صور، هذا الواقع جعلنا نفقد كلّ مقوّمات الحياة، والمساعدات غائبة تمامًا”.
“نحنا ولاد الدولة، ولادنا أكترهن عسكر، وما في أحزاب، وخلاصنا بدولة قويّة تحمينا تحت عباءتها، ترجّعنا ع بيوتنا لنعمّرها، بس لهلّق ما حدا سألان عنّا” يختم أبو سمرة.
ما فرّقته الحرب والنزوح جمعه “الواتس أب”، هذا هو حال أبناء الضهيرة الذين أنشأوا مجموعات على تطبيق “الواتس أب” يتواصلون من خلاله ويتناقلون الأخبار، يحوّلون المآسي إلى صفعات باردة. على إحدى المجموعات، يسخر أبناء البلدة من واقعهم المرّ فيقول أحدهم لجاره: “شو رأيك تبدّل بيتك المدمّر ببيتي صار موقع استراتيجيّ ومكشوف من كلّ الميلات؟” وأخرى تقول: “بعطيكن بيتي المدمّر بتعطوني شقفة أرض؟” وتضيف: “بلّشو فكروا شو بدنا نعمل بالشيكات والتعويضات”.
عديسة: كرامة العيش بين الركام
لم تحتمل ابنة بلدة عديسة جمانة بعلبكي معاناة النزوح، فآثرت العودة إلى بلدتها المدمّرة والعيش بين الركام. تقول لـ “مناطق نت”: “عشت نازحة في بيروت أترقّب العودة في كلّ يوم إلى بلدتي المدمّرة التي لم يعد إليها حتّى الآن سوى 17 عائلة ضاقت بها سبل العيش، فارتضت العودة والإقامة لو بغرفة وبدون أدنى مقوّمات الحياة، فقط لتحفظ كرامتها وأنا منها”.

وتضيف: “توفّيت والدتي في الحرب، واليوم أعيش مع كلبي في بلدة مدمّرة، لكن على الرغم من ذلك أشعر بالأمان والاستقرار أكثر من أيّ مكان آخر، ففي الأقلّ هنا بيت أهلي”. تتابع: “الطفل الصغير يحتمي بحضن والدته، أمّي توفّيت من الحزن، ولم يعد لي حضن غير بيت أهلي المدمّر، أعيش في غرفة بين الردم، وأبحث يوميًّا عن قطعة قماش أو صورة أو أيّ شيء من رائحة والدييّ”.
عن كيفية تأمين مستلزمات الحياة تقول جمانة إنّها قامت بصيانة بعض الأضرار واشترت ألواحًا جديدة للطاقة الشمسيّة. مشيرة إلى أنّه “يتمّ تأمين بعض المياه مرّتين في الشهر للعائدين إلى البلدة”. تضيف: “لا أعمل وليس لديّ مال، الله باعت حناين، اللي طالع واللي نازل بجبلي معه اللّي الله بيبعته، وهذا أشرف من عيشة الذلّ، فمن أين أدفع إيجار بيت؟”.
تختم جمانة: “نريد الأمان فقط، وأن نعود جميعًا إلى حياتنا، الجميع هنا تعبوا، سبل العيش هنا انقطعت نهائيًّا، فلا ناس ولا أهالي ولا دكاكين ولا أراض للزراعة ولا بيوت ولا بنى تحتيّة، كلّ ما نريده هو أن تعود الحياة إلى عديسة”.
عيترون: خوف من حزام عازل
“تساوت عيترون بالمآسي مع جاراتها من البلدات المحيطة، اليوم ابن الجنوب خائف من أن تتحوّل القرى الأماميّة إلى منطقة عازلة، وأن تبقى النقاط الستّ مستباحة للاسرائيليّ الذي أصبح يسرح ويمرح دخولًا وخروجًا من وإلى أراضينا”. هذا ما قاله ابن بلدة عيترون الدكتور أحمد مراد لـ “مناطق نت” وأضاف: “في عيترون 60 في المئة من الأراضي الزراعيّة ممنوع وصول أصحابها إليها، والاستهدافات مستمرّة، وبذلك أقول إنّ الوضع صعب جدًّا على الناس هنا، فمعظمهم استهلك مدّخراته خلال السنتين الماضيتين، ولم يعد يملك الجنوبيّ سوى كرامته وإيمانه، حتّى إنّه ما عاد يسأل عن صحّته ولو مجّانًا، فالعائدون اليوم يسعون فقط إلى تأمين قوت يومهم وهذا ما لمسته كطبيب”.
مراد: للخروج من المأزق الذي نعيشه، المطلوب أن يتمّ التكيُّف مع ابن الجنوب بعيدًا عن الايديولوجيا، وأن يتوحّد اللبنانيّون لاستعادة الدولة
يضيف الطبيب مراد: “يسعى معظم الناس إلى العودة، وبناء ما تيسّر أو استئجار مأوى قرب عيترون بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة بسبب ارتفاع الإيجارات المتزامن مع وقف أيّ نوع من أنواع المساعدات، وتوقّف عجلة الحياة في المنطقة، كلّ ما ذكرته جعل المواطن منكوبًا نفسيًّا يبحث عن مستحقّاته اليوميّة، يعيش حال ترقّب، مجهّزًا حقيبة ثيابه خوفًا من اندلاع الحرب في أيّ لحظة”.
يتابع: “للخروج من المأزق الذي نعيشه، المطلوب أن يتمّ التكيُّف مع ابن الجنوب بعيدًا عن الايديولوجيا، وأن يتوحّد اللبنانيّون لاستعادة الدولة، واحترامها ومن ثمّ الولوج إلى حضن عربيّ في الأقلّ يكون لنا فيه فرصة أكثر من الاعتماد على إيران، لنستطيع حينها أن نطالب المجتمع الدوليّ القيام بدوره”.
ويختم مراد: “مصلحة لبنان لن تتحقّق بغير دولة قويّة بمؤسّساتها وبشعب موحّد يحترم الدستور والقوانين ولا يستعمل السلاح بوجه أخيه المواطن”.
مارون الراس: ذاكرة بين الأنقاض
استأجر المربّي حسين علويّة ابن بلدة مارون الراس المنكوبة والمدمّرة، بيتًا في بنت جبيل، كي يستطيع الذهاب إلى بلدته وزيارة منزله المدمّر والجلوس على انقاضه. يمضي علويّة نهاره ويعود أدراجه إلى بنت جبيل مع حلول المساء.
يقول علويّة لـ “مناطق نت”: “حاولت أن أعود إلى مارون، ووضعت بيتًا جاهزًا على أنقاض منزلي، لكن سرعان ما قصفته إسرائيل، ما أعيشه اليوم هو إصرار على العودة إلى بلدتي، أحاول أن أزرع نواة لعودة الناس، ولكن أخشى أنّ الطريق طويلة لتحقيق ذلك، والوضع أصعب ويزداد سوءًا، فعمليّة الإذلال تتزايد عبر فرض شروط حتّى على قطاف الزيتون، من خلال أذونات ومواكبة من الجيش واليونيفيل، ليصل المزارع إلى أرضه”. يتابع علويّة “على الرغم من ذلك، سهل مارون على سبيل المثال ممنوع الوصول إليه، وأهل مارون المقيمون قبل تدميرها تعتمد حياتهم على زراعة السهل، وهذا يؤكّد أنّ هذه الإجراءات هي من ضمن خطّة لاستبعاد الناس”.
منال غريب: ما نعيشه اليوم شبيه بالاحتلال القديم لناحية التراخيص والأذونات للوصول إلى إرضنا إذا سمح لنا بذلك
يضيف: “يوميًّا تلقي إسرائيل على البلدة قنابل صوتيّة، والدولة للأسف نسيت القرى الأماميّة، ورسالتي لها على جميع مستوياتها، أنّنا عندما ارتضينا أن تكون هي صاحبة القرار، فلتتفضّل لحمايتنا وحفظ كرامتنا وإعادة تعمير بيوتنا وعودة أهالينا الذين تعبوا من الإيجارات التي أثقلت كاهلهم”.
يعتبر علوية أنّ التهجير الحاليّ خطر جدًا على الروابط الاجتماعيّة، “فالمقيمون قبل الحرب في مارون هم من كانوا يجمعون المقيمين خارجها والمغتربين في حضن البلدة، أمّا بعد أن تقطّعت أوصالهم لم تعد حتّى المناسبات خارج البلدة تجمعهم لضيق الحال والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة، والتشتّت بين صور والنبطية وبيروت وغيرها، وبالتالي هذا يشكّل خطرًا على الذاكرة الجماعيّة والعلاقات الإنسانيّة”.
طير حرفا: معاناة بانتظار العودة
عندما حاول أهالي طير حرفا الرجوع إلى بيوت جاهزة قصفتها إسرائيل، في رسالة واضحة لمنعهم من العودة. ابنة البلدة منال غريب تكافح مع زوجها وعائلتها لتأمين لقمة عيش كريمة واستئجار منزل في قضاء صور، تقول: “جميع أبناء بلدتي شُرّدوا، يقاومون البقاء في أوضاع جدًّا قاسية، بدون أيّ تعويضات أو مساعدات، إلّا أنّهم متمسّكون بأرضهم، ينتظرون السماح لهم بالعودة وبناء بلدتهم المدمّرة”.
تتابع لـ “مناطق نت”: “نحن متمسّكون بجذورنا، والتضحيات التي قدّمناها كي نعود ونعيش بكرامتنا لا أن نعيش تحت ظلم الاحتلال. وما نعيشه اليوم شبيه بالاحتلال القديم لناحية التراخيص والأذونات للوصول إلى إرضنا إذا سمح لنا بذلك، والأصعب ما نشعر به كجنوبيّين مبعدين من حضن الوطن، فالبعض نسي أنّنا لبنانيّون وأنّنا جزء لا يتجزّأ من هذا الوطن، ولذلك أطالب الدولة أن تنظر إلى أبناء الجنوب وشعب الجنوب وتقوم بواجبها تجاههم”.
عودة خجولة إلى حولا…
حولا التي عاد إليها 12 في المئة من سكّانها، يتوزّعون بين من وجد بيته فعمل على إصلاحه، ومن تعرّض بيته لدمار جزئيّ فأصلح ما تيسّر، ومن لم يجد بيته فاستأجر غرفة أو بيتًا، وهناك من نزحوا إلى أماكن متفرّقة في بيروت والجنوب، واستقرّوا مع بداية العام الدراسيّ في أماكنهم حيث يعملون، هذه الفئة تصارع للحصول على عمل لتغطية كلف الحياة والإيجارات بعد أن توقّفت كلّ أنواع المساعدات.
أثر النزوح النفسيّ والاجتماعيّ
تقول ابنة حولا رنا غنوي، المتخصّصة في مجال الحماية الأسريّة والدعم النفسيّ: “العائدون يعيشون بما تيسّر، فالمقوّمات الحياتيّة الأساسيّة من مياه وكهرباء مفقودة تمامًا، إذ يتمّ شراء المياه عبر الصهاريج، والكهرباء من لديه طاقة شمسيّة، وقد قام بعضهم بفتح بعض دكاكين ومتاجر لتيسير الحياة اليوميّة”.

عن أثر النزوح على النسيج الاجتماعيّ والهويّة، وكيف تغيّر المجتمع بعد سنتين من التشرّد؟ تضيف غنوي “كإختصاصّية ومن خلال مشاهداتي، غالبيّة الناس تعاني من عوارض ما بعد الصدمة، ومع توالي الصدمات يصبح لدى الإنسان تواطؤ نفسيّ وجسديّ مع هذه العوارض، كحال اليأس العام التي ترافق الناس، والتي تتمثّل برفض مفهوم الفرح والاستغناء عنه، فلا يجتمعون حين تتمّ دعوتهم إلى نشاطات ترفيهيّة أو الأفراح والمناسبات السعيدة، بل على العكس أصبحوا ينتظرون المجالس الحزينة كي يتلاقوا”.
وتتابع: “من باب الخطر الكبير استعمال كلمات تصنيفيّة للتعريف بأهالي الجنوب كشتات ومهجّرين ونازحين، هذا التصنيف خلقناه كشعب ورسّخناه وهو مؤذ ويفرّق ويسلخ عن ابن الجنوب انتماءه الوطنيّ وهويّته اللبنانيّة”.
وعود معلّقة
بين ذكريات القصف وحنين العودة، سنتان من النزوح لم تُطفئا شعلة الانتماء، بل زادتا الإصرار على الرجوع إلى أرضٍ لا تشبهها أرض، ولا يُعوّضها مكان. مع ذلك، تبقى الوعود معلّقة.
يبقى السؤال مؤلمًا ومفتوحًا على الاحتمالات: هل ستتحوّل القرى المدمّرة إلى ذاكرةٍ أبديّة للفقدان؟ أم أنّ لها، ولأهلها، قيامةً جديدة تُعيد الحياة إلى الجنوب الجريح؟
لا يختلف واقع أبناء سائر القرى والبلدات الحدوديّة عمّا سبقت الإشارة إليه، فمن الناقورة إلى علما الشعب، مرورًا بعيتا الشعب والجبّين ويارون وبليدا والبستان ومروحين وغيرها من القرى، تتشابه الوجوه المتعبة والقصص الموجعة والمشهد واحد: منازل مهدّمة، أراضٍ مهجورة، وأصحاب البيوت والأرزاق ينتظرون بصبر عودة ما زالت مؤجَّلة .